حوادث قتل تضرب العراق بين فترة وأخرى، وكانها مواسم لحصد أرواح بعض من تجود بهم الحياة فداء لاجل لا شيء، الا لكونهم كانوا في المنطقة الخطأ والزمان الخطأ، او ربما لانهم اخرجوا رؤوسهم من النافذة التي يجب ان تبقى مغلقة طوال الوقت...

حوادث قتل تضرب العراق بين فترة وأخرى، وكانها مواسم لحصد أرواح بعض من تجود بهم الحياة فداء لاجل لا شيء، الا لكونهم كانوا في المنطقة الخطأ والزمان الخطأ، او ربما لانهم اخرجوا رؤوسهم من النافذة التي يجب ان تبقى مغلقة طوال الوقت.

مع كل حادثة إجرامية تظهر عشرات التحليلات، ومئات الجناة، ينتقيهم رواد مواقع التواصل الاجتماعي حسب الطلب، فالجريمة تكتشف خلال دقائق رغم ان الاخبار في بعض الأحيان تتحدث عن شخص ملثم قام بالعملية، او عصابة تركب سيارة مظللة.

في دوائر الشرطة التي تقع على عاتقها كشف هوية الجاني وأسباب الجريمة لا احد يعلم بما يجري، وتدعو وزارة الداخلية في اغلب الأحيان الى انتظار نتائج التحقيقات، لكن هذه الدعوة تقابل بشكوك وقلة ثقة من الجمهور، ينساب الحدث الى اقصى بقعة في الأرض العراقية وتصبح حديث الشارع.

الجرائم من هذا النوع هي سوق رائجة، ولا احد ينكر ذلك، لكن لا احد ينكر ان مثل هذه الجرائم ممكن ان تحدث في أي بلد، وربما ما يجعل الجرائم في العراق ذات صبغة فريدة هو السوق الكبيرة للشائعات بعد كل جريمة.

نعم قد تكون هناك جرائم مشابهة، الا ان هناك أيضا الكثير من الجرائم التي تبين فيما بعد ان الجناة لم يتخيلهم احد ولا علاقة لهم بكل ما قيل ونشر في مواقع التواصل الاجتماعي، لذلك فان بورصة الاشاعة التي تفتتح مع كل حفلة اغتيال لشخصية مشهورة في البلد لا بد من التصدي لها مهما كان نوع المتهم بهذه الاشاعات، ليس دفاعا عنه باعتبار الجريمة لا تثبت على المتهم حتى يدينه القضاء، انما حفاظا على التماسك الاجتماعي.

هناك عدة اطراف تشترك في بناء السوق السوداء للمعلومات، او ما يطلق عليها علميا بالاشاعات، وهي كالاتي:

اولاً: سلطات الدولة، من ابرز الأطراف المشاركة في جريمة الترويج للاشاعات التي تجتاح العراق هي السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، فهؤلاء لم يحددوا الخطوط العامة للعمل الإعلامي الصحيح ولم يخلقوا بيئة إعلامية لا تعشعش فيها الاشاعات، بل جعلوها بحرا من المعلومات المغلوطة.

ثانياً: وسائل الاعلام الحزبية، تلك المؤسسات التي تمارس عملية تقطيع اوصال الحقيقة وتقديمها على شكل سندويجات جاهزة لا نعلم أصولها من اين جاءت وهل هي منتجة من لحم بقري ام لحم دجاج ام لحم خنزير، المهم انها سندويج اخباري من مصدر رفض الكشف عن اسمه، وتصريح صحفي لا يعرف لاي صحيفة قاله صاحبه.

ثالثاً: الأحزاب المسيطرة على مفاتيح الدولة العراقية، فالحزب صاحب السطوة لا يسمح بنفاذ المعلومات كاملة الى الجمهور، لانها وببساطة تكشف أسلوب حياة زعمائه وقادته الذين يعتاشون على أموال الشعب بدون أي مسوغ قانوني او أخلاقي، كما ان السماح بكشف الحقيقة كاملة يعني طلوع الشمس على اللصوص. وفي جانب اخر يمارس الحزب المتنفذ سطوته على وسائل الاعلام التي تهتم بالحقيقة فقط ويقمعها باي وسيلة متاحة.

رابعاً: وسائل الاعلام العربية والأجنبية، هنا لا يمكن نسيان دور تلك المؤسسات التي تستغل أي حادثة من اجل تحقيق اهداف سياسية للدول التي تمولها، لا سيما واننا نعرف حجم الصراع الدولي على العراق، وما يترتب على ذلك من محاولات لاسترضاء الجمهور وكسبه ضد هذا الطرف او ذلك. وفي السياق العام فان الفضائيات العربية عموما لا تعجبها التجربة السياسية العراقية الجديدة بكل ما فيها لانها وببساطة تخالف ما معمول به عربيا سواء من حيث طائفة النظام السياسي او من حيث طريقة وصول الحاكم الى السلطة.

خامساً: الجمهور العراقي نفسه، الذي يلتقط كل هذه التناقضات ويبحث عن المثير في بقايا المعلومات المصابة بالصدأ ليحولها الى شحنة من نار تلتهم ما يقع امامها من واقع عراقي هش نريد إعادة بناءه، وكأن المواطن يريد ان يقول لوسائل الاعلام الحزبية وللاحزاب نفسها وللفاعلين الخارجيين انه قادر على ان يكون اليد التي تستخدم في الحرب.

علينا النظر الى كل هذه المتغيرات الداخلية والخارجية قبل الانسياق وراء أي إشاعة، ومهما كانت الجهة المتهمة او المتضررة منها فمن الضروري تحكيم العقل والتدبر قبل اصدار الاحكام، لان سوق الاشاعة لا تبني بلدا، ولا يمكن ان يستفيد منها الا الأطراف الخارجية او الخارجة عن القانون.

دعونا نجلس لمصالحة كبرى مع العقل ومنطقه الجميل، ففيه حدائق تضع اللبنات القوية لاسس نظام نطمح ان يكون العراق، اما الاستخدام العشوائي لمواقع التواصل الاجتماعي فانه يمثل الفأس التي نهدم بها سارية العلم العراقي، وتلك جريمة لا تغتفر.

.................................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق