في عام 1558م اعتلت عرش إنكلترا الملكة اليزابيث الأولى، فكانت محط انظار ملوك وأمراء أوروبا الذين رغبوا في الزواج منها لتوسيع مناطق نفوذهم وسلطانهم على حساب بريطانيا، اما الملكة الشابة فحددت لنفسها هدفين: الأول عدم الزواج، والآخر عدم توريط مملكتها بحرب ما، لكنها استعملت طمع الملوك والامراء بها بطريقة ذكية جدا، اذ لم تعلن نيتها عدم الزواج، ووظفته لتحقيق الكثير من المكاسب لشعبها، فكانت أيام حكمها الطويلة مكللة بالنجاح والمجد، ولقبت بالملكة العذراء، لأنها لم تتزوج قط.

السياسة التي اتبعتها الملكة العذراء يمكن ان نسميها بسياسة الحياد المتوازن التي تبقي الجميع راغبا فيك من غير إيجاد اي ذريعة لاستفزازهم وتدمير علاقتك بهم، وهي السياسة التي يحتاجها العراق في علاقاته الإقليمية والدولية، لكن صُناع القرار عجزوا عن فهمهما وإدراك قيمتها في ظل المخاطر والاطماع المحيطة بهم.

ان العراق هو قلب الشرق الأوسط النابض، ومن يتحكم بالعراق قادر على التحكم بهذه المنطقة الحيوية من العالم وإعادة تشكيلها كما يريد، ولا يوجد أي بلد يضاهيه في أهميته، فلا دمشق ولا القاهرة ولا الرياض ولا طهران ولا أي عاصمة أخرى تشكل مفتاح السيطرة والنفوذ الشرق اوسطي بمعناه الجوهري.

والشواهد على ذلك كثيرة، فقد كانت ايران جمهورية اسلامية بثوب طائفي معين منذ ثورتها في عام 1979 لكنها لم تتضخم في نفوذها الاقليمي الا عندما وجدت لها موطئ قدم في العراق، والقضية الفلسطينية لم تفقد مركزيتها الاقليمية الا عندما وضعتها بغداد على هامش اهتماماتها، وكذلك الارهاب كان تهديدا يواجه العالم منذ مدة طويلة (11 سبتمبر 2001 مثلا)، وزاد تغلغله في الشرق الاوسط بشكل او آخر متزامنا مع ما سمي بثورات الربيع العربي مطلع عام 2011 لكنه لم يصبح سيناريو مرعب للبشرية ومزلزل للعلاقات والتوازنات الاقليمية والدولية الا عندما وقف على بوابات بغداد. فبغداد هي الجائزة الكبرى التي يتصارع عليها الجميع، وبلاطها كان ولا زال وسيبقى شبيه ببلاط اليزابيث الأولى، ممتلئا بمختلف الطامعين من اللاعبين الإقليميين والدوليين، وجلهم يريدها محظيته او في أحسن الأحوال تابعه الصغير الذي لا حول له ولا قوة.

ومع إدراك معظم ساسة العراق لأهمية بلدهم الا انهم فشلوا في استغلال ذلك بطريقة إيجابية تصب في تحقيق مصالحه العليا، نتيجة قلة ذكاء معظمهم، وعدم اتباعهم سياسة الحياد المتوازن في سياستهم الخارجية، اذ غالبا ما كانت هذه السياسة يكتنفها التناقض، او الميل غير الحكيم لهذا الطرف او ذاك، والاستمرار بهذا النهج لا يعني الا المزيد من الفشل والاخفاق في بناء الدولة العراقية، وفتح الأبواب على مصراعيها للتدخل في شأنها الداخلي.

صفوة القول، على السياسي العراقي تغيير طريقة ادارته لعلاقاته الإقليمية والدولية، جاعلا سياسة الحياد المتوازن ركيزتها الاساسية التي لا انحراف عنها؛ كون هذه السياسة هي الخيار الامثل في ظل البيئة التي يعيش فيها العراق. والنجاح في هذه السياسة يحتاج الى ما يلي:

1- ابقاء ابواب العراق مفتوحة امام جميع اللاعبين، واظهار التفهم لمطالبهم ومصالحهم بدون الميل لمصلحة طرف على حساب طرف آخر، فالحمقى فقط يفعلون ذلك، اما السياسي الحكيم فسيعلم ان جميع الاطراف ستتورط بالصراع فيما بينها بشكل أو آخر وستضعف نفسها وتهدر طاقاتها في هذه الصراعات، والرابح الوحيد في النهاية سيكون فقط من منع نفسه من ان يكون جزءا من هذه الصراعات.

2- منع اي لاعب من استغلال العراق ليكون منصة لتسويق مواقفه تجاه خصومه الاقليميين والدوليين، فالحياد المتوازن يتطلب مصداقية، وتنهدم هذه المصداقية عندما تعلن بعض الاطراف سياساتها المعادية لأطراف اخرى من بغداد، وقد اهمل صانع القرار العراقي هذا الامر كثيرا، فسمح لمعظم اللاعبين بإعلان مواقفهم المعادية لخصومهم من بغداد، لعل آخر الشواهد على هذا الخطأ الاستراتيجي هو قيام السيد علي اكبر ولايتي (مستشار الولي الفقيه في الجمهورية الايرانية) يوم السابع عشر من شهر شباط-فبراير الجاري، واثناء انعقاد المؤتمر التأسيس الأول لمجمع الوحدة الإسلامية في بغداد، بإطلاق تصريحات معادية للولايات المتحدة الامريكية بالقول: "ان معسكر المقاومة ممثلا بإيران والعراق وسوريا ولبنان سوف يطرد الولايات المتحدة من شرق الفرات في سوريا"، وليمر في حديثه على مناطق الصراع الملتهبة في المنطقة جاعلا موقف بغداد تابعا لموقف طهران بشكل كامل فيما يتعلق بالتعامل مع هذه الصراعات. نعم من حق الرجل الدفاع عن سياسة بلاده، ولكن ليس من حقه فرض التبعية على السياسة الخارجية العراقية، لاسيما وان كلامه جاء بعد يومين فقط من انعقاد مؤتمر اعادة اعمار العراق في الكويت، وهو المؤتمر الذي بذل فيه العراق جهدا كبيرا من اجل اقناع الغرب وعلى رأسه واشنطن، والعرب وفي مقدمتهم دول الخليج، فضلا عن بقية العالم، للمساهمة في اعادة بنيته التحتية المخربة والمتهالكة بعد ثلاث سنوات من الارهاب الاعمى الذي عانى منه.

3- امتلاك ما يكفي من قدرات الردع الذاتية، فسياسة الحياد المتوازن لا تعني البقاء ضعيفا في محيط متصارع، فالضعف يحول احترام الاخرين ورغبتهم الى طمع يقود الى التدخل السافر، وربما محاولة فرض الهيمنة او السيطرة على القرار السيادي. ولدى العراق بموقعه الجيوسياسي، وثرواته، وعدد سكانه ما يكفي من الموارد التي تمكنه بسهولة من امتلاك قدراته الرادعة لجميع الاطراف.

4- وجود القيادة المناسبة، فبغداد قادرة على تعزيز مكانتها الإقليمية والدولية بشكل كبير، وزيادة رفاه مواطنيها وتنافس الدول المتقدمة، ولا ينقصها مال ولا رجال لبلوغ ذلك، انما تنقصها القيادة الذكية، كقيادة الملكة العذراء تكون مستعدة للتضحية بملذاتها الحسية الشخصية من جانب، وتمنع تورط بلادها في الحروب المدمرة، من جانب آخر، من اجل قيادة شعبها نحو المجد والخلود الدائم.

* الأستاذ المساعد الدكتور خالد عليوي العرداوي، مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية
www.fcdrs.com

اضف تعليق