مفهوم المعارضة جزء اساسي من مفهوم النظام الديمقراطي، وغياب المعارضة مقوم اساسي من مقومات النظام التوافقي. والجمع بين الامرين (المعارضة والنظام التوافقي) امر غير ممكن، وعلى سياسيينا الذين اوصلونا الى ما نحن فيه ان يدركوا ذلك قبل حصول المزيد من الفوضى والإحباط، في الهندسة السياسية...

مفهوم المعارضة جزء اساسي من مفهوم النظام الديمقراطي، وغياب المعارضة مقوم اساسي من مقومات النظام التوافقي. والجمع بين الامرين (المعارضة والنظام التوافقي) امر غير ممكن، وعلى سياسيينا الذين اوصلونا الى ما نحن فيه ان يدركوا ذلك قبل حصول المزيد من الفوضى والاحباط.

في الهندسة السياسية، اي علم بناء الدول، نتعرف على نوعين من الانظمة السياسية، الاول هو النظام الديمقراطي، او نموذج ويستمنستر، الذي يقوم على اساس المواطنة، وهي علاقة فردية بالدولة، وهو النظام الذي تتشكل فيه الحكومة على اساس الاغلبية البرلمانية، ويكون فيه الانتخاب على اساس الدوائر المتعددة والانتخاب الفردي، وتوجد فيه اقلية برلمانية معارضة بمقدورها تشكيل حكومة الظل. وهذا يتطلب قانون انتخابات وقانون احزاب يتكفلان بهذه المخرجات.

وهذا يعني ان الانتخابات التشريعية تتم في دوائر انتخابية بعدد مقاعد البرلمان، يترشح فيها الاشخاص بطريقة فردية حتى وان كانوا منتمين الى احزاب، ويفوز بالمقعد الانتخابي من يحصل على اعلى الاصوات. بعد الانتخابات يقوم الحزب الذي فاز باغلبية المقاعد البرلمانية ( وليس مجرد الحزب ذي المقاعد البرلمانية الاكثر عددا) بتشكيل الحكومة لوحده، وفي حال احتاج الى بضعة اصوات لتكميل الاغلبية البرلمانية بامكانه ان يستعين باحد الاحزاب الذي قد يمنحه الاصوات المطلوبة دون ان يشارك فعلا في الحكومة. وتذهب بقية الاحزاب غير المشاركة في الحكومة الى مقاعد المعارضة ولا تطالب بحصة في الحقائب الوزارية. والمعارضة تنشأ بسبب الاختلاف في السياسات والمواقف وليس بسبب الاختلاف في توزيع المناصب وخاصة الوزارية منها. وهذا النظام مطبق الان في الكثير من الدول الديمقراطية من بينها بريطانيا.

الثاني، النظام التوافقي، الذي يقوم على اساس المكونات، و تجري فيه الانتخابات بموجب القائمة الانتخابية، في دائرة واحدة او دوائر قليلة بغض النظر عن عدد المقاعد البرلمانية، وتكون فيه الحكومة ائتلافية، تشارك فيها كل او معظم الاحزاب الفائزة باعداد مختلفة من المقاعد البرلمانية. ولا يمكن ان تتشكل في هذا النظام معارضة برلمانية حقيقية، بسبب مشاركة اغلب الكتل البرلمانية في الحكومة، وليس من الممكن ان تضع قدما في الحكومة وقدما في المعارضة.

وهذا النظام هو المعتمد والمطبق في العراق منذ عام ٢٠٠٣، وهو ليس نظاما ديمقراطيا بالمعنى الدقيق للكلمة، انما هو يشكل انحرافا عن النظام الديمقراطي، اقترحه ونظّر له العالم السياسي ليبهارت لمعالجة حالات استثنائية طارئة.

النخبة السياسية العراقية اختارت هذا النظام رغم ان الدستور العراقي ينص على النظام الديمقراطي وليس النظام التوافقي، فحصل التباين بين الدستور المعلن والواقع العملي، وهذا احد عيوب التاسيس الخطيرة التي انتجت نظاما سياسيا هجينا مشوها. واخترعت احزاب السلطة طريقة لتوزيع المناصب بعنوان الاستحقاق الانتخابي او المحاصصة الحزبية والطائفية والعرقية، او التوازن الوطني الذي يشمل ليس فقط الوزارات انما كل مناصب ومواقع الدولة بما فيها التوظيف في اجهزة الدولة وخاصة القوات المسلحة، كما ذكر الدستور.

بعد الانتخابات الاخيرة استحوذ بعض الكتل السياسية التي فازت بالانتخابات بحصة الاسد بالمناصب الوزارية وما يسمى بالدرجات الخاصة، تاركةً للكتل السياسية الفائزة الاخرى فتات المائدة، بمعنى انها لم تلتزم بنظام الاستحقاق الانتخابي، كما حصل في الحكومات السابقة. ومن هنا شعرت هذه الكتل بالغبن، وقررت الذهاب الى المعارضة، ولا مشكلة في ذلك، بشرط ان تعرف الكتل الراغبة بالمعارضة ان الذهاب الى المعارضة يستلزم تبنيها اجراء تغييرات جذرية اساسية في بنية النظام السياسي، منها:

اولا، اعلانها انها تفضل بناء الدولة على اساس المواطنة وليس على اساس المكونات.

ثانيا، اعلانها انها تفضل اجراء الانتخابات بطريقة الانتخاب الفردي والدوائر المتعددة بقدر عدد النواب، وليس طريقة الانتخاب بالقائمة والدوائر المحدودة.

ثالثا، انها تتبنى الديمقراطية التمثيلية العددية وليس الديمقراطية التوافقية.

رابعا، انها تتبنى تشكيل الحكومة على اساس الاغلبية البرلمانية وليس على اساس الاستحقاق الانتخابي والمحاصصة الحزبية والطائفية والعرقية.

خامسا، انها تفضل تشكيل المعارضة (ما دامت اقلية برلمانية) على اساس الاختلاف في السياسات والمواقف، وليس كورقة ضغط للحصول على مواقع في الدولة ورفع الحيف عنها في توزيع المناصب والدرجات الخاصة.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق