q
الحال الذي نتحدث عنه ينقلنا من حكم القانون الذي يطبق على الجميع، إلى استخدام القانون كجزء من عملية الصراع على مراكز القوة في العراق، لا يكون الحكم للقانون، يتحول القانون من قاعدة عامة وثابتة تطبق على الجميع إلى أداة تستخدم من قبل الأطراف المتنازعة داخل إطار الدولة المشوهة، والأقوى يستطيع توظيف الحجج القانونية لصالحه، أما الأضعف فلا يمكنه فعل ذلك إطلاقاً...

أواخر شهر حزيران الماضي اقتحم متظاهرون مقر السفارة السويدية في بغداد، بسبب سماح المملكة السويدية لعراقي مقيم على أراضيها بحرق نسخة من القرآن الكريم، وقد لاقى حادث الاقتحام تشجيعاً من زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر، بينما رفع المقتحمون صور الصدر، وشعارات أخرى مثل: "دستورنا القرآن وقائدنا الصدر"، وصرح غالبية المتظاهرين بأن مشاركتهم جاءت نصرة للقرآن وطاعة لزعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر.

انتهت أحداث التظاهرة بشيء من الانزعاج الحكومي غير المعلن، لكن الحكومة نفسها بقيت تشدد على تأييدها لخطوات زعيم التيار الصدري وتظاهرات أتباعه نصرة للقرآن الكريم، فيما ضجت موقع تويتر بحملات الإشادة بما قام به أنصار التيار الصدري وزعيمهم ولا سيما اقتحام السفارة السويدية.

بعد أسابيع انتهت تقريباً الضجة التي أحدثها حرق القرآن الكريم، واستجابت مملكة السويد لطلب العراق باستجواب سلون موميكا قائد حملة حرق المصحف الشريف في أكثر من مرة، لكننا نتفاجأ بصدور حكم قضائي بحق 18 عنصر أمن عراقي من حراس السفارة السويدية في بغداد، إذ صدرت أحكام بالسجن لمدد تتراوح بين 18 شهراً وثلاث سنوات لأفراد حماية السفارة يوم الثلاثاء 12 أيلول 2023.

وبحسب تقرير لوكالة رويترز فقد أدين حراس الأمن "لامتناعهم عن القيام بواجباتهم الموكلة إليهم في حماية السفارة السويدية ومنع الأشخاص الذين اقتحموها وحرقها كونه من ضمن الواجبات الأساسية المناطة إليهم"، وتنقل الوكالة عن مصدر حكومي قوله إن الحكم يظهر التزام الدولة العراقية بمحاسبة الأشخاص الذين ارتكبوا أعمال العنف.

الاستعانة بالأقوى

فوراً وبعد صدور الحكم تقدم أهالي المدانين بشكوى لا تخلو من دلالة عميقة على طبيعة النظام السياسي العراقي، فالشكوى لم تقدم للقضاء العراقي، إنما إلى زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر، يعبرون فيها عن مظلومية أبنائهم، ولسان حالهم وحال الشارع العراقي يقول: لو قاموا بواجبهم وواجهوا المتظاهرين الغاضبين فقد يسقط ضحايا، حينها يتعرض نفس عناصر الأمن إلى السجن المؤبد وربما الإعدام، لأنهم قتلوا المتظاهرين.

فعناصر الأمن اليوم لا يملكون حق "احتكار العنف" كما تشترط قواعد الدولة الحديثة، بل هم جزء من فاعلين آخرين تعادل قوتهم قوة الشرطة الرسمية، وربما أقوى، وتطبيق القانون بشكله المثالي يعني فناء جميع القوى المسلحة الموازية للدولة العراقية، ولأن الشرطة يعرفون معادلة القوة في العراق وقعوا في حيرة.

أصبح الشرطة لا ينفذون القانون لكونه واجب التطبيق، يطبقونه وفق معادلات القوة في الساحة العراقية، فتجد موقفهم متناقضاً، مرة يطبقون القانون ضد شخص معين، ويمتنعون عن تطبيقه ضد شخص آخر قام بنفس الفعل الممنوع قانونياً.

الحال الذي نتحدث عنه ينقلنا من حكم القانون الذي يطبق على الجميع، إلى استخدام القانون كجزء من عملية الصراع على مراكز القوة في العراق، لا يكون الحكم للقانون، يتحول القانون من قاعدة عامة وثابتة تطبق على الجميع إلى أداة تستخدم من قبل الأطراف المتنازعة داخل إطار الدولة المشوهة، والأقوى يستطيع توظيف الحجج القانونية لصالحه، أما الأضعف فلا يمكنه فعل ذلك إطلاقاً، بمنعنى أن موقفاً معيناً ممنوع قانونياً، يمكن غض النظر عنه لأن فاعله قوي، بينما يطبق بحذافيره إذا كان فاعله ضعيفاً ولا يملك جماعة متنفذة تدافع عنه.

ونتيجة لهذا الواقع تسمع من الشعب العراقي عبارة مشهورة: "القانون بس على الفقير"، والمقصود بالفقير، هو الشخص الذي لا يملك مصادر قوة تحميه من محاولات خصومه لاستخدام قوة القانون ضده.

ولو عدنا إلى قضية اقتحام السفارة السويدية، نجد أن الحكم على قوات الأمن بحجة سماحهم للمتظاهرين باقتحام السفارة السويدية، يعني بشكل طبيعي أنهم سمحوا لأشخاص بالقيام بفعل ممنوع قانونياً، مثلاً لو كان فعل السرقة ممنوع وسمح الشرطي بالسرقة، يفترض وفق قواعد العدالة محاسبة الشرطي أولاً، ومحاسبة السارق أيضاً، لأن السماح بالسرق لا يعني إباحة السرقة نفسها وإعفاء السارق من العقوبة.

وعلى هذا المنطق فمحاكمة قوات الأمن لكونهم سمحوا بدخول المتظاهرين إلى السفارة السويدية، يعني منطقياً إدانة جميع المتظاهرين الذين خرقوا القانون وتظاهروا داخل سفارة دولة ذات سيادة.

كما أن المحاكمة يفترض منطقياً أن تشمل من حرض المتظاهرين على اقتحام السفارة حتى في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وبأي شكل كان.

أما أن تكون الإدانة لمجموعة صغيرة، عن مخالفة كبيرة اشتركت فيها عدة أطراف، تشير إلى شيء يتكرر دائماً، هناك أطراف قوية استطاعت الإفلات من العقاب، بينما وقعت العقوبة على الأشخاص الأضعف.

نعم، هذا هو منطق القانون في العراق، منطق قائم على القوة، الجميع يستعين بالأقوى وليس بالحق القانوني، جماعات سياسية تستعين بدول الخارج، والأهالي يستعينون بزعماء السياسة لتحقيق العدالة لأبنائهم.

لا أحب وضع خاتمة للمقال، فالقضايا المطروحة فيها لا تساوي شيئاً أمام القصص التي يملكها كل قارئ عن حجم السيولة في القانون العراقي، وكيف يحكم شخص في الإعدام لقيامه بفعل معين، بينما يبقى شخص آخر قام بنفس الفعل حراً طليقاً رغم استحقاقه نفس المخالفة.

اضف تعليق