ما حدث ويحدث من سرق القرن وغيرها الكثير لم يحدث لها مثيل حتى في غابات الأمازون، ولا في أدغال أفريقيا، حتى أن ضرب الفساد أطنابه في جميع مفاصل الحياة، وأخذ غول الفساد يتحول من ظاهرة، إلى ثقافة، والى عقيدة لدى البعض، حتى بات الفساد هو القاعدة والنزاهة استثناء...

عادةً ما يتم استذكار الشخصيات والرموز التاريخية المؤثرة في أكثر الأوقات قلقاً، وهي محاولة للسير على نهجهم وخطاهم، واستلهام ما قاموا به من أعمال جبارة ومن جهد استثنائي، جعلتهم بهذه المكانة المرموقة في ذاكرة التاريخ.

وما أحوجنا اليوم إلى هذا الاستذكار، لا سيما لتلك الرموز التي وضعت حجر الأساس لأركان الدولة الحديثة، ولعل من أبرز تلك الشخصيات التي كان لها دور مؤثر ومشرف في العهد الملكي، في معالجة الأوضاع الاقتصادية والمالية، كانت شخصية الوزير حسقيل ساسون، أول وزير مالية في أول حكومة عراقية، والذي تمكن من إرساء الأسس السليمة والمتينة لنظام الإدارة المالية للدولة العراقية الفتية، من خلال أشرفه على صياغة عدد من القوانين الاقتصادية، والتي لا يزال يُعمل بها حتى الآن، كما يُعد ساسون أشهر وأنزه وزير مالية عراقي في تاريخ الحكومات العراقية المتعاقبة، الأمر الذي جعل منه الوزير الدائم والثابت في الحكومات المتعاقبة، بحيث استوزر ولخمس مرات متتالية وزيراً للمالية.

ولم يأتِ هذا التكليف اعتباطاً، بل جاء نتيجةً لما يتمتع به من مواهب وخبرات، وروح وطنية خالصة، إضافة إلى النزاهة التي عرف بها، والتي أضحت ماركة مسجلة باسمه.

كما عُرف عن ساسون أنه كان متشددًا في محاسبة كبار الموظفين والمسؤولين في الدولة، بل إن تلك الاجراءات المتشددة طالت الملك فيصل الأول نفسه، ولم تشفع له مكانته أن يكون بعيداً عن هذه الاجراءات.

وكان لا يترك لهؤلاء ثغرة قانونية أو إدارية يمكن التسلل من خلالها لنهب المال العام، ومن هنا جاءت العبارة التي كانت تُردد على ألسنة الكثير (يحسقلها، وتريد تحسقلها عليّ) وهي دلالة على التشدد والمحاسبة، وعدم التساهل بصرف المال العام بغير حق، حتى ذهبت الحسقلة مثلاً.

وقد رافق هذه المواقف الصارمة، وحرصة الشديد على تدقيق مصروفات الدولة العراقية العديد من المواقف الطريفة، ومن ذلك عندما طلب منه الملك فيصل الأول صرف مبلغ 20 ديناراً عراقياً لبناء مدرسة ابتدائية في مدينة الديوانية، رفض حسقيل ذلك قائلاً للملك (لقد أُقرّت الميزانية في مجلس النواب وليس هناك مجال للتلاعب بأي رقم). وذات مرة أقام الملك فيصل الأول مأدبة طعام لضيوف حلّوا في قصره، فسحب من خزينة الدولة 20 ديناراً عراقياً، عندها قام ساسون بخصم دينارين كل شهر من المخصصات المالية، ولما سُئل لماذا، أجابهم حسقيل، إنها مأدبة خاصة، وهذه أموال عامة.

ومن المواقف الوطنية الأخرى، وما أكثرها، التي تُحسب له في مسيرته السياسية والاقتصادية دوره في مفاوضات العراق مع بريطانيا لاستثمار النفط العراقي بين عام 1924 و1925 على امتياز شركة النفط العراقية، فقد أصرّ على ان يكون شراء بريطانيا للنفط العراقي بعملة الشلن الذهبي بدلاً من الباون الإسترليني الورقي، الأمر الذي أكسب ميزانية العراق ثروات ضخمة. وكذلك هو صاحب فكرة وضع عملة وطنية عراقية، حيث كان يشغل رئيس اللجنة المالية في البرلمان العراقي، وقد نتج عن ذلك إصدار الدينار العراقي.

واليوم أين نحن من حسقيل هذا، وماذا نقول له، وماذا يقول عنا ؟، وهو يراقب الانتهاكات التي تُرتكب بحق المال العام، ولكن هذه المرة من قبره في باريس، وروحه التي تحوم حول بيته في شارع النهر، والتي تحاول أمانة العاصمة بين الفينة والأخرى تهديمه بحجج واهية، ربما للتخلص من رمز النزاهة التي يمثلها ساسون، والذي بات يورق جيش الفاسدين ويحاصرهم في جحورهم. فها هي أموالنا يتم التعامل معها كالمال السائب الذي ليس له صاحب، تصور ان صبياً لم يبلغ العقدين من العمر، يسكن في شمال البلاد، وربما لايجيد العربية باتقان، يأتي بنوقهِ الحمر من (السكسات والتريلات) ويُحمّل على ظهورها ما خف وزنه وغلا ثمنه، من مليارات الدنانير والدولارات الخضر، ومن أحد المصارف الحكومية العريقة، وتحت أنظار الرعية، وعدسات الكاميرات الرقمية والحرارية، دون أن يرف جفن، لجهة حكومية أو أمنية، ولم يُسئل من أنت، ومن أين لك هذا؟. ما حدث ويحدث من سرق القرن وغيرها الكثير لم يحدث لها مثيل حتى في غابات الأمازون، ولا في أدغال أفريقيا.

كم نتمنى أن يُبعث حسقيل هذا، أو شبيه له، ليرى بعينه ما جرى ويجري، بعد أن ضرب الفساد أطنابه في جميع مفاصل الحياة، وأخذ غول الفساد يتحول من ظاهرة، إلى ثقافة، والى عقيدة لدى البعض، حتى بات الفساد هو القاعدة والنزاهة استثناء.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق