المشهد الاستبدادي يكاد يكون حالة شبه دائمة في النطاق العربي يعود بنا إلى الجذور الاولى لقضية الحكم في تاريخنا السياسي، هذا الحكم الذي انحدر الى ملك عضوض تعامل مع المعارضة السياسية بأقصى درجات البطش والتنكيل منذ عهد معاوية حتى يومنا هذا، فالاستبداد هو حالة نشأت ونمت في تاريخنا الممتد قروناً عديدة، وبرغم المحاولات التي جرت هنا وهناك في محاولة لإصلاح نظام الحكم وتزيينه الا ان الاستفراد في الحكم والسيطرة عليه وتوظيفه لخدمة مصالح فردية مازال جاثماً وظاهراً للعيان لا تخطئه العين المجردة.

حتى مع نشوء الدولة التي تدعى بالحديثة تعاني الدول العربية من ازمة شاملة ومتعددة الوجوه والشخوص، فالحالة الاستبدادية ليست الا مظهراً من مظاهرها وعرضاً من اعراضها، لذلك فان هذه الحالة التي تميزت بها الدولة العربية يكون جزء من اسبابها هي الولادة المشوهة لها التي جاءت بفعل العامل الاستعماري الذي كان له دور في تحديد حدودها وشكلها وطبيعتها.

ومن دون الدخول في تفاصيل وحيثيات مفهوم التبعية ومظاهرها واسبابها فمن المؤكد ان الدولة العربية ولدت وهي تحمل في داخلها بذرات لأزمات عديدة واستمرت تحمل في ذاتها عوامل الاعاقة والخلل يطال علاقتها بالجسم الشعبي والسياسي هذا الخلل متأت مما يمكن تسميته بعلاقة التخارج والانفصال بين الدولة والمجتمع، مما ادى الى نشوء علاقة بينهما يسودها التوجس والارتياب بين نخبة الحكم المتسلحة بأدوات العنفية الامنية والعسكرية وجهاز بيروقراطي ضارب ممزوجة بايدلوجيا استعلائية احتقارية للشعب، اما المجتمع الذي يقابل بدوره نخبة الحكم بقدر غير قليل من التوجس وعدم الثقة مع يطبع ذلك غالباً من علاقة نفاقية تظاهرية في ابداء الولاء والطاعة، فليست تلك المشاهد الحماسية والصاخبة من الجماهير التي تهتف بحياة قائد او زعيم والتي تتفانى في ابداء الولاء والطاعة ليس في حقيقة الامر الا محاولة للتحايل على الطاقة العنفية للدولة العربية عبر المراسيم الشكلية والنفاقية.

ومنذ اللحظة الأولي تبنت الدولة ايديولوجية الدولة الابوية الراعية الأكثر فطنة التي ستقوم بكل شيء وما على الافراد والمجتمعات الا تسليم مقاليد الأمور بيد الدولة اي بيد القائمين عليها من عائلات أو قبائل أو مذاهب أو عساكر أو أفراد مغامرين حتى تحل جميع مشاكل المجتمع المحلية والاقليمية والدولية. لكن الدولة التي تحكمت بها قوى اتصفت بواحدة أو أكثر من صفات الفئوية الجشعة الانانية الجاهلة الفاقدة للالتزامات الوطنية أو الاخلاقية والتي نئت بالحمل الذي ادعت انها قادرة على حمله بدأت تفقد شرعيتها سواء أكانت الوطنية أو الثورية أو السياسية، وشيئا فشيئا دخلت الدولة في صراع مع بعض مكونات مجتمعاتها المعارضة المكتوبة بأثار فشل الدولة الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وبدلا من ان تواجه سلطات الدولة الوضع بحوار مع مجتمعها واشراكه الفعلي في تحمل جزء من المسؤولية عمدت الي مزيد من البطش والتهميش والى مزيد من التنازلات للخارج والاعتماد عليه بما في ذلك الارتباط الزبوني الوثيق بالاقتصاد الرأسمالي العولمي ومؤسساته الدولية، والهدف من ذلك واضح وهو منع وجود اية امكانيات مجتمعية كبديل سياسي يحل محل القوى التي فشلت، ومن هنا فإن تدمير المجتمع المدني الوسيط بين الافراد والدولة والحامي للأفراد ضد تعسف الدولة أوجد قطيعة بين الدول ومواطنيها وبذر بذور الفتن والاضرابات العنيفة في المستقبل المنظور.

ان ايديولوجية دولنة المجتمع بإقحام الدولة في كل صغيرة وكبيرة من حياة الافراد وتسييس المجتمع بالنظر لكل نشاطاته الثقافية والاقتصادية والاجتماعية من خلال مقاييس وموازين السياسة والسياسة وحدها، لم يؤد الي دولة قوية متماسكة وانما ادى الى دولة ضعيفة أمام الخارج عاجزة أمام الداخل وحاملة لجرثومة تفتتها وانهيارها في المستقبل، ومع ذلك فإن الدولة العربية التسلطية تصبغ وجهها بكل أشكال المناورات المظهرية فهي دستورية مع تعطيل لبعض مواده المفصلية اما بالتجميد واما بقوانين تزور روح تلك المواد وتلتف حولها، وهي دولة تعددية مع تشجيع واضح للتناحر الفرعي القبلي أو المذهبي أو ما شابهه وتضييق واضح لقيام الاحزاب أو لأي تنافس شريف بينها وبين الاحزاب الحاكمة وهي مع إنشاء النقابات ولكن بشرط اختراقها الكامل من قبل مؤسسات الدولة.

وهي مع الانتخابات البرلمانية ولكن بشرط ان تكون مظهرية ولا تأتي الا بأنصار السلطة وزبانيتها وعبيدها، وهي دولة الحريات ولكن بشرط ان يكون الاعلام الرسمي وغير الرسمي تابعا لها وممجدا لمنجزاتها الوهمية، وهي دولة القانون والمواطنة والفرصة المتساوية ولكن بشرط اعطاء الافضلية لأفراد جماعة الحكم أيا كانت انواعهم وتقديم الموالين على المعارضين وسد منفذ القضاء العادل القادر على النظر في تلك المظالم، فالدولة العربية غالباً ما تقدم المؤقت على الدائم وبعد ذلك تستغرب تلك الدولة وجود عنف سياسي وتطرف أو نشاطات غير علنية أو احتماء مماثل لاحتمائها بالخارج أو ذلك ان كل طرق القانون والمؤسسات غير المنحازة والتساوي في المواطنة والأمل في تداول السلطة قد سدت في وجه الفرد والجماعة.

ان علاقات الدولة العربية بمجتمعها المحزنة عبر التاريخ البائسة في الواقع الذي نعيش تمثل سدا منيعا امام النهضة والتنمية العربيتين انها عبء ثقيل تنوء به الجبال ولانه كذلك سيحتاج لقيام ما يسميه البعض بالكتلة التاريخية التي تضم اطيافا مختلفة وايديولوجيات غير متماثلة وجماعات غير منصهرة ولكنها تجتمع وتعمل من أجل هدف انهاء هذه الاشكالية وقيام كتلة تاريخية على المستويات الوطنية، أي تفعيل العمل بمقتضى مبدأ المواطنة بجوانبه السياسية والاجتماعية والثقافية اصبح مطلبا لإنقاذ العرب من ورطتهم مع الدولة التسلطية ومع المجتمع المقموع وللمساهمة في انقاذ بشرية تعيش الآن بالفعل حياة الجهالة والتخلف.

ان علاقات التبعية تعتبر من العوامل المهمة التي تؤثر على ديناميات العملية السياسية وانماط العلاقات والتوازنات داخل الدول العربية، فالدولة التابعة لايمكن ان تكون دولة ديمقراطية او دولة حريات، بل ان النخب الحاكمة في الدول التابعة غالباً ما تعمل على تكريس حالة التبعية وعلاقاتها وتستخدم القوة لمواجهة أية قوى او تيارات داخلية ترفض هذه النوعية من العلاقات وما يترتب عليها من اثار وتداعيات، كما تولي الدولة العربية اهتماماً كبيراً لبناء مؤسسات القهر والقمع وتحديثها الى الامر الذي يجعلها اكثر المؤسسات تحديثاً وتطوراً.

وعلى الرغم من بعض الخطوات التي اتخذتها بعض الدول العربية خلال السنوات الاخيرة على طريق التعددية السياسية والتحول الديمقراطي، الا انها كانت في الغالب خطوات محدودة إتخذتها الدول المعنية مضطرة لتجاوز بعض أزماتها الداخلية وللتكيف مع بعض الضغوط الخارجية، ومن هنا جاءت هذه التحولات محاطة بالكثير من القيود التي افرغتها من مضمونها الحقيقي.

لذلك ان الدولة العربية ستظل تحت التهديد الدائم بعدم الاستقرار ويشوبها الطابع الاستبدادي ما لم تفك الارتباط بالخارج وان تتحول الى دولة وطنية ديمقراطية وان تنجح المجتمعات في السيطرة على الدولة والقضاء على الطابع الاستبدادي لها وتطوير وظيفتها كأداة شرعية عاملة على تنظيم وتجسيد الإرادة الجماعية.

* مركز المستقبل للدراسات والبحوث/المنتدى السياسي
http://mcsr.net

اضف تعليق