إذا كان هناك من يستطيع أن يحدّد بدء الحرب، فقد لا يكون بإمكانه، في الأغلب، تحديد أو اختيار لحظة إنهائها، وذلك أحد دروس التاريخ التي يبدو أن الزعماء السياسيين والقادة العسكريين لم يتعلّموها، وإذا كان هؤلاء يرسمون خطط الحرب، فإن المدنيين، إضافة إلى المقاتلين، هم من يدفعون ثمنها...

«يظلّ المدنيون والمقاتلون تحت رعاية وسلطان مبادئ القانون الدولي، كما استقرّ عليه العرف ومبادئ الإنسانية وما يُمليه الضمير العام»، ذلك ما كتبه فيودور مارتينو، المندوب الروسي في مؤتمر لاهاي عام 1899. استعدتُ ذلك وأنا أتابع مجريات الحرب الأوكرانية والمآسي والآلام والعذابات التي يتحمّلها السكان المدنيون منذ 24 فبراير/ شباط 2022، والتي ستستمرّ إلى أجل غير مسمّى، حتى الآن.

وإذا كان هناك من يستطيع أن يحدّد بدء الحرب، فقد لا يكون بإمكانه، في الأغلب، تحديد أو اختيار لحظة إنهائها، وذلك أحد دروس التاريخ التي يبدو أن الزعماء السياسيين والقادة العسكريين لم يتعلّموها.

وإذا كان هؤلاء يرسمون خطط الحرب، ويضعون الخرائط أمامهم ويؤشرون عليها بعلامات الهجوم والتقدّم والانسحاب، فإن المدنيين، إضافة إلى المقاتلين، هم من يدفعون ثمنها، خصوصاً حين يخسرون حياتهم ومستقبلهم وتتحطّم آمالهم. وهكذا نرى يومياً آثار الدمار، والقتلى والجرحى والأسرى والمعوقين واللّاجئين، والأمر لا يخصّ النزاعات الدولية المسلحة حسب، بل يشمل النزاعات الأهلية المسلّحة، والسودان مثال على ذلك، فهو ما زال ينزف منذ 15 إبريل/ نيسان 2023 وإلى اليوم، وعلى الرغم من المناشدات والوساطات الدولية، فلا يوجد حلّ ملموس في الأفق، ويبقى المدنيون والجنود هم وقود هذه الحرب بلا حدود.

ولعلّ ما ذكره مارتينو بشأن الإنسانية والضمير يُعتبر الأساس في القانون الإنساني الدولي، على المتحاربين أن يتذكروه دائماً، وأن يعملوا على الالتزام به ويحرصوا على تجنّب مخالفته.

هنري دونان وغيوم هنري دوفور، هما من أسّسا هذه المسيرة الإنسانية المعاصرة للقانون الدولي الإنساني، الأول رجل أعمال سويسري، أما الثاني فهو ضابط في الجيش السويسري، وبينما كان دونان في رحلة إلى إيطاليا (1859)، شهد ما خلّفته معركة سولفرينو من مآس مريعة وآثار مفزعة، وحين عاد إلى جنيف قرّر أن يدوّن ذلك في كتاب ووضع عنواناً له «تذكار سولفيرينو» وقام بنشره، وقدّم له الجنرال دوفور معلومات أخرى عن الحرب، إضافة إلى دعمه المعنوي، وقد كانت اتفاقيات جنيف الأولى عام 1864، أولى الاتفاقيات في القانون الدولي الإنساني، تلك التي صدرت عن المؤتمر الدبلوماسي.

ولهول ما شاهده دونان، وما عاشه دوفور، وما عرفه، فقد قررا أن يؤسسا لجنة لإغاثة جرحى الحرب من العسكريين، وضمّا إليها ثلاث رفاق ليصبحوا خمسة و«لجنة الخمسة» كانت النواة لاحقًا ﻟ«اللجنة الدولية للصليب الأحمر» (1876).

وكانت قوانين حمورابي (1792 - 1750 ق.م) أقرّت قواعد «لمنع الأقوياء من اضطهاد الضعفاء»، كما أن الكتب المقدّسة احتوت على الكثير من المبادئ التي أخذتها عنها الدول والحكومات، بما فيها قواعد الفروسية في العصور الوسطى، أو ما تسمّى مدوّنات الشرف التي تكفل احترام الضعفاء، أو أولئك الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم. وبالتراكم والتطوّر البطيء طويل الأمد، تطوّرت هذه القواعد في القرن التاسع عشر، وتوسّعت الأنشطة الإنسانية لتدوين قواعد القانون الإنساني الدولي المعاصر، التي جاءت تتويجاً لأعراف الحروب وممارساتها على مرّ العصور، والتي عرفت أشكالًا مختلفة من القواعد التي تحدّد ظروف الحرب وشكلياتها والسلطات المعنية ببدئها وإنهائها، وحدود المشاركين فيها، وزمان ومكان العمليات الحربية، وأساليب سيرها وقواعد تحريمها.

وكانت اتفاقيات لاهاي الثانية (1907) استكمالاً وتطويراً لاتفاقيات لاهاي الأولى (1899). أما في الحرب العالمية الأولى، فقد استحدثت وسائل وأدوات جديدة في الحرب لم تكن موجودة، أو معروفة سابقاً، بما فيها الغازات السامة، والقصف الجوّي، وأسر المئات والآلاف في الحرب، الأمر الذي تطلّب من المجتمع الدولي وضع اتفاقيات جديدة لتنظيم ذلك، والتخفيف من غلواء الحروب أو تلطيفها في عامي 1925 و1929.

وفي الحرب العالمية الثانية، قُتل ما يزيد على 60 مليون إنسان، الأمر الذي احتاج من المجتمع الدولي إلى وضع اتفاقيات دولية جديدة (اتفاقيات جنيف الأربع الصادرة في 12 أغسطس/ آب 1949)، ثم اقتضت الحاجة إلى تطويرها أيضاً، بوضع بروتوكولين إضافيين صدرا عن المؤتمر الدبلوماسي 1974 - 1977، استجابة للآثار الإنسانية لحروب التحرر الوطني التي لم تكن اتفاقيات جنيف عالجتها، لا سيّما «حماية ضحايا المنازعات المسلّحة غير الدولية».

المهم، ليس تلطيف الحرب أو تحسين قواعد إدارتها، ولكن الأهم هو تحريم الحروب، وعدم استخدام القوّة، أو التهديد بها في العلاقات الدولية، واللجوء إلى الوسائل السلمية لحلّ المنازعات، وذلك ما يمثّل جوهر ميثاق الأمم المتحدة.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق