وكما أنَّ العلاقات الاجتماعية هي منهجٌ للحياة العابرة للروتين الوظيفي، ولَيْسَتْ وعاءً للتناقضات في المجتمع، كذلك الظواهر الثقافية هي كَيفيةٌ للتفكير العابر للنمط الاستهلاكي، ولَيْسَتْ تجميعًا للأفكار المُتضاربة. لذلك، تجب معرفةُ الفرق بين فَهْم الأشياء وطبيعة الأشياء، فالفَهْمُ مُمَارَسَة منطقية إنسانية في حَيِّز الوَعْي والإدراك...

(1)

عمليةُ تَحَوُّلِ التجارب الاجتماعية إلى ظواهر ثقافية لا تتم بشكل تلقائي، ولا تَحدُث بصورة ميكانيكية، وإنَّما تتم وفق تخطيط اجتماعي عميق يشتمل على الحقائق الإنسانية، التي تُسَاهِم في تقييم تأثيرِ مصادر المعرفة على الخطاب اللغوي المُتبادل بين الفرد والجماعة، وتأثيرِ سياسات الوَعْي بمعايير الأحكام الثابتة والمُتَغَيِّرَة ضمن منظومة التفاعل الاجتماعي، التي تَدفع الفردَ إلى التواصل مع تفاصيلِ الظروف المُحيطة، والاتصالِ بِمُكَوِّنَاتِ الزمان، وعناصرِ المكان، وطبيعةِ الشخصيات، وماهيَّة الأحداث.

وثنائيةُ (التواصل/ الاتصال) قادرةٌ على تفسير استجابة الفرد للمُؤثِّرات الداخلية والخارجية، وإشعاره بالأمان الروحي، وتحريره من الاغتراب في الماضي والحاضر، وتَخليصه من الخَوف مِن المُستقبل، وهذا يُعزِّز قيمةَ الولاء الفردي لوجود الجماعة، ويُكرِّس الانتماءَ الجماعي إلى النظام الإبداعي الذي يُمثِّل تسلسلًا عقلانيًّا مِن الرموزِ اللغوية، والأشكالِ القانونية، والإجراءاتِ الإصلاحية، والقواعدِ المهنية، والسُّلوكياتِ البيئية، والروابطِ النَّفْسِيَّة، والعلاقاتِ الفكرية.

مِمَّا يَجعل المسؤوليةَ الاجتماعية منظومةً مُنفتحةً على الكِيَانات الحَيَّة، ومَفتوحةً على الظواهر الثقافية الحُرَّة، وهذا يعني أنَّ كُلَّ فكرة ينبغي أن تُوظَّف لمصلحة المُجتمع كَكُل، وكُل كِيَان يجب أن يلتزم بالمعايير الأخلاقية المحكومةِ بالمعنى الوجودي المنطقي، والحاكمةِ على أنساق التوازن بين الفرد ومُحيطه، وكُل ظاهرة ثقافية لا بُدَّ أن تُبنَى على التنظيم الذاتي، وليس الخُضوع لأدوات معرفية خارجية، أوْ آلِيَّات فكرية دخيلة، لأنَّ قُوَّةَ الثقافة في نَسَقها الزمني وسِيَاقها الحضاري نابعةٌ مِن طاقتها الداخلية، ولَيْسَتْ مُستمدةً مِن عوامل مُسْتَوْرَدَة.

(2)

التجاربُ الاجتماعية تُمثِّل ذاكرةً للسُّلطة الثقافية داخل المُجتمع، وهذه السُّلطةُ تَحْمِي الأنساقَ المعرفية مِن الصراع الاجتماعي، وتَحرُس البُنيةَ النَّفْسِيَّةَ مِن الصدام اللغوي بين الخِطَاب وتأويله. وإذا كانت اللغةُ كائنًا اجتماعيًّا مُرتبطًا بأنماط التفاعل الحضاري، فإنَّ المُجتمعَ كِيَانٌ لُغوي مُرتبط بالتأثيرات التبادلية بين الأفراد. وهذه التأثيراتُ تُحدِّد صِيَغَ الترابط الاجتماعي في العلاقات الإنسانية، من أجل اكتشاف الآلِيَّات الفكرية الحقيقية التي تُسيطر على كَينونة الفرد الإنسانية، ومسارِه العقلاني في تكوين القواعد المنطقية التي تَرْمي إلى تحليلِ المظاهر المادية، وتفسيرِ الصُّوَر الذهنية المُنعكسة على الواقع، ومُحاولةِ فهم البُنى الوظيفية والقُوى الكامنة في أعماق المجتمع.

وكما أنَّ العلاقات الاجتماعية هي منهجٌ للحياة العابرة للروتين الوظيفي، ولَيْسَتْ وعاءً للتناقضات في المجتمع، كذلك الظواهر الثقافية هي كَيفيةٌ للتفكير العابر للنمط الاستهلاكي، ولَيْسَتْ تجميعًا للأفكار المُتضاربة. لذلك، تجب معرفةُ الفرق بين فَهْم الأشياء وطبيعة الأشياء، فالفَهْمُ مُمَارَسَة منطقية إنسانية في حَيِّز الوَعْي والإدراك، قائمة بذات الفرد، في حِين أنَّ طبيعة الأشياء ماهيَّة مادية مُستقلة في حَيِّز الزمان والمكان، وخارجة عن نطاق سيطرة الفرد.

(3)

تحليلُ أنساق المجتمع يَختلف عن كِيَان المُجتمع جسدًا ورُوحًا، وحقيقةُ اللغة لا تَظهر في وسائل التفاهم، وإنَّما تَظهر في الإشارات القادرة على تفجير الطاقة الرمزية في اللغة، وبَعْثِ الدهشة في الألفاظ والمعاني، كي تُصبح قادرةً على وصف الظواهر الثقافية، وكيفيةِ حُدوثها، وبيانِ العوامل المُؤثِّرة في سُلوك الفرد وأفكاره. ومَن يَعتقد أن الظواهرَ الثقافيةَ سطحيةٌ، ونابعةٌ مِن تفكير ضَحْل، وخاضعةٌ لنسق عاطفي سَاذَج، وتَمَّ تكريسها بسبب إجراءات ميكانيكية ضِمن سياسة الأمر الواقع، فهو -في حقيقة الأمر- لَم يَفهم الثقافةَ باعتبارها حَرَكَةً وُجوديةً تستطيع تأويلَ الأفكار، وحَرَاكًا اجتماعيًّا يَستطيع بناءَ المشاعر، ولَم يُدرِك قُوَّةَ الرموز اللغوية في التأثير على مُستويات الذاكرة وعمليات التفكير. ومَن استهانَ بالبحر ستبتلعه الأمواجُ، وتَسْلُب حَيَاتَه، ومَن استهانَ بالثقافة ستبتلعه اللغةُ، وتَطْمِس وُجُودَه.

* كاتب من الأردن

اضف تعليق