رسمت التقارير الامريكية الحديثة، خريطة ثلاثة اقاليم عراقية على ضوء ما يحصل الآن في العراق من تصادم طائفي وعرقي، وفشل حكومة التحالف الوطني في تحقيق ذلك الذي كانت تتطلع اليه الإدارة الأميركية في عراق تعتقد انه سيكون نموذجا ديمقراطيا في الشرق الأوسط.

وبينما عاد الحديث من جديد عن مشروع جو بايدن نائب الرئيس الأميركي، بشأن مستقبل العراق، إلا ان هذا الاعتقاد بدا الآن وهماً في واقع مضطرب أصبحت فيه النعرات الطائفية تتحكم في أوضاع العراق السياسية والاجتماعية، حتى بات من المتعذر تحقيق الاستقرار المنشود لهذا البلد، كما يقول التقرير الذي أعده فريق عمل على ضوء زيارات اخيرة، قام بها بعض اعضاء الكونغرس الى بغداد.

ويشير التقرير الى استنتاجات خطأ في تقارير سابقة، كانت توهم الإدارة الأميركية بوجود تطورات ايجابية في واقع العراق، منذ عهد بريمر الحاكم الأول للعراق بعد الغزو الاميركي عام 2003، مما ادى الى اطمئنان مبني على الوهم ظل لغاية الآن السبب الرئيسي في موقف أميركي متباعد يتسم بعدم التدخل في أوضاع العراق، في حين كان من المفروض ألا تترك الإدارة الأميركية هذا البلد، ليصبح نموذجا لعدم الاستقرار عكس ما كانت تعتقد، وتترك انطباعا بانها كانت السبب وراء ما يحدث الآن في العراق، وهو انطباع قد يتجاهل دور جهات خارجية تغذي الصراع الطائفي لعدة أسباب.

ويشير التقرير الى ان المشاكل التي تعصف الآن بالعراق لا يمكن حلها وتجاوزها، من دون عزل طائفي يكون فيه لكل من السنة والشيعة والأكراد وضع سياسي وجغرافي ومعنوي في ثلاثة اقاليم مستقلة تجعل هذه الطوائف أكثر انسجاما مع عراق فدرالي، يوسع دائرة الخيارات لكل طائفة، كما دعا جو بايدن منذ عام 2004.

ورغم ان هناك في جميع هذه الطوائف دعوات لرفض تقسيم العراق والفدرالية، والالتزام بحكومة مركزية تتحكم بالموارد، كما يقول التقرير، الا ان تلك الدعوات تصدر عادة من جهات وأشخاص حكوميين يؤمنون في الواقع بعكس ما يقولون. ويشير التقرير الى ان تركيا وإيران من جهتيهما يتمنيان الوصول الى هذا التقسيم ويدعمانه. لكن التقرير يعترف بوجود مشاكل جمة في تحقيق الأقاليم الثلاثة، قد تؤدي الى تعثر هذا المشروع، منها التداخل المناطقي او ما يسمى بالمناطق المتنازع عليها، وتقاسم الموارد وكيفية إدارة العاصمة وغيرها من الأمور التي تتطلب وضع دستور جديد ينسجم مع الواقع الجديد.

وينتقد التقرير ابتعاد ادارة اوباما عن التدخل المفترض ان يكون في بلد ما زالت اكثر المشاكل فيه ناتجة عن وجود أميركي مباشر، امتد لما يقارب ثماني سنوات. وان هذا الابتعاد ترك تلك المشاكل تزداد سوءا، مما اعطى انطباعا بان واشنطن تركت هذا البلد في مهب الريح، من دون مسؤولية أخلاقية. ولا ينسى التقرير الإشارة التقليدية الى ما يسمى بالحرب الأهلية المتوقعة، اذ شهدت بغداد صداما طائفيا مسلحا، تلعب فيه الميليشيات الطائفية دورا محركا له. ويرى الصحفي الامريكي آدم تايلور في مقال نشره في مدونة صحيفة الواشنطن بوست أن العراق قد يشهد بالفعل تقسيما بفعل الاحداث المتسارعة التي جرت خلال الايام الاخيرة فيه، مرجحا تقسيمه إلى ثلاث مناطق كوردية وسنية وشيعية.

ويقول تايلور في المقال في عام 2006 وبينما كان العراق ينزلق الى صراع مذهبي، كتب رجلان مقالة رأي في صحيفة نيويورك تايمز. وجادلا بالقول "لا يسعنا الحفاظ على عراق موحد إلا من خلال تطبيق اللامركزية فيه، بمنح كل مجموعة عرقية-دينية- الكورد، العرب السنة، والعرب الشيعة، المجال لتسيير شؤونهم بأنفسهم، وترك الحكومة المركزية مسؤولة عن المصالح المشتركة".

أحد كاتبي المقال كان ليزلي غيلب، الرئيس الفخري لمجلس العلاقات الخارجية. وكان الاخر السيناتور الامريكي عن ديلاور، جو بايدن. واثارت هذه الفكرة بعض الجدل في حينه، بعد وصف المنتقدين لها "بالتقسيم". ولكن المنطق وراءها كان يمكن فهمه.

فالعراق ينقسم الى مناطق محددة وفق مجموعات عرقية ودينية معيَنة: الشمال الكوردي، الوسط السني، والجنوب الشيعي. ولقد رسمت الامبراطورية العثمانية الحدود المعاصرة للعراق، وجاء بعدها الانتداب البريطاني. وبمقدورك القول ان تلك الحدود "مصطنعة".

ولقد شعر الكثيرون ان صدام حسين وحكومته التي هيمن عليها السنة كانت قادرة على الحفاظ على حكومة مركزية وطنية تتبع تكتيكات قمعية واستبدادية. ولكن ذلك لم يتوافق مع الديمقراطية المعاصرة، وكان الخوف انه في حال منح المزيد من السلطات للمناطق، فإن الصراع لابد وان يكون حتمياً حينها.

ونظراً للأحداث الاخيرة، يبدو ان لهذه المخاوف ما يبررها. فالدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش)، الجماعة الاسلامية المتشددة التي ولدت من رحم القاعدة، سيطرت على العديد من المناطق السنية في العراق، بما فيها مدينة الموصل.

ويبدو ان حكومة بغداد التي يهيمن عليها الشيعة، عاجزة عن ارغام جيشها على مواجهتها في ساحة المعركة، والأسوأ، يبدو ان سياسات الحكومة السابقة دفعت العديد من السنة المعتدلين الى قبول داعش، ولو على مضض.

وفي اثناء ذلك، يسيطر الكورد على مدينة كركوك الشمالية، التي تعد واحدة من المناطق القليلة المتبقية المتنازع عليها. وقد احتشدت المليشيات الشيعية لحمل السلاح.

فعليه، العراق بلد مقسم بحكم الواقع، وكما ذكرت ليز سلاي في تغريدة لها "العراق في طريقه الى التفكك، لا يمكن قول غير ذلك".

خلال اتصال هاتفي أجري معه يوم الخميس، شرح غيلب ان الوضع الراهن هو تحديداً ما كان يخشاه، بقوله "إنها اسوأ الظروف على الاطلاق- الفوضى".

يحرص غيلب على التأكيد انه وبايدن لم يؤيدا قط تقسيم العراق، كما يوحي منتقديهما. وعوضاً عن ذلك، ما كان يأملان بتحقيقه هو حكومة فيدرالية" مثل الولايات المتحدة أو سويسرا". ويضيف "أعتقد ان التقسيم يقضي على قابلية النجاح الاقتصادي للمناطق". ورداً على سؤال بشأن امكانية حدوث هذا حتى مع سعي حكومة بغداد الاحتفاظ بالوحدة، أجاب بالإيجاب بالقول "هذا هو الخطر حالياً".

حظيت خطة بايدن وغيلب بموافقة مجلس الشيوخ في عام 2007، رغم انها لم تكن ملزمة ولم تقنع الرئيس جورج دبليو بوش. ويبدو ان الخطة فشلت في ارغام المالكي. ورغم ان الدستور العراقي ينص صراحة على منح السلطات للمناطق، إلا ان المالكي أعاق عدداً من مساعي الكورد والسنة نحو الاقلمة، وبالتالي سمح لحكومته المركزية ان يهيمن عليها الشيعة في نهاية المطاف.

حتى اذا تردد بايدن وغيلب في استخدام كلمة "تقسيم"، فإن آخرين ليسوا كذلك. فقد وصف بيتر غالبريث الوضع ببساطة عام 2007 بالقول "دعنا نواجه الامر: التقسيم نتيجة افضل من حرب اهلية سنية- شيعية".

يؤيد غالبريث الدبلوماسي الامريكي المخضرم والسناتور عن ولاية فيرمونت منح سلطات أكبر من الفيدرالية. ورداً على سؤال حول التطورات الاخيرة، كان واضحاً تماماً بالقول "انها نهاية العراق. انه تقسيم للعراق وفق خطوط المكونات الثلاث. الامر لا يتعلق بقدوم عدد صغير من مقاتلي داعش الى المناطق السنية ودحر جيش عراقي أكبر عدداً واقل روحا قتالية، بل ان السكان ازدادوا عداءاً للجيش العراقي الذي يعتبرونه جيشاً للشيعة".

وتابع يقول "خلال السنوات الاربع والعشرين الماضية، سيطر الكورد على كركوك ويقومون بحمايتها"، مضيفاً ان "كورد العراق لم يرغبوا قط ان يكونوا جزءاً من العراق، ويتحدثون علانية الان عن الاستقلال".

ويجادل غالبيرث بالقول ان المالكي ضيّع على نفسه فكرة الفيدرالية التي تبناها غيلب وبايدن، بالقول "سعى الى إدارة العراق المركزي نفسه ذي العقلية الاستبدادية والذي كان عليه الحال على الدوام، ولكن لم يكن يحظى قط بالقوة".

لقد ثبت ان فكرة الاختلافات المذهبية في العراق عصية على الحل لم تحظ بقبول الكثيرين، ولاسيما الساسة العراقيين، الذين إنتقد العديد منهم بايدن بعد تمرير الخطة في مجلس الشيوخ عام 2007. وكشف استطلاع اجرته هيئة الاذاعة البريطانية في ذلك الوقت ان تسعة بالمئة فقط من استطلعت أراؤهم أيدوا "تقسيم البلد الى ثلاث دول".

رايدر فيسر المؤرخ بالشأن العراقي الذي يعمل في المعهد النرويجي للشؤون الدولية، إنتقد بشدة الطريقة التي تؤكد عليها الولايات المتحدة في التمثيل الطائفي النسبي بدل الوحدة العراقية الوطنية. ويرى ان الوضع الراهن كارثي، ويتخوف من اتساع رقعته. وكتب في رسالة أرسلها بالبريد الالكتروني "إن تقسيماً رسمياً للعراق سوف يصب الزيت على النار في سوريا، ويمكن ان يزيد من الاحتقان الطائفي الحالي في بلدان كلبنان والسعودية".

ويتفق غالبريث انه من الصعب رؤية كيف يمكن تفسير الوضع الراهن بإيجابية. ويجادل، مع ذلك، انه ليس بمقدور أحد عمل الكثير في الوقت الراهن. ويضيف "لقد حدث، وتتشكل ظاهرة اوسع نطاقاً: نهاية تسوية الحرب العالمية الاولى. حيث انتهت في اوربا في 1989-1991 مع يوغسلافيا، ويحدث الامر الان مع سوريا والعراق".

تعكس تصريحات غالبريث خريطة افتراضية رسمتها العام الماضي الخبيرة في السياسة الخارجية روبن رايت التي تخيَلت وجود "سنستان" و"شيعستان" و"كوردستان"، و"علوستان" فيما يشكله العراق وسوريا.

بلا شك، يشغل جو بايدن منصب نائب رئيس الولايات المتحدة منذ عام 2008. ولم تلق آماله في عراق فيدرالي يمنح سلطات أكبر لمناطقه، الاهتمام اللازم منذ تسنمه منصبه. وفي عام 2010، وبعد ان بدا ان الصراع الطائفي الذي خيم على العراق في طريقه الى التهدئة، تحدث بايدن بإيجابية أكثر عن مستقبل العراق في سياق مقابلة مع محطة سي ان ان، بالقول ان ذلك يعد "احد اكبر انجازات هذه الادارة".

اذن يمكن القول ان اقلمة العراق من وجهة النظر الامريكية قد رسمت ملامحها منذ زمن ويبرز جليا من خلال ما تم استعراضه وتبقى الايام حبلى بما ستلد في مشهد لا يمكن تكهن ما سيؤول اليه مستقبلاً.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق