q
خمسة وستون عاما مضت على الإطاحة بالملكية وتأسيس الجمهورية، وما زال الناس في العراق يتجادلون، عما اذا كان انقلاب العسكر بقيادة الزعيم عبدالكريم قاسم ثورة كما ثورات العالمين؟ أم نزوة، فتحت أبواب الجحيم على العراق، قلبت الحكم بمذبحة وحولته إلى لعبة بيد الصبيان والمراهقين وشباب الميليشيات الحزبية، فصاروا يتقاتلون بالشوارع وعيونهم على السلطة...

ربما ينفرد العراقيون كثيرا عن بقية شعوب الأرض في عشق الماضي وكراهية الحاضر ونسيان المستقبل، نادرا ما يحسن العراقيون التفكير بمستقبل بلادهم، إنهم مغرمون بالمفاضلات والمجادلات ومقايسة الحاضر بالماضي، يعيشون على الذاكرة وصورها المنتقاة تجميلا، ليدينوا حاضرهم، دون أن يتعلموا دروس تاريخهم ويتفادوا أخطاءه. حينما تستولي معارك التاريخ والذاكرة الحية على مجمل التفكير السياسي، تضيع امكانية الاستشراف وتستنزف القدرة على رؤية المستقبل بعيون مفتوحة، وعقول مدركة لمكر التاريخ وارتداداته المهلكة.

خمسة وستون عاما مضت على الإطاحة بالملكية وتأسيس الجمهورية، وما زال الناس في العراق يتجادلون، عما اذا كان انقلاب العسكر بقيادة الزعيم عبدالكريم قاسم ثورة كما ثورات العالمين؟ أم نزوة، فتحت أبواب الجحيم على العراق، قلبت الحكم بمذبحة وحولته إلى لعبة بيد الصبيان والمراهقين وشباب الميليشيات الحزبية، فصاروا يتقاتلون بالشوارع وعيونهم على السلطة.

أفدح الخسائر وأكبر الفظائع، التي ارتكبت بحق العراق وأجياله، كانت تحويل الحكم وشرعيته إلى لعبة قوة، أداتها العنف والعنف المضاد، ثم تجد من يسبغ على كل ذلك مسميات وأفعالا جميلة بغواية اللغة وإغراءاتها، فيغدو مشهد الدم فعلا ثوريا ضروريا، ويصير التلاعب بمصير الناس معركة مصير وقفزة إلى أعالي المجد.

65 عاما مضت وما تكاد أسئلة الذكرى تفارق العقل السياسي العراقي، بين مادح وقادح، ومهاجم ومدافع، وصار استذكار يوم 14 تموز 1958 مناسبة للتعبير عن رؤيتين تتصارعان في حاضر العراق.

ترى الرؤية الأولى أن الأنظمة المحافظة والملكية بكل مساوئها وارتهانها للقوى الاستعمارية، أفضل بكثير من الأنظمة التي خلفتها، فلا يمكن بحال مقارنة حكومات العسكر المتصابية - مهما أنجزت من إنجازات وأحدثت من تغييرات، - بالنظام الملكي وحكوماته وسياساته الداخلية والخارجية، بل إن النتائج الكارثية، التي ترتبت على كثير مما عرف بإصلاحات الجمهورية، تثبت أرجحية وأفضلية مسار العهد الملكي، بما فيه من استقرار نسبي وحريات مقبولة، وبناء منطقي لمؤسسات الدولة، مع تسيد نخبة مدينية ارستقراطية وبرجوازية للمشهد السياسي.

كل ذلك سمح للدولة أن تستقر على أساسات مقبولة، رغم عبوب تأسيسية كبيرة، بالمقارنة مع مؤسسات العسكر والأحزاب الأيديولوجية الجديدة، فإن مسار التنمية تشوه هيكليا، ودخلت بلدان الحقبة الجمهورية بمتاهة الصراع السياسي العنيف، وصارت البلدان أدوات في حروب القوى الدولية الباردة والساخنة، وانجرفت السياسات الداخلية إلى عنف واستبداد ودماء وتشريد وتبخرت مداخيل الثروة، وانهارت قيم الانسان بما فيها معاني الوطنية والانتماء.

صراع الرؤيتين تمثيل لصراع الاتجاهات السياسية في عراق اليوم، حيث الامتدادات الجديدة للعقل الثوري السابق ومفاهيمه وانفعالاته وشعاراته، والاتجاهات الموازية الداعية إلى العقلنة السياسية والتروي في المواقف وحساب المصالح بدقة، في عالم ماتت فيه الايديولوجيا وحضرت فيه المصالح.

لم ينجز العراقيون بل لم يتفقوا على مسار بناء الدولة حتى اليوم، وما ذلك الا بسبب ضحالة الثقافة السياسية السائدة، اذ لم تتطور كثيرا بنية هذه الثقافة، ولم يحصل تحديث ونقد لمفاهيم الاستقلال والوطنية ولم يجر نقد صريح للايديولوجيات التي تصارعت مفاهيميا وماديا على ارض العراق، وما زال العراقيون على انقسامهم بين تيارات تدعي الصوابية مستعدة للدفاع عن وجودها في السلطة بقوة السلاح لا بقناعة وتأييد ودعم الرأي العام وصناديق الاقتراع.

ذكرى تموز تعيد للنقاش والجدل العام مفاهيم بناء الشرعية والحريات والتداول السلمي والتعددية والديمقراطية والانتخابات وممارسة السلطة، بمعنى التفويض والوكالة عن الشعب والسيادة بمحددات عراقية، محددات الجغرافية والتاريخ المأزوم والحاضر المتخم بانواع الازمات والتحديات.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق