طالما شكوت وضع شعبي، وتألمت لما آلت إليه أموره، حتى ظننت بأننا الشعب الأوحد في الكون وعلى مر التاريخ؛ الذي ابتلاه الله بحكام أغبياء، وفرض عليه أن يعاني من حكامه، والشعب الوحيد الذي صودرت حرياته، ونهبت ثرواته، وتنمر طغاته، وبددت خيراته، وفسد ولاته، وتعددت جنسيات قياداته، لكن الظاهر أن هذا هو الحال الطبيعي لذلك النوع من الشعوب القليلة الفريدة الذكية اللماحة المبدعة؛ التي تجرأت، فكسرت سلاسل الرتابة، وانطلقت خارج حدود المألوف، فورطت نفسها في الاختراع والصناعة والمعرفة والفن والجمال، في وقت كانت البشرية كلها تغط بنوم عميق، كأنه سبات أهل الكهف، يتقلبون، تقرضهم الشمس، يبدون كالأحياء، ولكنهم في حقيقتهم لا حياة فيهم.

قناعتي الجديدة ولدت عند تصفحي الكتاب الثالث من موسوعة قصة الحضارة لول ديورانت؛ الذي تحدث فيه عن الصين، ولدت ساعة وجدت مقطوعة من خطبة ألقاها دوق "جَوَّ" بين يدي الملك "لي وانج" حوالي عام 845 ق.م، يُعَّرف الامبراطور من خلالها كيف يحكم، جاء فيها:

إذا كان الشعراء أحرارا في قرض الشعر.

والناس أحرارا في تمثيل المسرحيات.

والمؤرخون أحرارا في قول الحق.

والوزراء أحرارا في إسداء النص.

والفقراء أحرارا في التذمر من الضرائب.

والطلبة أحرارا في تعلم العلم جهرة.

والعمال أحرارا في مدح مهاراتهم وفي السعي إلى العمل.

والشعب حرا في أن يتحدث عن كل شيء.

والشيوخ أحرارا في تخطئة كل شيء.

فذلك هو الحكم الرشيد!

فأنا حينما سحبت تلك الصفات، وأسقطتها على صفات شعبنا العراقي، وجدت:

ان الشعراء في العراق أحرار في قرض الشعر، ولكن لا هم أجادوا صنعتهم فتفردوا، ولا وجدوا من يطرب لأقوالهم، بعد أن تكاثرت أعدادهم وكثر التناحر بينهم.

والفنانون أحرار في تمثيل المسرحيات طالما أنها لن تجد فرصة لأن يشاهدها الناس المشغولين بهموم دنياهم.

والمؤرخون أحرار في قول الحق؛ الذي يعرفون، دون أن يتعبوا أنفسهم بالبحث عن الحقيقة بين ركام الأكاذيب والدجل والغش.

والوزراء أحرار في إسداء النص، لا خدمة للشعب، وإنما حفاظا على مناصبهم ومكاسبهم وغنائمهم وأحزابهم ومذاهبهم وقومياتهم.

وفقرائنا أحرار في التذمر من الضرائب وخصخصة الكهرباء وارتفاع أسعار الدواء وفقدان مفردات البطاقة التموينية، بل إن حكومتنا العتيدة الرشيدة السديدة التي تقودها العمائم و(الغتر) و(الجراويات) والبراقع والربطات و(البوشيات) تشجعهم على التذمر لكي تطفئ نار غضبهم فلا يتطاير شرره قريبا من كراسيهم.

وطلبتنا أحرار في تعلم العلم جهرة حتى انه سمح لهم باستخدام السماعات والمرسلات وأدوات الغش المتطورة جهارا علنا لكي يحققوا النجاح، طالما أنهم سيضافون إلى طوابير الباحثين عن عمل، ومن وجد منهم عملا وفق نظام العقود الذي سنته الحكومة يبقى عرضة للطرد مع كل تبديل إداري في دائرته التي يعمل فيها، لأن المدير الجديد يجلب أهله وأحبابه وحزبه.

وعمالنا أحرار في مدح مهاراتهم وفي السعي إلى العمل، ولكن لا مهاراتهم مكنتهم من العثور على عمل، ولا سعيهم أوصلهم إلى نتيجة.

وشعبنا حر في أن يتحدث عن كل شيء ولاسيما السياسة، لأن حديثه عنها يزرع بين مكوناته العداء، فينشغلون بأنفسهم وفيما بينهم عن فساد حكومتهم.

وشيوخنا (أعضاء مجلس نوابنا) أحرار في تخطئة كل شيء لأنهم يظنون أن الله خلقهم من سلالة آلهة سومر وبابل ونمرود، وفرض على الناس تبجيلهم والركض خلف مواكبهم وانتظار بعض عطاياهم.

المشكلة أن الصين في عصرها الراهن، حققت أكثر من ثورة ابتداء من ثورة شينخاي 1911 وعصيان أوهان في 10 تشرين الأول 1911، وخلع الإمبراطور "بوئي" في 12 شباط 1912، إلى الثورة التي انطلقت عام 1919، وتكللت تلك الثورات بالثورة البروليتارية الثقافية الكبرى عام 1966؛ التي قادها "ماو تسي تونغ" بدعوته الشباب الذين عُرفوا فيما بعد باسم الحرس الأحمر إلى القيام بانقلاب على الزعامة الشيوعية.

أما نحن العراقيين فكل الثورات ولاسيما منذ عام 1963 فصاعدا كانت سعيا من سياسيين مغامرين وراء السلطة والمال لا رغبة في خدمة الشعب ونشر الجمال، وقد تكللت بثورة التغيير عام 2003 التي قادها ونفذها الجيش الأمريكي؛ خطة ومنهجا وعددا وعدة وشخوصا. الاختلاف الوحيد بيننا وبين الصين أن ما عرفت بالثورة الثقافية حتى مع كونها تسببت في سفك الكثير من دماء الأبرياء، وخربت الكثير من التراث الصيني إلا أنها هي التي خلقت الصين الحديثة بكل ما تمثله من قوة ونفوذ وسمعة ورهبة، أما ثورة التغيير في عام 2003 في العراق فإنها أسهمت في سفك دماء العراقيين وسرقت أموالهم وجردتهم مما بقي عندهم من زمن القحط الصدامي وعرضت بلدهم إلى التشظي وجعلته بؤرة للاحتقان ومشروعا للمصائب وكأن ما يلوح في الأفق مجرد صور تتهدد وجودنا ومستقبل أولادنا وأحفادنا. ومعنى هذا أننا إذا ما كنا حريصين على أمن وسلامة بلدنا وأجيالنا، ومستقبل البشرية معنا، فعلينا القيام بثورة شعبية ثقافية نختم بها مراحل معاناتنا، إذ لا سبيل سواها بعد أن فشلت كل السبل التي اتبعناها من قبل! ولا غرابة في ذلك ألسنا أصحاب هوسة: "يا بغداد ثوري .. ثوري .. وخلي (فلان) يلحق نوري"؟

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق