الفشل الرئيس للقيادات الحاكمة هو عجزها التام عن التقدم بإنجاز مشروع بناء الدولة في العراق؛ اذ يبدو هذا المشروع اما أكبر من امكانياتها وقدراتها، واما انه لا يدخل في حيز تفكيرها وسلوكها السياسي. كلما طالت مدة بقاء هذه القيادات في السلطة، كلما قادت الى المزيد من الانتكاس...

جرت يوم التاسع من نيسان-ابريل الجاري في بغداد مراسيم تكليف مصطفى الكاظمي (رئيس جهاز المخابرات العراقي) بمهام تشكيل الحكومة الجديدة من قبل برهم صالح (رئيس الجمهورية)، ليكون بذلك ثالث شخص يتم تكليفه بنفس المهمة منذ تقديم عادل عبد المهدي استقالته من رئاسة الحكومة الحالية في الثلاثين من تشرين الثاني-نوفمبر 2019، ولعل الشيء الطريف في موعد التكليف أعلاه انه يأتي في الذكرى السنوية السابعة عشر لسقوط نظام صدام حسين على يد قوات الاحتلال الأمريكي عام 2003.

لقد عانى العراقيون خلال هذه المدة الطويلة نسبيا كما هائلا من المآسي والصعوبات الكارثية، ابتداء من سقوط الدولة وتفكك مؤسساتها بسبب الاحتلال، مرورا بموجة الإرهاب العنيفة التي ازهقت أرواح مئات الالاف منهم، وشردت ملايين آخرين، ودمرت بنيتهم التحتية المتهالكة أصلا، كما بددت مئات المليارات من الأموال العراقية الثمينة ... فضلا على الاحتجاجات الشعبية المستمرة والناقمة على الأداء السياسي للسلطة، ومطالبتها بحقوق المواطنين كــ: العدالة، والمساواة، وانفاذ سلطة القانون، ومحاربة الفساد ومحاسبة المفسدين، والخلاص من البطالة والفقر، وتوفير الخدمات الأساسية، ومنع التدخل الخارجي بشؤون العراق، وغيرها، وصولا الى تفشي وباء كورونا وما نتج عنه من تهديد صحي مباشر لحياة الناس، ناهيك عن تداعياته الخطيرة على الاقتصاد الوطني؛ بسبب انهيار أسعار النفط العالمية(المورد الأساس للموازنة العامة السنوية للدولة).

هذه المخاطر والتهديدات الجسيمة التي عاشها العراقيون في السنوات الماضية لا تدل فقط على صعوبة الظروف التي مرت بهم، وانما تدل -أيضا-على الأزمة الخطيرة التي تعاني منها قياداتهم السياسية الحاكمة (لا نريد في هذا المقال تعداد أوجه الخلل والقصور لدى هذه القيادات؛ لكثرة ما كتب حولها داخل العراق وخارجه) ولعل طريقة تعاطيها مع قضية الاحتجاجات الشعبية الأخيرة ومسألة اختيار حكومة جديدة تحل محل الحكومة المستقيلة تمثل ورقة التوت التي كشفت كل عوراتها، فلم يعد النقد الموجه للقيادات مقتصرا على المواطنين والخصوم السياسيين، بل بدأت ملامحه تظهر لدى أنصارها وجمهورها نفسه، حتى اصبح أدائها السياسي مثار السخرية والاستهزاء لدى العامة والخاصة.

ان الفشل الرئيس للقيادات الحاكمة منذ سقوط صدام حسين ولحد الان هو عجزها التام عن التقدم بإنجاز مشروع بناء الدولة في العراق؛ اذ يبدو هذا المشروع اما أكبر من امكانياتها وقدراتها، واما انه لا يدخل في حيز تفكيرها وسلوكها السياسي.

وعليه كلما طالت مدة بقاء هذه القيادات في السلطة، كلما قادت الى المزيد من الانتكاس والتراجع في مشروع بناء الدولة لمصلحة مشاريع موازية مرتكزها: الطائفية السياسية، والعنصرية العرقية، والتبعية الخارجية، ومافيا الفساد، والعبثية السياسية.

حكومة الكاظمي قد تكون طوق النجاة الاخير

تشير كل التوقعات الى ان السيد مصطفى الكاظمي سيتمكن من تشكيل حكومته خلال المدة الدستورية المقررة، وهي شهر من تاريخ التكليف؛ لأنه لا خيار آخر أمام الكتل السياسية الحاكمة للخروج من الوضع الحرج الذي حشرت نفسها فيه. لكن طريق الكاظمي ليس مرصوفا بالورود، بل سيتحرك في حقل الغام واشواك معقد للغاية، وسيكون بين مطرقة الكتل السياسية المصوتة له واللاهثة وراء مغانمها وامتيازاتها، وسندان الضغوط الشعبية المتصاعدة؛ لتلبية مطالب ساحات الاحتجاج، وتوفير حاجات المواطنين المتراكمة، ومعالجة التركة السلبية الثقيلة للحكومات السابقة. وكل ذلك يحدث في ظل تهديدات اقتصادية بالغة الخطورة، وصراعات إقليمية ودولية شرسة، تمثل الأرض العراقية واحدة من ساحاتها الرئيسة.

وفي ظل هذه الأوضاع لا تبدو المناورة لكسب الوقت والمجاملة السياسية هي الخيار الأفضل امام الكاظمي، فهو اما يعمل بنمط جديد من القيادة الحكومية المسؤولة؛ ليكون طوق النجاة الأخير لعملية سياسية تعاني من انتكاسات فضيعة، واما يعيد تكرار العمل بنفس العقلية والسلوك السياسي للقيادات المتنفذة المأزومة التي اوصلته للسلطة، فيعجل بسقوط بلده وشعبه في هاوية سحيقة للغاية تهدد بانفجار الوضع الداخلي: اجتماعيا، وسياسيا، وأمنيا بشكل خطير ربما يفتح الأبواب مشرعة امام المزيد من العنف والتطرف والتدخل الخارجي والصعوبات الاقتصادية، مما يضع الدولة امام سيناريوهات مرعبة احلاها مر للغاية، وتنذر جميعها بأفول مشروع الدولة العراقية الواحدة المستقلة بصورة نهائية.

ولن يتمكن رئيس وزراء العراق المكلف من القيام بمهمته الصعبة الا بمد الجسور المقطوعة بين الحكومة والشعب؛ لاستعادة الثقة المفقودة بين الطرفين، وهذا لا يمكن بلوغه بالشعارات والخطب الرنانة التي اعتاد عليها المسؤول العراقي، وعرف كذبها المواطن، بل تحتاج استعادة الثقة الى اعمال ملموسة على الأرض، فالزمن هو زمن الفعل لا زمن الكلام، والخطوة الأولى في هذا الطريق ستحددها طبيعة التشكيلة الحكومية او ما يسمى الفريق الوزاري لحكومة الكاظمي، فكلما كان هذا الفريق ضعيف الانسجام بين أعضائه، وقليل الكفاءة، ومرتكز على المحاصصة التي تعيد انتاج نفس الوجوه الفاسدة، كلما اتسعت الفجوة بين الحكومة والشعب، وحكم الأداء الحكومي على نفسه بالفشل.

كذلك يتطلب الامر، اتخاذ الحكومة القادمة لقرارات جريئة فيما يتعلق بالملفات الرئيسة التي تشغل بال المواطن، وتعرقل ترسيخ وتقدم مشروع بناء الدولة، مثل ملفات: انفاذ سلطة القانون، ومحاسبة المجرمين، ومكافحة الفساد لا سيما رؤوس الفساد الكبيرة، وانهاء وجود التنظيمات المسلحة المنفلتة، وتعزيز سيادة واستقلال العراق ومنع تحول أرضه الى ساحة تصفية للحسابات الإقليمية والدولية، ومعالجة الوضع الاقتصادي، وتحديد ملامح صحيحة وقانونية ومتماسكة للعلاقة بين المركز والاقليم، ومنع عودة الإرهاب من جديد، وإيجاد شراكات وتحالفات إقليمية ودولية تسمح باستعادة العراق لوضعه المؤثر في منطقته والعالم...وايضا التمهيد لانتخابات عراقية مبكرة تكون شفافة ونزيهة.

قد تبدو هذه الملفات أكبر من قدرة حكومة الكاظمي على القيام بها جميعا، والنجاح فيها دفعة واحدة، الا انها قطعا بحاجة الى اتخاذ الخطوات المهمة في طريق معالجتها الصحيحة، فتركها يعني الاستسلام لها، والسماح باستمرار تداعياتها السلبية على المواطن ومؤسسات الدولة كافة.

لقد فشلت معظم الحكومات السابقة في مهمتها عندما فشلت في استعادة ثقة الشعب، وفي التعامل مع الملفات الخطيرة المذكورة أعلاه، ولا يمكن الجزم أن الحكومة الجديدة قادرة على التخلص من شراك الوضع السياسي العراقي السيء الموجود طول السنوات السبعة عشر المنصرمة، الا اننا نحاول فقط لفت الانتباه الى ان وقت اللعب بالطريقة القديمة أوشك تماما على الانقضاء، وان الكارت الأحمر سيشهر على كثير من القيادات المتنفذة، وما لم يتم تدارك الأمور بحكمة وحزم وقوة فإنها ذاهبة الى منزلق خطير للغاية.

* الأستاذ الدكتور خالد عليوي العرداوي، مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2020
www.fcdrs.com

اضف تعليق


التعليقات

اللواء مهندس حافظ الزهيري
العراق
الكاظمية قليل خبرة اداريه وماليه واقتصادية وسوف يصطدم بملفات شائكة غير قادر على ليس على حلها .2020-04-12