قد يكون السؤال عن جدوى استخدام العقل والاستفادة منه هاجساً يسكننا ويؤرقنا في لحظات بحثنا واستكشافنا، خصوصاً وأن المأزق الإنساني مازال ممتداً، ومفضياً إلى مزيد من السكونية والانغلاق في ظل استمرار الصراع الوجودي بين الغموض والوضوح. الحقيقة المرة هي اننا لن نستطيع تلمس بصيص أمل طالما بقينا ممددين في توابيت الموروث المنحرف ، حتى وإن استغرقنا كثيراً التفاؤل بما تم إنجازه لحد الآن من ربيع القلق.

نعم لقد تمت تنحية وإبعاد الحكام الذين تسلطوا على الشعوب وعاثوا في بلدانهم فساداً، ثم ماذا؟

هل استطعنا الارتقاء والتقدم، أم مازلنا نراوح في مكاننا؟

سبب تأخرنا يكمن في عدم جديتنا في التعامل مع الأفكار، إذ إن أفكارنا مازالت مُعلَّبة ويتم توجيهها باتجاهات تفرضها السياسات والإيديولوجيات والعقائد المتطرفة المنحرفة، فضلاً عن التسليم المطلق لأفكار رموز تعد علامة بارزة في الفكر ولايمكن القبول بانتقادها أو الإشارة إلى ازدواجية وتناقض آرائها إن لم نقل إن تلك الآراء أصلاً كانت خاضعة للإرادات السياسية الحاكمة والمتلونة بلون عقائدي معين.

الآن، قد يكون تحريك الساكن أمراً ذا فائدة ونحن ننعم بزمن اختصار العالم بتقنيات اتصالية حداثية تتيح مالم يكن متاحاً سابقاً، فنعتمد منطق المراجعة والنقد لكل ما تسبب في خدرنا الفكري، وتأخرنا بمسافات شاسعة عن الركب الحضاري. تحريك الساكن الذي ننشده، يجب أن يكون وفق اجتهاد وإرادة وإصرار على التغيير والتصحيح، وليس نقداً من أجل النقد فقط.

مُسَلَّمات متناقضة

هل يمكن لنا أن نتخيل حجم الصدمة لو أن شاباً أو شابة من الذين انتفضوا على فساد الحكام في البلدان التي شهدت ثورات (الربيع العربي) بمجرد مطالعة رأي لأحد الرموز الفكرية المعتد بها في عالمنا العربي والإسلامي كابن خلدون؟ مالذي سيقوله هذا المنتفض/ة حين يقرأ لابن خلدون وهو يصف الثائرين على فساد الحكام بأوصاف غير لائقة؟ ولأي مدى ستتعزز الصدمة حينما يقرأ مقولة لكبير من كبار الفقهاء: " لو بقيت لي دعوة واحدة؛ لادَّخَرْتُها للحاكم". طبعاً من دون أن يحدد ما إذا كان الحاكمُ عادلاً أو ظالماً، خلوقاً أو فاسقاً، عاملاً بكتاب الله وسنة نبيه أو منحرفاً عنها.

لقد عاش ابن خلدون في زمن كثرت فيه حالات الثورة، وكان القائمون على هذه الثورات يريدون إقامة دولة العدل بل أن بعضهم راح يدعي المهدوية بانتحاله شخصية الإمام المهدي (عج)، وفي هذا الصدد يقول ابن خلدون:

"ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء فإن كثيراً من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه، والأمر بالمعروف رجاء في الثواب عليه من الله فيكثر أتباعهم والمتشبثون بهم من الغوغاء والدهماء ويعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك، وأكثرهم يهلكون مأزورين غير مأجورين"1.

نعتقد أن هذا النص الذي جاء في مقدمة ابن خلدون الشهيرة مليء بالمتناقضات فهو يصف الذين يقومون على أهل الجور من الأمراء بمنتحلي العبادة وسلوك طرق الدين وفي ذات الوقت يؤكد ان الحكام الذين تم الخروج عليهم وعلى حكمهم بأهل الجور!.

كما أننا لانجد سبباً لإطلاق توصيف قاس كوصف الغوغاء الذي أطلقه على الذين يلتفون حول هذا الثائر على أمراء الجور، كما نجده يتطرف في حكمه بأنهم يهلكون مأزورين غير مأجورين. ولا نعلم إن كان ابن خلدون قد اطلع على آراء من يتبناهم فكراً ومذهباً بقضية (الخطأ في الاجتهاد) التي تحدث عنها الكثير من علمائهم وفقهائهم ومنهم ابن تيمية إذا ما علمنا ان ابن خلدون من المتأثرين به، حيث يذهب إلى ان المجتهد المخطئ له أجر؛ لأن قصده الحق… إلى آخر النص، فلماذا لم يعتبر ابن خلدون من وصفهم بالغوغاء ومنتحلي العبادة مجتهدين اخطأوا؟ وهذا تناقض واضح وصريح.

وفي ذات الوقت نراه يأخذ موقفاً لا يتفق مع رأي أحد فقهاء الأندلس المتشددين وهو (أبو بكر ابن العربي) وإن كان متماهياً معه إلى حد ما. وابن العربي هذا كان صوتاً عالياً في الدفاع عن دولة بني أمية وطريقة حكمهم، بل انه ذهب إلى أن ثورة الإمام الحسين (ع) كانت من أشد الفتن التي مرت على المسلمين، وأن الذين قتلوا الإمام الحسين انما فعلوا ذلك امتثالاً لقول الرسول الأكرم (ص) الذي يورده ابن العربي في كتابه (العواصم من القواصم) والذي يقول فيه بأن اي شخص يريد تفريق أمر الأمة يُقتل كائناً من يكون، ورأي ابن العربي أن الإمام الحسين كان عليه أن يبقى ملتزماً للصمت حتى وإن كان يطلب حقاً لأن هذا الحق سيفرق أمر الأمة!

بينما نجد ابن خلدون الذي وصف في نص سابق الثائرين على الحاكم بأنهم (غوغاء ودهماء)؛ يدافع وإن كان دفاعاً خجولاً عن ثورة الإمام الحسين فيقول : "وأما الحسين فإنه لما ظهر فسق يزيد عند الكافة من أهل عصره بعثت شيعة أهل الكوفة للحسين أن يأتيهم فيقوموا بأمره، فرأي الحسين أن الخروج على يزيد متعين من أجل فسقه لاسيما من له القدرة عليه، وظنها من نفسه بأهليته وشوكته، فأما الأهلية فكانت كما ظن وزيادة، وأما الشوكة فغلط يرحمه الله فيها، لأن عصبية مضر كانت في قريش وعصبية قريش في عبد مناف وعصبية عبد مناف إنما كانت في بني أمية، تعرف ذلك لهم قريش وسائر الناس لا ينكرونه فقد تبين لك غلط الحسين، إلا أنه أمر دنيوي لا يضر الغلط فيه، وأما الحكم الشرعي فلم يغلط فيه لأنه منوط بظنه وكان ظنه القدرة عليه، وأما غير الحسين من الصحابة الذين كانوا بالحجاز ومع يزيد بالشام والعراق ومن التابعين لهم فرأوا أن الخروج على يزيد وإن كان فاسقاً لا يجوز لما ينشأ عنه من الهرج والدماء فأقصروا عن ذلك ولم يتابعوا الحسين، ولم ينكروا عليه ولا أثموه لأنه مجتهد وهو أسوة المجتهدين "2.

ويمكن لنا المقارنة بين النصين لنكتشف بوضوح المتناقضات الهائلة التي سقط فيها ابن خلدون؛ نتيجة صراعه بين عقيدة متشددة ينتهجها، وبين الموضوعية التي لا بد منها حينما يتعلق الأمر بطرح موضوع يحتمل النقاش والتأمل.

لو تمت قراءة هذا التماهي المؤدلج بين الفكر والفقه، وتمت مراجعته مراجعة فاحصة وواعية ومن ثم اجتراح البدائل التي تبتعد عن المسلمات المتناقضة؛ لحصلنا على نتائج إيجابية تنطلق بنا إلى عالم تحريك الساكن الفكري. والبدائل المقترحة لتجاوز مثل هذه الاشكالات في عالمنا المعاصر اليوم؛ ليست بتلك الصعوبة، فكل مافي الموضوع هو الجدية في مراجعة موروثنا الفكري والفقهي ووضعه على طاولة نقدية بناءة بهدف التصحيح والتقويم، وليس التسقيط والمصادرة. نقد يمكننا من الابتعاد الموضوعي عن التنزيه المطلق لكل ما ضمته الصفحات الصفراء ومناقشتها بهدوء وروية دون النظر بعين التقديس لمن كتب وأطلق هذا الرأي أو ذاك، واعتبار كلامه قرآناً منزلاً لا ينبغي الخوض فيه. الفرصة مازالت قائمة، وما تنتجه التكنلوجيا الحديثة من تقنيات ووسائل تواصلية تتيح لنا خوض هذه التجربة الغنية والمفيدة فهل نحن فاعلون؟

------------------------------
1 مقدمة ابن خلدون، طبعة لجنة البيان العربي، ص469
2 نفس المصدر السابق ص561

اضف تعليق