تميز الموقف التركي إزاء إستفتاء كُردستان العراق الذي حدث في الخامس والعشرون من أيلول/سبتمبر2017، بأنه موقف معارض جملة وتفصيلا لتلك الخطوة الكُردية، لأنه يرى أن مخاطر الإستفتاء لا تمس أمن العراق السيادي فحسب، بل ستتناثر تأثيراته على كل دول المنطقة.

وتوزعت تحركات تركيا ضد الإستفتاء في ثلاثة اتجاهات وكما يأتي:-

1- البيئة الداخلية:

مثل التحرك التركي في اتجاهين: الأول سياسي وتشريعي، والثاني عسكري - أمني، وفيما يخص الإتجاه الأول توالت التصريحات التركية على كافة المستويات للتنديد بالخطوة التي اتخذتها كُردستان العراق، وتعددت التهديدات بأن تركيا ستتبنى إجراءات عقابية حيال حكومة كُردستان العراق التي دعمتها طيلة السنوات الماضية، هذا فيما عقد البرلمان التركي في جلسة استثنائية لتمديد عمل القوات التركية خلف الحدود السورية - العراقية.

وعلى الإتجاه الثاني حيث استقرت المدفعية التركية بالقرب من كُردستان العراق عبر مناورات في منطقة (سلوبي) التي تبعد عن حدود كُردستان العراق بنحو (2 كم) وذلك لإجراء مناورات عسكرية في الفترة من 18- 26 ايلول/سبتمبر 2017 أي لما بعد الإستفتاء في رسالة مبطنة للإيحاء بأن تركيا تهدد كُردستان العراق، يلي ذلك رفع أنقرة درجة الإستعداد العسكري على الحدود مع العراق، وفي الإتجاه ذاته انعقد مجلس الأمن القومي التركي الذي أكد أن الإستفتاء الكُردي غير دستوري، وأوضح البيان الختامي للمجلس: "إحتفاظ أنقرة بحقوقها في الدفاع عن مصالحها التأريخية الواردة في إتفاقيات ثنائية، ودولية حال ما نظم الإستفتاء، على الرغم من كل تحذيراتنا".

لكن البيان لم يوضح طبيعة هذه الحقوق، والمثير أن المتحدث باسم الحكومة التركية (يكر بوزداج) أشار في هذا السياق إلى إحتفاظ أنقرة بحقوقها التأريخية المنبثقة من الإتفاقيات الثنائية، والدولية، ولفت إلى أن هذه الإتفاقيات تنصرف إلى إتفاقية (لوزان1923)، وإتفاقية (أنقرة1926)، وإتفاقية (الصداقة وحسن الجوار بين العراق وتركيا في عام1946)، وإتفاقية (التعاون وأمن الحدود بين العراق وتركيا في عام1983)، وهو الأمر ذاته الذي كان قد أكده أكثر من مسؤول تركي، وذلك في رسائل تركية متواصلة لكُردستان العراق، والفاعلين الإقليميين، والدوليين ظاهرها أن تركيا ستتبنى كافة التدابير لإحباط خطط الأكراد، يعني أن مضمونها إذا ما أخذ في سياق التصريحات التي صدرت عن قيادات تركية طوال عقود سابقة بشأن حقوق تركيا في أراضي العراق يكشف أن ثمة إستعداد تركي لتحويل عبء الإستفتاء وما ينتج عنه من إنقسام الدولة العراقية لفرصة تركية لإعادة أحياء طموحاتها العثمانية للسيطرة على الموصل وكركوك تحت حجج أقل ما تكون غير واقعية وعفا عنها الزمن.

2- البيئة الإقليمية:

العمل مع العراق وإيران لمجابهة نتائج إستفتاء كُردستان العراق، فبينما استقبلت هيئة الأركان التركية رئيس الأركان الإيراني اللواء (محمد باقري) في أول تحرك خارجي على هذا المستوى منذ قيام الثورة الإسلامية الإيرانية 1979، فعلى جانب أخر استقبل رئيس الأركان التركي نظيره العراقي الفريق أول (عثمان الغانمي) وذلك للتباحث حول سبل التعاطي مع التحرك الكُردي، وذلك إستكمالا للمسار الدبلوماسي الذي تكلل بلقاء ثلاثي بين وزراء خارجية الدول الثلاثة على هامش إجتماعات الأمم المتحدة.

3- البيئة الدولية:

أعلن الرئيس التركي (رجب طيب أردوغان) من منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة رفض الإستفتاء الكُردي، كما شمل ذلك تحركات بالتنسيق مع فرنسا لمحاولة الغاء فكرة الإستفتاء، عبر مفاوضات، وجهود وساطة بين حكومة العراق وحكومة كُردستان العراق.

وبالرغم من الموقف التركي المعارض لإنفصال كُردستان العراق من السيادة العراقية، إلا أن هناك بعض التهاون والتراخي ازاء ذلك.

أسباب تراخي الموقف التركي من إقامة دولة كُردية:-

1- الإستحقاقات الداخلية:-

الإنشغال بالإستحقاقات الداخلية التي ستحدد مسار البلاد السياسي لعقد قادم لغاية عام2027.

2- العامل الكُردي الداخلي:-

من المتوقع أن يلعب أكراد تركيا للمرة الأولى دورا حاسما في الإنتخابات الرئاسية التركية القادمة، ومن المرجح أن توصل أصواتهم لأردوغان من الجولة الأولى من الإنتخابات الرئاسية التي ستجرى في نوفمبر 2019، ولذلك فإن أي موقف متشدد، أو قاسي بخصوص أكراد العراق قد ينعكس سلبا على الصعيد الداخلي، ناهيك عن أن موقفا متشددا قد يتناقض من وجهة نظر أكراد تركيا مع المبادرات التي يقوم بها أردوغان للإنفتاح على الأكراد داخليا.

3- العامل الأمني:-

إن التقارب التركي مع حكومة كُردستان العراق كان عاملا إيجابيا في محاصرة عمل حزب العمال الكُردستاني داخل تركيا، والتضييق عليه خلال الفترة الماضية. ناهيك أن كُردستان العراق تشكل منطقة عازلة طبيعية تفصل الفوضى العراقية عن الداخل التركي، وأهميتها من هذه الناحية بالنسبة إلى أنقرة مرتبطة بشكل عكسي مع الوضع العراقي الداخلي، فكلما إزدادت الفوضى العراقية الداخلية، كلما إزدادت أهمية كُردستان العراق كمنطقة عازلة.

موقف الحكومة التركية من إستفتاء كُردستان العراق:-

1- قال يكر يوزداج المتحدث باسم الحكومة التركية: "إن الإستفتاء يمثل تهديدا مباشرا لأمن تركيا التي تأمل في الغائه حتى لا تضطر إلى فرض عقوبات على الإقليم"، وقال يوزداج: "إن قرار إستفتاء الإقليم الكُردي للإنفصال عن العراق غير شرعي، ومرفوض، ويعتبر تهديدا مباشرا للأمن القومي التركي"، وأعتبر يوزداج "إن الإستفتاء يعد تهديدا مباشرا أيضا لوحدة العراق، وسيادته الوطنية".

2- قال رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم: "إن مساعي إقليم كُردستان لإجراء إستفتاء حول أستقلاله عن العراق غير مقبولة".

3- حذر وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو من، إن الإستفتاء على إستقلال إقليم كُردستان العراق يمكن أن يؤدي إلى حرب أهلية.

4- حذرت الحكومة التركية حكومة كُردستان العراق من أن الإستفتاء يمكن أن يضر بالعلاقات بين الطرفين، علما أن تركيا هي الحليف الإقتصادي الأكبر، وحذرت تركيا من العواقب التي سيتركها الإستفتاء على التعاون في مجال الطاقة، ويقصد بذلك توريد النفط من الإقليم إلى تركيا، لذلك هدد وزير الطاقة التركي بران البيرق، حكومة كُردستان العراق بـ(دفع الثمن إذا أصرت على إجراء الإستفتاء)، وإنها تعرف أن حليفها الإقليمي الوحيد هو تركيا، والأمر مرتبط بالإتفاق الذي أبرمته تركيا عام 2014 مع حكومة كُردستان العراق، وينص على السماح بضخ مئات الآلاف من براميل النفط إلى تركيا عبر طريق تسيطر عليه حكومة كُردستان، وتصدر عبر خطوط أنابيب (جيهان) إلى الأسواق العالمية، إضافة إلى أن حجم التبادل التجاري بلغ 8,5 بليون دولار عام 2016، فضلا عن مشاريع ضخمة للطاقة في طور الإعداد بين الطرفين.

وبالرغم من ذلك ظهرت بعض الأحزاب التركية تحجم من رفض موقف تركيا ضد إستفتاء كُردستان العراق.

الأحزاب التركية المؤيدة لإستفتاء كُردستان العراق:-

لوحظ أن هناك نوابا في البرلمان التركي يؤيدون الإستفتاء، بل الإنفصال، وخصوصا المنتمين إلى حزب (الشعوب الديمقراطي)، ويرون أن تركيا لن تغلق الأبواب في وجه جيرانها إذا تمت الموافقة على إستقلال كُردستان العراق، ولن تقطع علاقاتها معه، وثمة من الأتراك من يحاجج بأن تركمان العراق منقسمون حيال الإستفتاء بين مؤيد ومعارض، لذلك على تركيا أن تلجأ إلى الموقف الأسلم الذي يؤمن لها وفق منطق براغماتي منافع سياسية، وإقتصادية، وأمنية، هي في حاجة ماسة إليها، وهو أمر يعكس توجهها يحاول تسويق بأن إنفصال كُردستان العراق بات أمرا وشيكا، وخارجا عما تريده تركيا، بسبب إرادات، ودعم قوى دولية، وإقليمية، والأفضل لتركيا التعامل مع الأمر بحكمة، وبراغماتية، ومما يزيد من قوة منطق التعامل البراغماتي من إستفتاء كُردستان العراق، ومخرجاته هو الإستحقاقات، والإنشغالات بالقضايا الداخلية التركية خصوصا أن تركيا في مرحلة الإنتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي.

مستقبل الموقف التركي من إستفتاء كُردستان العراق:-

هناك إتجاهات تركية للتعامل مع نتائج إستفتاء كُردستان العراق، بالرغم من علاقاتها المتميزة السابقة مع حكومة كُردستان العراق، حيث تؤكد تركيا بأنها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام مشروع (أعلان دولة مصطنعة) على حدودها، ويمكن إدراج أبرز القراءات التركية لمستقبل كُردستان العراق بعد الإستفتاء وهي كما يأتي:-

1- القوة الإقتصادية التركية:-

تعتبر تركيا الرئة التي تتنفس بها كُردستان العراق في ظل خلافاته مع الحكومة المركزية في بغداد، عبر التجارة البرية البينية، ومرور خطوط النفط، عبر أراضي تركيا إلى العالم الخارجي، ومع تهديد طهران بغلق الحدود البرية مع الإقليم، وفي ظل حديث أنقرة عن ردود فورية على الإستقصاء أن تم يمكن أن يكون نفوذها الإقتصادي ذو أولوية.

2- العلاقات السياسية:-

ترتبط أنقرة وأربيل منذ سنوات بعلاقات طيبة تقترب من التحالف على خلفية التوافق في مواجهة حزب العمال الكُردستاني، والخلافات المشتركة مع بغداد، ويمثل إحتمال تخفيض أو اهتزاز هذه العلاقات ورقة ضغط بيد أنقرة.

3- القوة العسكرية:-

وهي ورقة لم تلوح بها أنقرة إلا مؤخرا، إلا أنها كانت ماثلة دائما من خلال الوجود العسكري في معسكر بعشيقة، والعمليات الجوية المتكررة ضد مقاتلي حزب العمال الكُردستاني P.K.K في جبال قنديل.

4- إندلاع نزاع إقليمي:-

الخوف الأكبر لدى أنقرة هو أن يؤدي الخلاف بشأن كركوك إلى إحتكاك عسكري بين البيشمركة والحشد الشعبي والقوات الأمنية العراقية على أسس عرقية، الذي قد يتحول سريعا إلى نزاع إقليمي يرتبط بأهمية المحافظة الإقتصادية، وخريطتها العراقية على حد سواء، عليه سيكون من المنتظر أن تعبر أنقرة عن حزمها، وجديتها في رفض مسار الإستقلال عبر فرض بعض العقوبات الإقتصادية المباشرة مثل إغلاق معبر الخابور، ووقف رحلات الخطوط الجوية التركية، وتجميد عمل بعض الشركات التركية في الإقليم، لكن ما بعد ذلك قد يتجدد لاحقا وحسب التطورات فقط.

5- إصرار كُردستان العراق على الإستقلال:-

ترى تركيا أنه قد يكون خطأ أكراد العراق أنهم مازالوا يفكرون في عام 2017 بمنطق حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وإنتشار المد القومي، فيصرون على مسار الإستقلال، وإنشاء الدولة القومية، فيما تسعى معظم شعوب الأرض اليوم إلى فكرة المواطنة، والحقوق المتساوية بين جميع الأعراق، والأديان، وكأن الدولة القومية الحديثة قد أثبتت نجاحها في العالم العربي مثلا، أو كأن إستقلال جنوب السودان لم يؤدي إلى إستدامة المواجهات والنزاعات، وعليه ترى تركيا أن إصرار كُردستان العراق لتحول فكرة الدولة التي تهدف للإستقرار والتنمية إلى عامل زعزعة وتهديد تذهب بما هو قائم حاليا منهما، ولعل في تجربة مهاباد وغيرها من ملامح الخذلان الخارجي، وخطورة الخطوات الأحادية دروسا ينبغي التعلم منها.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001–2017Ⓒ

http://mcsr.net

اضف تعليق