q
نحن في العراق كنا الأكثر اندكاكا بقضية فلسطين دون غيرنا من العرب والمسلمين، عشرات السنين والمزاج السياسي النخبوي والشعبي يتحرك في أفق تلك القضيَّة، مستحضرا السبي البابلي لليهود بانتشاء وفخر، القوميون والوطنيون العراقيون جعلوا قضية فلسطين (صدقا أو متاجرة) قضيتهم الأولى، وربطوا مصير العراق بمصير فلسطين...

ثلاثة اتجاهات تقاسمت الموقف من القضيَّة الفلسطينيَّة، الأول الاتجاه الوطني والثاني الاتجاه القومي والثالث الاتجاه الديني، رسميا انتهت أغلب الحكومات والدول العربيَّة والإسلاميَّة إلى التعامل مع قضية فلسطين بوصفها مشكلة وأزمة ثنائية، ينبغي أن تترك للفلسطينيين أنفسهم، فهم أصحاب الشأن والمصلحة والمصير، وما مسؤولية الآخرين سوى المساندة والدعم ما أمكنهم الدعم والمساندة لدواع إنسانيَّة أو جيوستراتيجيَّة.

بصعود الاتجاه الاسلامي ودخول الجمهورية الإسلاميَّة على خط القضيَّة الفلسطينيَّة، ارتفع الصوت الرافض للحلول السياسية، بدون أن تقدم القوى الإسلاميَّة مجتمعة رؤية سياسية للحل، بل رؤية عقائدية تتضمن التاكيد على أن فلسطين أرض إسلاميَّة، ولا بد من تحريرها والصلاة في القدس، وفق برنامج جهادي تعبوي، أما كيف؟ ومتى؟ وما هو البرنامج السياسي الذي يُقنع كل الفلسطينيين والعرب والمسلمين والعالم بهذا الحل، فذلك لم يُجب عنه تفصيلا حتى الساعة، وصار التثقيف يعتمد مقولة التكليف والواجب الشرعي، أما مستلزماته ومقتضياته، فبقي مسكوتا عنه أو مغلفا بالرؤية الدينية فحسب، دونما تعضيد برؤية سياسية معقولة قابلة للترويج والإقناع، بل العكس كان صحيحا (إزالة إسرائيل من الوجود ) والشعار الضمني هو أن الحرب من أجل تحرير فلسطين، هي حرب وجود لا حرب حدود، وأن هوية الصراع هي هويَّة إسلاميَّة دينيَّة، والحل الأخير يكون بسلطة إسلاميَّة على أرض فلسطين وعودة المستوطنين اليهود من حيث أتوا، ومن يريد العيش منهم في فلسطين فله أن يقبل المواطنة بشروطها تحت السلطة الإسلاميَّة!.

مقابل ذلك رفع اليهود الصهاينة مفهوم الأمن والدفاع عن وجودهم إلى مستوى الضرورة الدينية الحضارية المنتزعة من (العقل الأخلاقي!) الغربي.

صرنا أمام رؤية دينية إسلاميَّة تقابل رؤية دينية (يهودية مسيحية) متبناة من التيار الأغلب من المسيحيين الصهاينة، وليس كل المسيحيين أو اليهود.

وهذا ما يفسر اندفاع معظم الغربيين غير المشروط لتأييد عدوانية إسرائيل دون أن يشعروا بتناقض إنسانيتهم وشعاراتهم، مع الإبادة التي تحصل في غزة.

هذه الرؤى الآنفة، لها مناصروها بدرجات متفاوتة، بحسب اتجاهات الشارعين العربي والإسلامي ولا تزال محل نقاش وجدل كلما جد الجد على جزء من فلسطين التاريخية وما جاورها، ذهب دهاة المشروع الصهيوني إلى العمل المكثف، لتثبيت مستقبل الدولة اليهوديَّة والدفاع عنها باسلوب التفوق العلمي والعسكري والاستخباري والاقتصادي وتحويل الحلم إلى نموذج مغري، ومنع أي مشروع مضاد عبر آليتي الإجهاض والتدمير، مثلما حدث في أكثر من دولة عربية أو إسلاميَّة ، تدمير امكانات مصر والعراق وسوريا وإيران وتحويل الموقف الدولي إلى معركة أخلاقية كبيرة للدفاع عن وجود إسرائيل وحقها في العيش بسلام!.

نحن في العراق كنا الأكثر اندكاكا بقضية فلسطين دون غيرنا من العرب والمسلمين، عشرات السنين والمزاج السياسي النخبوي والشعبي يتحرك في أفق تلك القضيَّة، مستحضرا السبي البابلي لليهود بانتشاء وفخر، القوميون والوطنيون العراقيون جعلوا قضية فلسطين (صدقا أو متاجرة) قضيتهم الأولى، وربطوا مصير العراق بمصير فلسطين، الاسلاميون من السنة والشيعة، يصرخون ليل نهار بالتعبئة لصالح معركة المقدسات في فلسطين، في كل معركة وانتفاضة أو حرب يجد العراقيون انفسهم صدى لواجبهم الشرعي والديني وتكليفهم السياسي؟

وفي كل هذه المعارك تحضر الانفعالات والعواطف وتتحرك المشاعر الغاضبة وتنفلت المواقف، دونما حساب للغد وللجدوى العملية التي تفيد الفلسطيني وقضيته العادلة، في حرب غزة الدائرة حاليا بمشاهدها المهولة، يتسابق عراقيون كثر إلى الموت، اعتقادًا منهم بأن هذه الحرب هي الأخيرة، وأن ابواب المواجهة الشاملة قد فتحت، فذهبوا إلى المجازفة بكل شيء تحت ضغط الغضب من عدوانية وقسوة وصلافة ووقاحة كيان الاحتلال وداعميه الغربيين.

يحق للعراقيين أن يتضامنوا مع اشقائهم في فلسطين، وان يساندوهم بكل ما يستطيعون، لكن المعركة طويلة ومضاعفاتها خطيرة، فقد خسر العراق كثيرا بسبب مواقفه من قضية فلسطين، تدمير العراق كان على خلفية الخوف من مشروع دولة ينهض في المنطقة، أفضل من يدمر الشعوب والبلدان وامكانات نهضتها (التي هي شرط المواجهة العملية للمشروع الصهيوني)، هم الحكام المستبدون والسياسات المتهورة والمواقف الانفعالية غير المدروسة، حصل ذلك في العراق وانتهى الأمر به إلى دولة تلعق جراحها، وتحاول الوقوف على أقدامها بصعوبة بالغة، دخول الحرب جزئيا أو كليا، ليس استجابة عاطفية وتنفيسا لاحتقان أو تسابقا في المواقف بين تيارات متنافسة، يبحث كل تيار أو فصيل منها عمّا يسجل به موقفا يحرج الاخرين ويفضح سياساتهم ونواياهم، العراق القوي المستقر الناهض هو الدعم المجدي والمؤثر سياسيا وامنيا ودبلوماسيا وماليا لصالح قضية فلسطين، استقرار العراق ينبغي أن يكون هدفًا من أهداف المعركة الراهنة، فاتساع نطاق الحرب وشيوع الفوضى السياسية والانهيارات الاقتصادية وتزايد اعداد النازحين والفقراء سيصبح رغبة وهدفًا اسرائيليًّا على المدى القريب، استغلالا للدعم الغربي غير المسبوق، وضرب العراق استباقيا هدف غير مستبعد في جميع ستراتيجيَّات الحرب الإسرائيليَّة.

.....................................................................................................
* الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق