باسم عبد عون الحسناوي/مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية

 تراجعت سمعة الولايات المتحدة الأمريكية في العالم عموما والعالم الإسلامي خصوصا نتيجة الاستخدام المفرط للقوة العسكرية، حيث حملتها الحروب التي شنتها في كل من أفغانستان والعراق، والمعاير المزدوجة في المواقف والأفعال التي تبنتها من نشر الديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان التي بررت بها شن هذه الحروب، تكاليف باهظة أوصلتها إلى حافة الهاوية من تراكم الدين العام الذي هدد مستويات الرفاهة للشعب الأمريكي، والتكاليف البشرية التي خلفتها بفقدانها ألاف من الجنود خارج حدودها، لذلك فانها اتجهت نحو خيار استراتيجي آخر وهو الحرب الناعمة، لأنها سوف لا تقدم بها الكثير من التضحيات بل القائمون عليها وهم الشعوب المستهدفة نفسها، فلا حاجة للانغماس فيها وتكون بعيدة عن النقد والتوجس من شعوب العالم التي أضحت ترفض الأسلوب الأمريكي في إدارة النظام العالمي.

مفهوم الحرب الناعمة:-

يعد مفهوم الحرب الناعمة من المفاهيم الجديدة التي استحدثت في عالم الحروب وذلك باستخدام وسائل وأساليب للتأثير على الآخرين تخلو من الاستخدام المباشر للقوة العسكرية، وهذا ما عبر عنه جوزيف ناي الباحث والمتخصص في الشؤون العسكرية ووكيل وزير الدفاع الأمريكي الأسبق الذي تحدث عن الحرب الناعمة بقوله: (استخدام كافة الوسائل المتاحة للتأثير على الآخرين باستثناء الاستخدام المباشر للقوة العسكرية). ويتحقق هذا في الدول التي تتمتع بالاكتفاء الذاتي أو شبه الذاتي في الإمكانات التي تتيح لها استخدامها دون اللجوء إلى استخدام القوة العسكرية المجردة.

 وبما إن القوى تقاس بنتاجها وتأثيراتها فقد لاحظ المختصون إن الولايات المتحدة لم تحقق النتائج التي من اجلها شنت الكثير من الحروب وهي الهيمنة والسيطرة، لذلك وجدت أن المدخلات في استخدام القوة العسكرية المباشرة تفوق بكثير من تلك المخرجات التي تحققها، وهذا ما استدعى إعادة النظر بتلك المدخلات وتنظيمها من جديد وتوجيهها بما يحقق ذلك التأثر المتمثل في السيطرة والهيمنة، بالتحول من الحرب الصلبة أو الحرب الخشنة إلى الحرب الناعمة التي تتميز بقلة التكاليف والموارد وبأقصر السبل خصوصا أن العالم يعيش اليوم حالة تسابق في اختصار الزمان والمكان والتكاليف.

أسباب الترجيح والأمريكي للحرب الناعمة:-

هناك مبدأ يقول إن القوة العسكرية أيا كان تأثيرها وسطوتها تبقى تعاني من الضعف أو هي الضعف بعينة، هذا ما استنتجه الخبراء والباحثون من تلك القوة المهولة للاتحاد السوفيتي السابق وكيف مارسها في فرض هيمنته وإرادته على العديد من الشعوب والحكومات في أوربا الشرقية واسيا وغيرها، لكنها سرعان ما آلت إلى التشظي والانشطار إلى أجزاء ففقدت الدولة السوفيتية كيانها بسبب استخدامها المجرد الذي لم يكن متوازنا مع مقومات أخرى تحد من تآكلها وانهيارها وبالتالي انهيار منظومة الدولة، كما أرجع البعض أسباب تبني القوى الناعمة إلى الخوف والتوجس من ضياع مثلث القوة الذهبي الذي ينحصر في المعطيات التالية:-

1- المبادئ:- وتعني تلك القوانين الطبيعية المتعلقة بالعدل واللطف والاحترام والإخلاص والصدق وخدمة الآخرين، إنها فيزياء البشر كما يصفها البعض، ومن مميزات هذه المبادئ أنها كونية تعمل في كل مكان وزمان وكما تمتاز بالبديهية دون الحاجة إلى البرهان.

2- الموارد:-وتعني ذلك الحيز الجغرافي الواسع الذي يتيح المناورة في مختلف الجوانب العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية لطرف معين قياسا بطرف أو أطراف متعددة. فهي تشمل المساحة وطبيعتها، عدد السكان والثقافة السائدة وتطورها.

3- السلطة:- تتمثل في طبيعة النخبة الحاكمة ومصدر اكتسابها لها كذلك قوة تمثيلهم للشعب، والتزامهم بالقيم، وإتقانهم لاستخدام الموارد وتوظيفها.

تمثل هذه المعاير أسس ومقومات القوة فان أحسن توظيفها جنبا" إلى جنب يمكن الحديث عن قوة وان أسيئ استخدامها يحصل الضعف في قوة إي دولة وتتحول القوة إلى ضعف، هذه تمثل إحدى المنطلقات الرئيسية لتبني إستراتيجية القوة الناعمة، في السابق حدث التخلي عن هذه المقومات وتم تبني مفهوم القوة المجردة وهو ما عرف بمفهوم القوة الصلبة أو الخشنة وبذلك تعرضت سمعة الكثير من الدول ومقبوليتها لدى العالم إلى التراجع وعدم الثقة بها ومنها الولايات المتحدة، لذلك انشغل مفكروها في قراءة موازين القوة الجديدة التي تحولت نحو أسيا، وذلك بسبب عدم استخدام بعض القوى الصاعدة في آسيا (الصين، روسا الاتحادية) مقومات ووسائل القوة بصورة منتظمة.

 كذلك عدت التغيرات الأخيرة في بلدان العالم الإسلامي خصوصا العربية من الأسباب التي دعت إلى اعادة تنظيم استخدام القوة لغرض الهيمنة والسيطرة عليها بسبب تآكل وشيخوخة الكثير من الأنظمة السياسية فيها، وتعثر البديل الأمريكي الذي فرضته في العراق بعد التدخل العسكري المباشر في إسقاط النظام القائم فيه عام 2003، والذي غرق في الفوضى والعنف والحرب الطائفية.

 المرتكزات التي تقوم عليها الحرب الناعمة

1- استخدام الأساليب الأقل تكلفة قياسا إلى تكلفة الأساليب العسكرية والأمنية.

2- اعتماد الطرق التي تستدرج الآخرين دون أدنى مقاومة.

3- استخدام البدائل التي غالبا" ما تترك أثارا ايجابية بعيدا" عن الأساليب الصدامية..

الإعلام والحرب الناعمة:-

يعتبر الإعلام احد الأدوات الرئيسة في الحرب الناعمة بل تجاوز في بعض الأحيان هذا المستوى حتى عده بعض المراقبين والمختصين بأنه كل الحرب الناعمة فقد مارس الإعلام هذه الحرب بعدد من المسارات منها:-

1- تركيز الإعلام على الخوض في القضايا الداخلية والطائفية والعرقية والقومية والابتعاد عن قضايا إستراتيجية.

2- الإكثار من الفضائيات الفنية وغير الفنية في المناطق التي تعارض النفوذ والسياسة الأمريكية وخاصة العالم العربي.

3- التماهي الإعلامي أي جعل الإعلام للدول نسخة طبق الأصل شكلا ومضمونا مع الإعلام الغربي.

4- زيادة تأثير المواقع الالكترونية في صناعة وتوجيه الرأي العام بما يتناسق مع الإستراتيجية الغربية والأمريكية في الهيمنة والنفوذ.

5- توجيه وتحفيز الإعلام بأشكاله المتعددة في التركيز على الأفكار السطحية والابتعاد عن الأفكار التي تتيح اليقظة لدى الشعوب المستهدفة.

6- ترويج وتهيئة تقنيات التواصل الذكية بما ينسجم وتأجيج الاضطرابات والانتفاضات والثورات التي شهدتها البلدان العربية وغيرها.

الحرب الناعمة والعالم الإسلامي والعربي:-

مثلت المنطقة الإسلامية والعربية نقطة البداية في شن هذه الحرب من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، فبعد أن اضمحل دور الدول الكبرى في هذه المنطقة التي تعد أهم المناطق ذات الأولوية الجيوستراتيجية والعقائدية والاقتصادية وخصوصا بعد تلاشي دور الاتحاد السوفيتي الذي زاحم كل من أوربا وأمريكا فيها وقيام القطبية الأحادية وارتباطها بمبدأ الهيمنة والسيطرة وترسيخها الصارم للاستحواذ على هذا المنطقة، فأخذت هذه الهيمنة في المغالاة في ممارساتها استنادا إلى مبدأ الشعور بالقلق من بروز قوى أخرى تهدد سطوتها فيها وهذا ما ولد الكراهية والنفور في هذه البلدان من السياسة الأمريكية، ففي سوريا والعراق تعد الحرب الناعمة هي الخيار الاستراتجي الأمريكي لضمان مصالحها وأهدافها.

العراق ونموذج الحرب الناعمة:-

بعد أحداث 11 أيلول2001 تبنت الولايات المتحدة الأمريكية سياسية جديدة في المنطقة وهي بناء شرق أوسط جديد ينعم بالأمن والاستقرار وتحقق فيه الديمقراطية وحدد لهذه السياسة شروط متعددة ونذكر منها شرطا" واحدا يتمثل في إسقاط النظام العراقي الذي تم عام 2003، وبعد شن الولايات المتحدة حربا على العراق وإسقاط النظام فيه لم يتحقق ذلك النظام الذي وعدت به العالم والمنطقة والعراقيين وبالتالي فأن ما موجود في العراق من فوضى أمنية وسياسية واقتصادية لم تستطيع تسويقه لمشروعها في المنطقة، والسبب في ذلك كما يرجعه البعض إنها سعت لديمقراطية شكلية مبهمة غير مدروسة، كما عد الاستخدام العسكري المباشرة في تطبيقها من المآخذ في عدم نجاحها.

من هنا بدأ الإدراك والوعي الأمريكي لواقع المنطقة والبلدان الإسلامية وضرورة التغيير من الداخل وليس من الخارج، فبدأ التحول الأمريكي في تحقيق أهدافها من التدخل المباشر إلى غير مباشر، وهذا ما يعيشه العراق اليوم: تأجيج إعلامي خالق ومغذي للتناحر المذهبي والعرقي بين القوميات والمذاهب ودعم طرف على حساب طرف أخر وجعل الكل متناحرين وفي الوقت نفسه الكل بحاجة إلى الراعي الأمريكي لهذا التناحر، وتبني إستراتيجية تنظيم الأدوار والإشراف على مساراتها في الصراع الدائر في العراق، ومن خلال مشروع الحرب الناعمة في العراق اليوم حققت أمريكا ما لم تحققه حربها في إسقاط النظام ولم يكلفها ذلك إي ضحايا في الأرواح والمعدات كما كانت تكلفها قبل عام 2010 وأبعدت الاتهام المباشر والعنيف الذي يوجه إليها سابقا من احتلال وتواجد عسكري أحرج سمعتها ومواقفها في المؤسسات العالمية والرأي العام العالمي، فضلا عن تصدير الكثير من الأسلحة والمعدات العسكرية إلى العراق وهذا ما عاد عليها بالكثير من المردودات المادية وخصوصا" وهي تعاني من ركود اقتصادي وأزمة مالية.

أخيرا لابد من الذكر إن هذا الأسلوب من الحرب فتي في نوعه، واشد فتكا في الممارسة والاستعمال، فأمريكا لا تستهدف من خلاله المدن والواحات والجبال كما في الحروب السابقة التي تشنها الدول الكبرى على الأخرى، بل تشمل العقول والمبادئ والقيم التي تعايشت عليها الشعوب منذ الأزل، إذ تحاول استبدالها بقيم ومبادئ تلبي تطلعات وأهداف الدول الراعية لها، بل تجعل الشعوب نفسها تتنافر من قيمها وتتجه إلى القيم الأخرى، والعالم الإسلامي ومن ضمنه العربي من الخليج إلى المحيط معرض في كل موروثه الأدبي والأيدلوجي والديني إلى الخطر، ولا توجد حدود وزمان ومكان محدد لهذه الحرب لأنها لا تنحصر في سوريا والعراق ولبنان، بل تشمل كل بلد يسمع فيه للإسلام صوت وتطفح من سهوله وصحاريه وجباله إمدادات الطاقة السوداء.

* باحث مشارك في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية
www.fcdrs.com

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق