دخل العراق يوم السبت الماضي مسارا سياسيا عنوانه (الفراغ الدستوري والنيابي) لأول مرة بعد عام ٢٠٠٥، بسبب مخاضات الطعن بالانتخابات ونزاهتها وأيضا مسارات تشكيل الحكومة المتعثرة في ضوء عدم نضوج التحالفات السياسية وتقارب بالأوزان الانتخابية، مع سعي معظم القوى الفائزة الظفر بمنصب رئيس مجلس الوزراء...

دخل العراق يوم السبت الماضي ٣٠/٦/2018 مسارا سياسيا عنوانه (الفراغ الدستوري والنيابي) لأول مرة بعد عام ٢٠٠٥، بسبب مخاضات الطعن بالانتخابات ونزاهتها وأيضا مسارات تشكيل الحكومة المتعثرة في ضوء عدم نضوج التحالفات السياسية وتقارب بالأوزان الانتخابية، مع سعي معظم القوى الفائزة الظفر بمنصب رئيس مجلس الوزراء.

في خضم هذه الحيثيات حاول مجلس النواب العراقي المنتهية ولايته تمديد فترته تزامنا مع عمر الحكومة الحالية دون أعباء مالية قبل إنتهاء المدة الدستورية لعمله، لكنه أصطدم بالرفض الدستوري والسياسي والشعبي، وأيقن البرلمان أن الدخول بخلاف دستوري آخر سيتم الطعن به إلى المحكمة الإتحادية، والمحكمة سترفض التمديد كونه مخالف للدستور، مما يشكل نكسة للنواب المطالبين بالتمديد، بالتالي بعد يوم السبت ٣٠/٦ لن يكون هناك برلمان في العراق، كون الدستور ينصّ صراحة على عودة أعضائه إلى مواطنين عاديين من دون صلاحيات ولا حصانة.

أما الحكومة فستستمر بأعمالها وتُناط بالحكومة مهمة تصريف الأعمال اليومية، رغم الجدل حول هذه المفردة فبعض القانونيين يقولون: "إن الحكومة تتمتع بالصلاحيات التامة، وقادرة على إتخاذ القرارات المهمة والحساسة التي تتعلق بالملفين الأمني والعسكري وكذلك الاقتصاد، وتسيير شؤون البلاد العامة لكنها ستكون مقيدة، فلن يكون لها الحق بعد الآن توقيع إتفاقيات أو عقد أي تفاهمات دولية أو إتخاذ أي قرار أو تشريع قانون يحتاج إلى تصديق البرلمان إلا فيما يتعلق بأمن الدولة وسيادتها".

الفراغ الدستوري أصبح حاضرا في المسار السياسي العراقي فالنظام فيه برلماني، ما يعني أن إسقاط الصفة الدستورية عن مجلس النواب وبدأ حالة الفراغ النيابي لم يكن في حسبان واضعي الدستور تصور هذه الحالة، وهذا فراغ دستوري بحد ذاته، لكونه يضرب أسس النظام، ويجعل شرعيته برمتها على المحك.

إذ لا توجد مادة في الدستور تنص على أنه في حال الفراغ النيابي، يُمَكن الحكومة أو رئيس الجمهورية أو القضاء أو أي هيئة أخرى أن تحل محل مجلس النواب، أو تولي مهام السلطة التشريعية، التي تمتلك صلاحيات سياسية، ورقابية، وتشريعية، وإنتخابية وتأسيسية.

والحق يقال، إن الفراغ التشريعي قد يكون شيء طبيعي وله بدائل في تجارب النظم النيابية وخاصة الإتحادية لأنها تقوم على أساس نظام المجلسين، ففي ألمانيا هنالك إضافة إلى مجلس النواب توجد الغرفة الثانية للسلطة التشريعية المجلس الفيدرالي يستمر بمهامه وصلاحياته ويسد ثغرات غياب مجلس النواب، إذ حصل ذلك مؤخرا في ألمانيا فدخلت في فراغ نيابي لمدة خمسة أشهر في خضم أزمة تشكيل الحكومة، فلم يتم التمديد للمجلس (البوندستاغ) واستمر المجلس الفيدرالي بالعمل، ولو كان في حالة العراق وجود مجلس الاتحاد وهو منصوص عليه في المادة ٦٥ من الدستور وينظم بقانون كان بالإمكان تلافي دخول العراق بفراغ تشريعي كامل.

مع ذلك فغياب البرلمان لشهرين أو ثلاثة أشهر من ناحية التشريع بإمكان تعويضها في البرلمان الجديد مع اعتياد العراق الدخول بكساد تشريعي رغم وجود مجلس نواب في مرحلة اجراء الانتخابات وتشكيل الحكومة، أما عن إجراءات رقابة الحكومة من قبل البرلمان والإحتجاج بذلك لغرض التمديد أو الحديث عن الفراغ التشريعي فهذا مدفوع بوجود هيئات رقابية مستقلة مع إمكانية الاحتجاج بالقضاء والإدعاء العام على أي سلوكيات مخالفة للدستور من قبل الحكومة من قبل مواطنين أو نواب سابقين، فهذا الحق الرقابي مكفول للجميع عبر الشكوى إلى القضاء والهيئات الرقابية الأخرى.

أما مخاض نتائج الانتخابات بعد التعديل الثالث لقانون الانتخابات وبعد قرار المحكمة الاتحادية الذي جاء بشكل يقبل التأويل فانقسمت القوى السياسية إلى قناعة مفادها إعادة عد وفرز يدوي كلي وقناعة مفادها جزئي حسب الخروقات والشكاوى، مع أن المحكمة قصدت إعادة عد وفرز ومطابقة الأصوات التي وردت فيها طعون وشكاوى وعدم إلغاء للكل، وهذا ما بينه مجلس المفوضين الجديد المشكل من القضاة المنتدبين، رغم أن المحكمة أكدت دستورية المادة الأولى من قانون التعديل الثالث للانتخابات والتي نصت على إلغاء العد والفرز الإلكتروني وإعادة العد والفرز يدويا.

أما القصد بعدم المساس بالأصوات الصحيحة، فما ورد في قرار المحكمة بإعادة العد والفرز للمحطات المطعون بها فقط يتعلق بالمادة الثالثة التي أكدت المحكمة على عدم دستوريتها، حيث أن الفئات المذكورة كانتخابات الخارج والنازحين والحركة السكانية.. في هذه الفئات من تم عدها وفرزها يدويا أساسا ولم تخضع للعد والفرز الإلكتروني ولا داعي لعدها من جديد وإنما فقط الصناديق التي عليها شكاوى وطعون، فقرار المحكمة الاتحادية كان ملتبسا حول نص الفقرتان أدناه.

1- عملية العد والفرز اليدوي المنصوص عليها في المادة (1) على الأصوات التي وردت أو سيرد بحقها شكاوى وعدم المساس بأصوات المقترعين التي تحصلت بشكل قانوني سليم ولم يرد بشأنها شكاوى ودون الحاجة لإجراء عملية العد والفرز يدويا عليها سواء تحصلت الأصوات داخل العراق أو خارجه.

2- إرجاء إعلان النتائج التي شابتها المخالفات لحين البت فيها‏ سلبا أو إيجابا وذلك بهدف السير ببقية مراحل العملية الانتخابية بشكل قانوني وشفاف وإعلان النتائج النهائية وإرسالها للمحكمة الإتحادية العليا للمصادقة عليها.

هل المقصود بهاتين الفقرتين فئات محددة في المادة (3) أم إنها تشمل جميع الدوائر الانتخابية والفئات؟، هذا ما دفع بمجلس النواب المنتهي الصلاحية إدراج التعديل الرابع للقانون، بعد أن أخفق بالتمديد على إلزام المفوضية بإعادة العد والفرز اليدوي ومطابقة الأصوات لجميع المحطات الانتخابية، لكنه أخفق في تحقيق نصاب في آخر يوم من عمره وتحولت الجلسة إلى تداولية لتصويب العملية الانتخابية دون أي أثر قانوني.

مع كل ذلك، فإن إعادة العد والفرز اليدوي سواء كان جزئي أو كلي سيستغرق وقتا يتجاوز التوقيتات الدستورية لإنعقاد الجلسة الأولى للبرلمان الجديد ولم يعد يهم هل سيكون العد والفرز جزئي أو كلي وينتهي باسبوع أو بشهرين، خاصة أن الطعون والشكاوى على العد والفرز اليدوي ستكون حاضرة. قد تستغرق عملية إعلان النتائج والمصادقة عليها وقتا إضافيا وقد يجتمع مجلس النواب في أيلول أو تشرين الأول من العام الحالي.

مسارات العملية السياسية في خضم هذه المخاضات خلال هذه الأشهر الثلاثة ستعطي مجالات لتفاهمات ومشاورات سياسية أوسع من الوقت الضيق الذي لم تستطع القوى السياسية الفائزة في الانتخابات وفق آلية العد والفرز الإلكتروني أن تتوصل إلى نهايات متماسكة لتشكيل الحكومة والرئاسات الأخرى، فلم تتمكن القوى الفائزة خلال هذه الفترة من تشكيل تحالفات من شأنها أن تضمن لهم حضورا ثقيلا داخل البرلمان والحكومة، خاصة إذا علمنا أن المشاورات والتحالفات المعلنة بين قوى سياسية كانت تتقاذفها الإتهامات فيما بينها وتزيد من شك المرتابين من العملية الانتخابية، أما القوى السياسية المترقبة لإعادة العد والفرز اليدوي نتائجها ستكون متقاربة مع العد والفرز الإلكتروني إلا بنسب محدودة لا تتجاوز ١٠ إلى ٢٠% على جميع القوائم فيما يتعلق بحجم المقاعد والضرر سيكون داخل نفس القوائم بصعود أسماء وخسارة أخرى، فمشهد خارطة النتائج الانتخابية الجديدة لن يكون كبيرا ومغايرا للسابقة إلى حدٍ ما إلا بمناطق ومحطات محدودة.

مهما كانت نتائج الانتخابات بعد إعادة العد والفرز يدويا فعلى القوى السياسية أن تؤمن أن الفائز بأكبر عدد من المقاعد ليس بالضرورة هو من سيشكل الحكومة ويحكم البلاد، لأن المسار الذي حددته المحكمة الاتحادية عام ٢٠١٠ جعلت من الفائز بالانتخابات شيء والكتلة النيابية الأكبر شيء آخر.

لذا أعتقد أن زج البلاد في هذه الإشكاليات المرتبطة بالتزوير الانتخابي فيها نوعا من المزايدة والتهويل، تؤسس للطعن بأي عملية انتخابية مستقبلا، كما سيعزز مسار تيار مقاطعة الانتخابات الذي لم يؤخذ بحسابات القوى السياسية الفائزة والخاسرة، إضافة إلى طعن العملية الديمقراطية وشرعيتها في العراق أمام المجتمع الدولي.

ومع فتح احتمالات لتعقيد المشهد السياسي في العراق إذا تحولت عملية إعادة العد والفرز اليدوي إلى مفاتيح للصراعات السياسية إذا ما كان هنالك رفضا للنتائج في حال خسر الفائزون وربح الخاسرون، مما يدخل البلاد في مرحلة سياسية جديدة تتعالى فيها مطالب إعادة الانتخابات بالكامل وما يرافقها من إشكاليات وعوائق وتزايد مطالب الدخول في مرحلة انتقالية جديدة بوضع حكومة إنقاذ وطني وتأسيس مخرجات وبوادر سياسية مغايرة.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001 2018Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق