q
ما يزيد فيه من نخر في الهوية العربية والإسلامية وذلك من خلال الترويج لمفاهيم ظهرت وسادت في عصر ما بعد الحداثة ومنها انغراس المسلم ذاتيا في الارهاب وميوله البدائية نحو الجنس وما يتولد عنه من اضطهاد واستغلال للمرأة بل واضطهاد المكبوت من المشاعر اللاسوية والمرضية في إشكالية الجنس...

يتضمن التعريف التقليدي للسلطة المقترنة بمفهوم الدولة جانبها القانوني والسيادي وماتفرضه من إرادة سياسية نابعة من المصالح العليا للدولة أو المصالح الضيقة للأنظمة الحاكمة، وقد كان توصيف السلطة دكتاتورية أو ديمقراطية أو أرستقراطية أو ثيوقراطية وطبيعة سياساتها وانجازاتها هي الشغل الشاغل للتاريخ وعلوم السياسة بدءا من عصر الإغريق والى عصرنا الحاضر، وكانت ولازالت التقييمات الأساسية للسلطة تتم وفق هذه المعايير الأساسية أيضا في فهم تركيبة وطبيعة السلطة، ولذلك كانت هناك أنواع من السلطات السياسية كل لها أيديولوجياتها وآلياتها وتقنياتها وطرائقها في الحكم وكانت تتمايز أو تتفاضل فيما بينها على مستوى الفعل السياسي والانجاز الاداري وحتى الاجتماعي والقناعات الشعبية والنخبوية بأدائها.

لكن ميشيل فوكو الكاتب والأستاذ الفرنسي والذي يرفض تسميته كاتبا أو فيلسوفا يرى أن السلطة تنزع عن ذات المنزع وتتكون وفق أساليبها الخاصة والذاتية بها، فالسلطة هي ذاتها دكتاتورية أو ديمقراطية ليبرالية أو قمعية، وهو تحول خطير في مفهوم السلطة قد يعكس أزمة إنسانية قبل أن تكون فكرية في هذا العصر الذي لم يعد عصر التقليدي أو المعقول التقليدي، إنها انقلاب على مستوى أسس المفهوم بذاته وليس المفهوم لذاته، مما يدعنا أيضا أمام تحولات خطيرة على مستوى تراكيب العقل البشري المعاصر حين ترتبك مفاهيمه الأساسية لديه وتنخرط أدواته الفكرية في جدل حول ذاتها فكيف يكون الجدل في تطبيقاتها واستنتاجاتها؟

إنها إرباك للعقل البشري بذاته وهو ما صنعته فلسفة أو فلسفات ما بعد الحداثة وكانت واحدة منها بل أشدها تبريرا هي فلسفة وأفكار الفرنسي فوكو.

لقد نظر الى الأفكار ومن ثم العقول بأنها مركبات تطورية صنعتها الأحداث والوقائع، ومن ثم هي قامت بصنع الأحداث والوقائع. ومن هنا اكتسبت تلك الأفكار وبواسطة قدرتها على ذلك الصنع آليات وتقنيات السلطة التي غدت منذ هذه اللحظة تمارس الهيمنة بذاتها فابتكر لها فوكو عنوان المعرفة – السلطة.

وقد وجد أن تفكيك السلطة وآليات عملها وطرائقها يكون بتحليل وتفكيك المعرفة الناشئة عنها تلك السلطة والتي غالبا ما ينتهي التفكيك لدى فوكو بعدمية الأصول التي نشأت عنها تلك المعرفة ومن ثم يسهل إيضاح العدم أو الوهم الذي تنطلق منه أو تنبعث تلك السلطة.

ويبدو لدى فوكو أن المعرفة – السلطة هي السلطة التي تنشأ عنها كل تلك السلطات التي عرفها التاريخ البشري ولازالت تعمل في صنع السلطات في العالم الحاضر شأنها شأن العالم الماضي، وهكذا يمضي فوكو بوضع العالم بإزاء عدمية أصولية ولاشيئية تنطلق منها كل أشياء العالم الذي يظل رهنا بصناعة الأنسان الوجودي وهي ثيمة الفلسفة الأوربية منذ نشأتها وتكونها وتطورها. فالإنسان هو الإله الذي يصنع الأشياء من حوله وعلى العالم أن يستجيب الى إرادته ولكن هذا الإنسان هو الإنسان الأوربي حصرا..

فالتاريخ الذي يعمل فيه فوكو ويستنبط نظرياته منه هو تاريخ أوربا، فالمسألة المطروحة في هذا التاريخ في القرن التاسع عشر هي الفقر لكنها في القرن العشرين هي السلطة، والباعث له على هذا التصنيف وفق قوله هو ظهور الفاشية والستالينية في أوربا في هذا القرن، وفي معرض نفيه أن يكون فيلسوفا أو كاتبا فإنه يصنف شخصه الفكري بأنه يقوم ببحوث تاريخية وسياسية، ورغم إنها تتعلق بتاريخ أوربا السياسي القديم والحديث لكنها أفكار استحوذت على تفكير ما بعد الحداثة لا سيما عند بعض المفكرين والكتاب العرب.

إن السلطة التي تشكل موضوعا أساسيا في بحثه لايتناولها وفق نظريات التكون والنشوء ولكنه يبحث فيها مستويات وآليات العمل في نماذجها وقوانينها الذاتية، وبذلك فهو لا يقدم نظرية في السلطة ولكن عملا فكريا ومعرفيا في تحليل مستويات السلطة أو عناصر هذا التحليل التي أفاد منها الكثير في قراءة تاريخ المعرفة – السلطة والسلطات التي تكونت بسببها أو بجوارها، مما أورث موجة من قراءات التشكيك والنقد في الأصول المعرفية والدينية لاسيما في عالمنا العربي والإسلامي وكانت تحت تأثير قراءة فوكو لتاريخه الأوربي الإغريقي والروماني والتحولات التي شهدتها أوربا في القرن السابع والثامن عشر الميلاديين، لكن فوكو لم يكن يدين تاريخ وتراث أوربا بقدر ما كان يلجأ الى تحليلات هذا التاريخ والتراث ومستوياته العميقة في النشوء والتكون..

بينما إتجهت القراءة العربية والإسلامية الى إدانة التراث والتاريخ العربيين والإسلاميين، مما أدى الى النخر في الهوية العربية والإسلامية وتكلس المفهوم القومي والديني الإسلامي للهوية في مستويات الاحتجاج والرفض المتبادل في النزاعات الفكرية والثقافية التي يشهدها عالمنا العربي والإسلامي، وقد نتجت تلك النزاعات عن ثنائية منشطرة في المجمعات العربية والإسلامية ومنقسمة على ذاتها فكريا وثقافيا بين إدانات صارخة للتاريخ والتراث وبناءات ثقافية وفكرية تستمد مقوماتها من التاريخ والتراث.

لقد كانت التضادات أو الاختلافات الدينية والمذهبية والكلامية والفكرية تدار في الأوساط النخبوية الفكرية والأكاديمية وهي تشتمل على نقد ومعالجة التاريخ والتراث ولكنها تسللت الى الأوساط الجماهيرية والشعبوية وصارت حلقات التضادات بعد ان تحولت إليها الاختلافات تبث على الهواء وبلا ضابط معنوي اجتماعي أو اخلاقي يعكس غياب السلطة التقليدية الأدبية أو السياسية في دولنا ومجتمعاتنا.

لقد شهدت المركزيات الدينية والارستقراطية والاجتماعية وهي مركزيات السلطة في عالمنا تضعضعا وانزياحا شبه كامل عن مواقعها التقليدية التي كانت تمثل السلطة التقليدية الأدبية والمعنوية والسياسية، وكان ذلك على أثر التدخلات الأميركية العسكرية والسياسية وحتى الاقتصادية في عالمنا العربي والإسلامي، وكانت الفوضى هي البديل الجاهز للاستبدال بالسلطة، وكان هذا التقويض الامبريالي - الأميركي المتعمد للسلطة ومن ثم للدولة العربية يرشح في طبقاته غير المعلنة وغير الظاهرة على السطح من خلال اطروحات فوكو وعمله الفكري الدؤوب ولعله غير المقصود والذي ينتج عنه أو نتج عنه تقويض السلطة بذاتها وليس لذاتها فحسب.

لقد تحدث فوكو عن السلطة الانضباطية والسلطة الحيوية وكيفية إعادة إنتاج بعضهما البعض، ولم يقدم مقترحا مباشرا بتقويض السلطة لكن مستويات التحليل لديه حتما تقود الى تقويض السلطة لا سيما في جانبها الأم وهو المعرفة..

لقد استساغت منهجية التفكيك التي اعتمدها العقل الأوربي الحديث أو ما بعد الحديث تفسير وتبرير كل المعطيات والوقائع والأحداث وفق ما تفرضه الظروف التاريخية والاجتماعية والعناصر المادية في الحياة البشرية، وبذلك تحولت الأفكار التي تستند إليها القيم العليا الى ذلك الجانب النسبي والمادي المعتم في تاريخ البشر، وبذلك تكرست نسبية القيم العليا بعد تحليل العناصر والمستويات التي قامت وفقها تلك الأفكار التي جذّرت وأسست للقيم العليا، وهي تستند الى عدمية نيتشه في نشأة الأخلاق وتقسيماته الى أخلاق الإنسان القوي – السوبر مان وأخلاق العبيد وهي أخلاق المسيحية، ومن قنواتها الفرعية والرئيسية في توكيد نسبية القيم العليا النظرية الداروينية الاجتماعية التي تؤمن بالبقاء للأقوى وليس للأصلح فالأصلح هو الأقوى في نظرها وتمدها أيضا نظرية هوبز في ذئبية الإنسان.

وكان عالمنا العربي في مقدمة ضحايا ذلك التأزيم والتقزيم المقصود إمبرياليا للقيم العليا، ومع انزياح الدفاعات القيمية والإنسانية التي كانت تلجأ إليها وتستند مجتمعاتنا في ظروف التحدي الحضاري والثقافي الذي كانت تواجهه في لقاءاتها مع حضارات وثقافات العالم صارت مجتمعاتنا مكشوفة امام غزو على كافة المستويات السياسية والعسكرية والثقافية تمارسه الامبريالية الأميركية وتصنع موجهات الفكر لدينا في لحظة انحطاطنا وتخلفنا من أهوائنا وخلافاتنا العتيقة في دفاتر التراث الأصفر واقعا نخضع له بإرادتنا وبمحض اختيارنا وباستغلال امبريالي بشع يزيد من هوة الانفصال والتمزق بيننا..

وما يزيد فيه من نخر في الهوية العربية والإسلامية وذلك من خلال الترويج لمفاهيم ظهرت وسادت في عصر ما بعد الحداثة ومنها انغراس المسلم ذاتيا في الارهاب وميوله البدائية نحو الجنس وما يتولد عنه من اضطهاد واستغلال للمرأة بل واضطهاد المكبوت من المشاعر اللاسوية والمرضية في إشكالية الجنس الفرويدية، مما دعا الامبريالية الثقافية الى وضع مفهوم النوع الاجتماعي أو الجندر بديلا عن التقسيم التقليدي والسوي للجنس البشري وتسويقها دوليا بل ومن خلال هيئة الأمم المتحدة وإرغام الدول العربية على تبني مفهومها مما وضع هويتنا أمام تساؤلات واشكالات خطيرة عكست حجم المأزق الذي تمر به قيمنا العليا وحجم الفوضى الآخذة بالازدياد أمام أفكارنا وتصوراتنا التي كنا نستمدها من سلطة الدين والقيم العليا الموروثة في عالمنا، وأن محاولة الخلط بينها وبين خطيئات ورزايا السلطة السياسية في عالمنا ظلت قائمة في مغذيات وتحليلات السلطة في الفكر الأوربي الكنسي القديم والامبريالي الحديث، ووفق ما أنتجه فوكو ونيتشه ونظريات التفكيك التي صارت منهلا خصبا للفكر العربي الحديث مع الاشارة طبعا الى ماقدمته تلك النظريات من إمكانيات في فهم تاريخنا وتراثنا.

ولكن مايزيد الطين بلة هو أحكام وتقييمات سلبية وصادمة للذات العربية والإسلامية وفق متبنيات النقد الذي يستند الى مفهوم تقويض السلطة وهنا السلطة - المعرفة ويمارس إصدارها مجموعات تتخذ من مراكز بحوث ودراسات ومواقع تواصل وقنوات تلفزيونية وكلها مدفوعة الثمن وفق مبدأ المكافأة المعمول به حديثا، وهذه المجموعات في حقيقتها تعيش على هوامش متون الفكر العربي الحديث ولم تنخرط اطلاقا في متون هذا الفكر ولم تكن بمستوى رواد الفكر العربي الحديث الذي تعامل مع فوكو ونظريات التفكيك بمستوى من العطاء الفكري المثمر والبنّاء.

وقد شهدنا في السنوات الأخيرة غيابا ملحوظا لهؤلاء الروّاد وانجرارا نحو السطحية الفكرية التي بدت واضحة في مستويات مراكز البحوث والدراسات العربية والتحليلات السياسية غير العلمية بالمرة التي تمتلئ بها شاشات القنوات العربية، وهي مجموعات ظهرت واستباحت مراكز ومواقع الأساتذة والمتخصصين الأكاديميين والسياسيين الفاعلين والقادة غير الشعبويين، وهو جزء من انكفاء وتراجع ذاتنا والقيم العليا في ثقافتنا وهو ماينذر بخطر فوضى اشمل وأعمق من مجرد تقويض السلطة الذي يتضمنه مشروع فوكو ويعمل وفق مخططه التفكير والعمل الامبريالي الغربي والأميركي..

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2023
http://shrsc.com

اضف تعليق