انقسم الرأي العام على شعار العراقيين الشهير "باسم الدين باكونا الحرامية" بين مؤيد ومعارض ومتحفظ، فمن أيَّده رأى فيه شعاراً عفوياً يضرب معناه في صميم الفساد الذي استبد بالعراقيين منذ اثنتي عشرة سنة، وتتحمل الوزر الأكبر عن وجوده وشيوعه أحزاب الإسلام السياسي الحاكمة، ولاسيما فروعه الشيعية بملاحظة أن هذه التظاهرات بدأت من محافظات وسط وجنوب البلاد..

أما الذين وقفوا موقفاً مضاداً من الشعار المذكور فقد وجدوا فيه إساءة إلى الدين بشكل عام، وهو بحسب تصريحاتهم مصاغٌ من قبل نفر مستهترين بالفضائل والأخلاق الاجتماعية يدعون إلى إحلال دولة لا دينية، ويقول بعض منتقدي هذا الشعار إنه يشوش على معركة العراق الكبرى في الظرف الراهن عندما يدعو الشباب القادر على حمل السلاح إلى التسكع في الشوارع بدلاً من قتال جماعة داعش الإرهابية.

والحق أن من يتبنى مثل هذا الهجوم المحموم على شعار التظاهرات ويدعو غيره إلى الاشتراك في محاربته والنهي عن الهتاف به يرتكب أخطاءً جسيمة يمكن إجمال أبرز نقاطها بما يأتي مع التعليق على ما تستبطنه من أفكار:

1- إن هؤلاء الرافضين لشعار "باسم الدين باكونا الحرامية" يعتقدون من حيث يشعرون أو لا يشعرون بأن الحكم الذي شهده العراق طيلة اثنتي عشرة سنة كان حكماً دينياً، والأمر ليس كذلك بالتأكيد بملاحظة الدستور الذي لم ينصّ على دينية الدولة وبملاحظة طبيعة النظام السياسي الحاكم على أرض الواقع، هذا النظام الذي لا يختلف كثيرا عن أنظمة الحكم العلمانية القريبة أو البعيدة عن العراق.

2- إن هؤلاء المعترضين على الشعار المذكور يغفلون حقيقة أن هناك احزاباً دينيةً شاركت في التظاهرات -وما تزال- وهتفت بحماس واضح بالشعار المعترض عليه أسوة مع بقية المتظاهرين.

3- إن هؤلاء الناقمين على شعار " باسم الدين باكونا الحرامية" يعتبرون من حيث يشعرون أو لا يشعرون خروج حشود المواطنين المسالمين المنددين بالظلم والخراب، يعتبرون هذه الممارسة الطبيعية والحضارية المكفولة دستوريا يعتبرونها خروجا على الاسلام!

4- وأخيرا وليس آخراً على هؤلاء أن يعلموا علم اليقين بأن المتظاهرين شباباً وشيوخاً ليسوا متسكعين، بل محاربون يخوضون غمار الحرب على داعش أيضا ولكن بوسائل اخرى.. على أن قول المتظاهرين "باسم الدين " يدل على عبقرية عراقية عفوية فذة لا تخلط الدين المحض بمن يدعيه أو ينتحله زيفاً وبغياً، فهم قالوا: "باسم الدين باكونا الحرامية "، ولم يقولوا " بالدين باكونا الحرامية " تنزيهاً من هؤلاء المتظاهرين الشرفاء للدين الذي يمثل في يقينهم رديفا للأخلاق السامية. إن غاية قصد هذا الشعار لا تتعدى مسألة التعريض ببعض أدعياء الدين ممن يتخذ من هذا الاسم الشريف ذريعةً لظلم الناس والاعتداء على أموالهم وحرياتهم...

أما من تحفّظ على استعمال شعار: "باسم الدين باكونا الحرامية" بدعوى وجود ركاكة في صياغته اللغوية أو صياغته السياسية؛ لأنه يختزل جميع موبقات الساسة بجريمة السرقة وحدها، فلهؤلاء جميعا بودي أن أقول:

إن الشعار المذكور بريء من الركاكة السياسية فهو لا يختزل آفات الفساد بالسرقة وحدها بل هو ينطوي على وصف جامع لكل مظاهر الفساد تقريباً ولاسيما ما يتصل بالجذر اللغوي للفعل "باق" وهو حجر الزاوية من هذا الشعار، فقد جاء في الحديث الشريف: ليس بمؤْمِن من لا يأْمَنُ جارُه بوائقَه، وفي رواية: لا يدخُل الجنةَ من لا يأْمَن جارُه بَوائقَه. وبوائقُه: غَوائلُه وشرُّه أو ظُلْمه وغَشَمُه. وفي لسان العرب: باقَ إذا هجَم على قوم... وباقَ إِذا كذب، وباق إِذا جاء بالشَّر والخُصومات، وذكر بعض أكابر المتقدمين أن البَوْق يكاد يكون اسما جامعا للباطل، وعلى ذلك قول الشاعر حسان بن ثابت: يا قاتَلَ اللهُ قَوْماً كان شأْنُهُمُ قَتْلَ الإمامِ الأَمين المُسْلمِ الفَطِنِ ما قَتَلُوه على ذَنْب ألمَّ به، إلاَّ الذي نطَقُوا بُوقاً.

وقد رصدت خلال متابعتي لملف التحفّظ على شعار " باسم الدين باكونا الحرامية " أن من الكتّاب من أبدل جملة "باكونا" بجملة " باقونا " أو سرقونا" وليس من داع إلى هذا التصرف مطلقا؛ ذلك أن حرفي "القاف والكاف" يصدران عن مخرجين متقاربين جدا، فضلا عن أن هذين الحرفين يردان معاً -أحياناً - على المعنى الواحد من غير فرق. لقد وصف سيبويه مخرجي القاف والكاف بقوله: ((ومن أقصى اللسان و ما فوقه من الحنك الأعلى مخرج القاف، ومن أسفل من موضع القاف قليلاً ومما يليه من الحنك الأعلى مخرج الكاف)). ويقال: "قهرته وكهرته أكهره كهراً"، وقرأ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قوله تعالى: ((فأما اليتيم فلا تكهر)). ومما تبادلت فيه القاف والكاف قولهم قشطت الكتابة عن القرطاس قشطاً وكشطها كشطاً. وبهذا يصحّ لغةً أن يقال: "باسم الدين باكونا الحرامية"

كلمة ذات صلة: مما قاله الشيخ محمد جواد مغنية بتصرف: إن الاتّجار بالجنس أشرف من الاتّجار بالدين لأنَّ الأول يتاجر بممرين نجسين.. في حين أن الآخر يتاجر بالمقدسات.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق