لا شك أن البحث عن التكامل الإنساني يستلزم أن يكون الانسان جاداً في استكشاف كل الأشياء التي تؤدي إلى إحداث خلل في منظومته الأخلاقية والسلوكية، ثم يضع مايكتشفه على طاولة النقد الصريح؛ لينطلق إلى آفاق جديدة في الحياة.

ولعل أكثر الأشياء التي يجب الكشف عنها أو بتعبير أدق الكشف عن جذورها ومسببات استفحالها؛ هي أمواج التعصب والكراهية التي تجتاح العالم بفيضانات إيديولوجية من منابع فكرية وعقائدية مرتكزة على تراث تم تزييفه بفعل فاعل ممنهج، ومن ثم الاعتراف بخطأ مسايرة هذه الأمواج باعتبارها من المسلمات، ثم الانطلاق بعدها لعملية تصحيح المسار الخاطئ.

ولما كان للأديان حضورها المهيمن على البشرية؛ كان لأعدائها المتضررين من منظومة قيمها الاصلاحية، كان لهم أن يعبثوا بأهدافها وتسامحها وسعيها للارتقاء بالإنسان؛ لذلك لابد من مراجعة فاحصة لحقيقة الأديان والعودة إلى نصوصها المقدسة، وفضح الأيادي الخفية التي أرادت تشويه قيم التسامح والأخلاق، وعملت على رسم صورة مأزومة للأديان في الذهنية الجمعية للعالم الإنساني.

يقول الدكتور عبد الجبار الرفاعي: "مالم يتسع حقل مقارنة الأديان لدى الباحثين في الدراسات الدينية؛ لايمكن تصويب سوء الفهم والأحكام المسبقة، وحذف الكثير من الأخطاء المتراكمة في فهم أتباع ديانة لمقولات ومعتقدات أتباع ديانة أخرى تتوالد من سوء الفهم، والأحكام المسبقة دائماً أحكام إقصائية حيال الآخر المختلف. تتكفل الدراسات المقارنة للأديان بيان مكانة كل دين، والأثر والتأثير المتبادل بينه وبين الأديان الأخرى المنتمية للجغرافية الروحية ذاتها، واكتشاف ديناميكية حضوره في حياة الشعوب المنتمية إليه".

يحيلنا كلام الدكتور الرفاعي إلى علم مقارنة الأديان وإلى مناهج الدراسات المقارنة من خلال دراسة دين أو أكثر وهو موضوع عميق ومهم، ويدخل في صلب مطلب الكشف الضروري، خصوصاً على مستوى التحديات الأخلاقية التي تواجه الإسلام اليوم، ومن أبرزها هيمنة الفكر الأصولي الجهادي عبر ممارساته اللاإنسانية المنتشرة هنا وهناك، وعلى مستوى الدور الذي يمكن للمثقف النخبوي أن يلعبه في هذا المجال الحيوي. والسؤال الملح هنا: هل يستطيع المثقف النخبوي فعلاً أن يمارس عملية الكشف هذه بتجرد تام وتحرر؟ هل يوجد مثل هذا المثقف في عالمنا المأزوم طائفياً؟ قد يبدو التساؤل تشاؤمياً لكن الواقع يفرض نفسه وبقوة، إذ تابعت في موقع إلكتروني معين إعلاناً عن صدور كتاب يعنى بالفلسفة الإسلامية، ومن الطبيعي أن يكون الموقع والقائمون عليه مهتمين بالمعرفة أو من هواة الاطلاع على أقل التقادير وهو شيء مفرح بطبيعة الحال، لكن الصدمة كانت حين قرأت ملاحظة صغيرة أسفل الاعلان تقول: "مؤلف الكتاب شيعي"!! ترى ما الداعي لوضع هذه العبارة التي بدت وكأنها تحذير مسبق؟ كيف يمكن لنا إيجاد نخبة فكرية تقدم المعرفة للآخرين وهي تعيش الأزمة المذهبية بنسب قد ترتفع عن نسب ذات الأزمة عند البسطاء!!.

المفترض أن يكون المثقف النخبوي ــ المهتم بشؤون العقائد طبعاً ــ شغوفاً بمتابعة التراث الديني وأن يكون له فهم في طبيعة الأنساق التي تحرك الواقع الديني سلباً أو إيجاباً، لا أن تنعكس على سلوكياته أزمات هذا الواقع الملتهب؛ لأن ذلك سيقود لنتائج أكثر سلبية وتجعله أبعد مايكون عن الوسطية والاعتدال.

على المثقف المهتم أن يساعد الآخرين على فهم الأدوار التي تريد العبث بمنظومة القيم، وليس بالضرورة أن يكون داعية بقدر مايكون أميناً في إعطاء التصورات كماهي وبدون تعصب او انحياز حتى وإن وجد السلبيات الكثيرة في متبنياته الدينية والعقائدية، لاأن يكون مجرد صدى لمقولات التكفير والإلغاء وإقصاء المختلف ، والحث على هدر دمه ومصادرة حياته، وهذا لن يتم مالم تكن هناك رغبة نخبوية حقيقية تعي ضرورات الكشف والتقصي، وبالتالي يكرس أنموذجاً للحياة المعتدلة المتصالحة مع مفاهيم القبول بالمختلف بمعايير رائدها الأخلاق والتواصل وتبادل الثقافات والمعارف عن طريق نسيج اجتماعي أخلاقي متماسك يعمل على صنع الأثر الأخلاقي الذي سيكون حتماً فاعلاً في أية عملية تدعو للخير والصلاح.

الدين والتبرئة الشكلية، ثمة إشكاليات تُطرح بكثافة، ويطرح الدين أو منظومة العقائد سبباً رئيساً فيها وفي تداعياتها ؛ لم تعد قضية الكتابات الشكلية والإنشائية التي تدافع عن الدين أمراً ذا فائدة، خصوصاً من جانب النخبوي الديني المحاصر بوسائط ترويجية وتسويقية مذهلة للفكر المتشدد والمبشر بالعنف، المطلوب اليوم هو الولوج للعمق أكثر وتقديم الدين والعقائد في صورة ماتحققه من مكاسب على الصعيد العقلي المتكامل مع فطرة الانجذاب البشري من جانب، وكذلك في تشجيعه على تحصل العلوم والمعارف الانسانية ، ويتطلب ذلك سعياً حثيثاً في التأسيس لهذا المطلب والبدء به من المناهج الدراسية الأولية صعوداً لمستوى الدراسات العليا، والإيمان بحركية الدين وحيويته وقابليته على التماهي مع كل جديد.

الواقع اليوم يدعو وبإلحاح إلى ضرورة أن تكون هناك مصارحة ودعوة للكشف، ودراسة المناهج التي أنتجت عقائد متشددة أضرت بالإنسان وبقيمته الكونية الكبرى، وجعلت المعايير الأخلاقية تنحدر لمستويات خطيرة، والبحث الجاد والتقصي المنصف والمتجرد كفيلان بكشف الخلل الذي أصاب البنية الأخلاقية لمنظومة القيم الدينية ، وإعادة إصلاح العلاقة الإيمانية التي تربط الإنسان بالله تعالى من خلال وسائط مضيئة ومتوهجة طاهرة مطهرة بكتابه العظيم، هذه الوسائط هي التي تقدم المعنى المغيب عن جوهر الدين وتسامحه، فمشكلتنا مع الدين هو المعنى المغيب الذي ماإن نجتهد في البحث عنه واكتشافه حتى تنفتح أمامنا سبل السعادة واليقين.

اضف تعليق