q
يجادل بعض المسؤولين الحكوميين بأن الأجواء باتت أكثر أماناً من حقبة الحرب الطائفية، ولا يمكن للإرهاب أن يتسبب بقتل عدد هائل من الزائرين، وهنا بالتحديد تكمن الخطورة، إذ يأتي العدو دائماً من المناطق الآمنة وغير المحصنة، نحن اليوم نستضيف ملايين الزوار في كربلاء المقدسة سواء من داخل العراق أو خارجه، والحشود المليونية بيئة خصبة لانتشار الشائعات...

في مثل هذه الأيام وتحديداً يوم الأربعاء 31 آب 2005، كانت الحشود المليونية متوجهة صوب الإمام موسى الكاظم عليه السلام لزيارة مرقده الطاهر بذكرى استشهاده، ومن بين الطرق المؤدية إلى مرقد الإمام الكاظم عليه السلام، كان جسر الائمة أحد أكثر الجسور اكتظاظاً بالزوار، تنظيم القاعدة الإرهابي يستهدف الزوار بقذائف الهاون، ويحاول بشتى الطرق ترويع الزائرين أو قتلهم.

ليس هذا ما يغري الجماعات الإرهابية فقط، بل إن جسر الائمة يقع في منطقة حساسة، إذ يربط بين منطقة الكاظمية والأعظمية حيث كانت الحرب الطائفية في بدايات اشتعالها، وبجوار الجسر يوجد مرقد أبو حنيفة النعمان يقصده أبناء المكون السني.

مواصفات مغرية لتنفيذ تفجير إرهابي، لكن القوات الأمنية تمسك المكان بكل ما تملك من عناصر تم تحشيدهم لحفظ الأمن، ودخول عبوة ناسفة أو سيارة مفخخة أو حتى حزام ناسف مهمة صعبة ومجهدة، لماذا لا تجرب الجماعات الإرهابية وعلى رأسها تنظيم القاعدة وسيلة أكثر فعالية وبتكلفة "صفر".

شخص ما يدخل في حشود الزائرين فوق جسر الائمة، ويصرخ بأعلى صوته، احذروا، هناك حزام ناسف، سوف يقتلكم جميعاً، اهربوا، ارموا بأنفسكم إلى نهر دجلة لعلكم تحفظوا أنفسكم.

تصور أن الجسر يقع على ارتفاع شاهق، ويخيف حتى أمهر السباحين، لكن مئات الزائرين قفزوا من فوق الجسر إلى مياه نهر دجلة للهرب من المفجر الإرهابي الوهمي.

قوة الإشاعة

استغل الإرهاب حالة التوتر في تلك الأيام، واستعداد الناس لسماع أخبار عن تفجيرات إرهابية، نتيجة تصاعد عمليات تنظيم القاعدة، فضلاً حساسية المكان وتوقع الناس إمكانية حدوث تفجير فيه لحساسيته الشديدة.

اجتمعت كل العوامل لتنتج لنا بيئة صالحة لإقلاع غير مشروط للإشاعة وتحقيق أهدافها خلال ثوانٍ معدودة.

انتهى يوم الأربعاء 31 آب 2005، بإعلان الجهات الحكومية المختصة استشهاد أكثر من ألف زائر وجرح المئات نتيجة السقوط من أعلى الجسر أو التدافع.

لكي يقتل الإرهاب ألف مواطن يحتاج إلى عشرات الكليوغرامات من مادة الـ"تي أن تي" شديدة الانفجار، وربما من شبه المستحيل قتل هذا العدد من دون استخدام مواد كيميائية، وأخرى تساعد على تسريع عملية الموت مثل النابالم، ورغم ذلك فإن حصيلة أكبر اعتداء إرهابي مسجل في العراق، سجلت لصالح الإعتداء الذي ضرب مجمع الليث في حي الكرادة وسط بغداد أواخر شهر رمضان عام 2016، ورغم كمية التفجيرات الهائلة إلا أن اعتداء الكرادة حصد 350 شهيداً، و250 جريحاً فقط.

في المقابل استطاعت "إشاعة" غير مكلفة بالمعنى الحرفي للكلمة، قتل 1000 مواطني عراقي خلال لحظات.

المقارنة هذه تبين حجم الخطر الذي تمثله الإشاعة، وبمقدار الخطر يجب أن يكون التخطيط، فإذا كانت الحكومة تجتمع على مدار أسابيع من أجل وضع خطة أمنية تحفظ حياة الناس، يفترض أن لا تنسى أبداً السلاح الأكثر فتكاً خلال الزيارات المليونية، وهو "الإشاعة".

ما نلاحظه من إجراءات تجاه الإشاعات ضعيفة ولا ترتقي إلى مستوى الخطر، فهي قائمة بشكل أساسي على توزيع المنشورات الورقية من قبل الشرطة المجتمعية، وبيانات النفي لبعض الإشاعات التي تخص الجهات الحكومية.

وقد يجادل بعض المسؤولين الحكوميين بأن الأجواء باتت أكثر أماناً من حقبة الحرب الطائفية، ولا يمكن للإرهاب أن يتسبب بقتل عدد هائل من الزائرين، وهنا بالتحديد تكمن الخطورة، إذ يأتي العدو دائماً من المناطق الآمنة وغير المحصنة، نحن اليوم نستضيف ملايين الزوار في كربلاء المقدسة سواء من داخل العراق أو خارجه، والحشود المليونية بيئة خصبة لانتشار الشائعات، وعلى الجهات المختصة ان تكون على أهبة الاستعداد لمحاصرة الأجواء الخالقة للإشاعة، ولو حللنا الظروف التي جعلت "إشاعة جسر الائمة" شبيهة بقنبلة نووية تكتيكية لوجدنا حجم الحاجة لتطويق ظروف نشأة الشائعات في كل سنة.

في "إشاعة جسر الائمة" لم يكن الناس ليصدقوها بهذه السرعة لو لم يكن لديهم علم مسبق بتعرض الزائرين لهجمات بقذائف الهاون أطلقها تنظيم القاعدة في مناطق متفرقة من بغداد، ما يعني أن الظرف الأمني غير المستقر وتوتر الأوضاع أسهم بشكل أساسي في استعداد الناس للاستجابة بسرعة لإشاعة أمنية.

ولم يكن الناس ليستجيبوا بهذه السرعة للشائعة لو كانت الأجهزة الأمنية على مستوى عالٍ من الكفاءة بحيث يسمع لها الناس، لكن الزوار كانوا أقل ثقة بالجهاز الامني الذي كان وليداً جديداً.

والأخطر من كل ذلك هو حداثة الاعتداءات الإرهابية في العراق، وخوف الناس الهائل منها ما حفزهم للهروب في كل الاتجاهات بما فيها القفز من أعلى الجسر نحو المياه العميقة.

الخلاصة أن الشائعات تستطيع الطيران لمسافات شاسعة خلال دقائق معدودة، وبينما تستهلك الحقيقة كمية وقود هائلة للوصول إلى عدد محدود من الناس، لا تحتاج الشائعات إلا إلى شخص يطلقها، وآخر يستلمها بعقل بلا أجهزة حماية، لتشتعل حرائق مميتة.

الشائعة طائرة بلا طيار، وقودها ينتشر في الجو المحيط بها، إنها ريشة خفيفة تحملها الظروف غير المستقرة سياسياً وأمنياً إلى جميع الاتجاهات، تحرق اليابس والأخضر خلال دقائق، وفي التجمعات البشرية الكبيرة يصبح عملها أكثر فتكاً، ودورها مدمر يقترب من فعالية القنابل النووية التكتيكية.

اضف تعليق