من مصاديق السعادة مفهوما وتطبيقا.. الاصرار الذي تمثل في شخصية الامام الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه للوصول الى أهدافهم غير مبالين بحجم التضحيات ستكون دافعاً اساسياً في توجيه الأهداف والحفاظ عليها، وعندما نتأمل في سيرة أصحاب الحسين(ع) نرى أنهم لم يهتموا بالظواهر والماديات وانّ أهدافهم كانت تنبع من الداخل...

السعادة هي من الأكثر الكلمات بحثاً في العالم الافتراضي والعالم الواقعي، فكم من القصص التي سمعناها ويبحث أبطالها عن السعادة، وكم من قصص أخرى لنا ولغيرنا سنورثها الى الأجيال القادمة، والجميل في هذه القصص اننا نحب دائما ان نسمع ان نهايتها سعيدة ولكن في واقع الحياة في كثير من الاوقات، النهاية قد لا تكون سعيدة وليست كما نحب او نحلم.

لماذا نبحث عن السعادة؟!

الانسان في كل مجريات حياته يبحث عما يسعده لكي يبقيه في حالة من الارتياح والسكون والاطمئنان، فقد أظهرت دراسة أننا نعمل بجدية أكبر عندما نكون سعداء. ووفقًا لأحد الأبحاث من جامعة وارويك التي أجراها الاقتصاديون وجدوا أنّ السعادة تجعل الناس أكثر إنتاجية بنسبة 12٪.

لكن يبقى السؤال أنه في بعض الحالات، مع كل الصبر والجهود المبذولة لنكون صالحين، لماذا لا نشعر بالسعادة؟ هل السعادة حقًا في العمليات التجميلية والرحلات الترفيهية والمنازل الفخمة التي يحصل عليها 1٪ فقط من الناس ويضطر الآخرون إلى العمل بجد للحصول عليها؟ اذا كان الجواب نعم، اذن لماذا عندما نسافر او نشتري لانشعر بالسعادة وجل ما نشعر به لحظات فرح عابرة ومؤقتة؟

يكمن الجواب في أن كلمة (السعادة) مفردة ذات أبعاد عديدة في معانيها ولذا ينبغي التفريق بينها وبين كلمة (السرور) فالسرور يريح النفس لوقت أو أوقات محددة لكن السعادة تمثل فرحاً وابتهاجاً دائمين.

العلوم المعرفية وبالخصوص علم النفس الحديث تعرّف السعادة كمصدر للشعور بالسلام والطمأنينة التي يتبع معرفتنا بما نحن وبمعرفة ما ينمو في وجودنا، والنمو يعني النمو الروحي والنفسي لكل شخص الذي بواسطة هذا النمو عقل الانسان وذكائه وقدراته تكون موجهة في سبيل ذلك.

من مصاديق السعادة مفهوما وتطبيقا هو ما عاشه الامام الحسين (عليه السلام) وأصحابه الأوفياء فكما نقرأ في زيارة الأربعين: «اَللّـهُمَّ اِنّي اَشْهَدُ اَنَّهُ وَلِيُّكَ وَابْنُ وَلِيِّكَ... اَكْرَمْتَهُ بِالشَّهادَةِ وَحَبَوْتَهُ بِالسَّعادَةِ»، وفي فقرة أخرى: «عِشْتَ سَعيداً وَمَضَيْتَ حَميداً»[1]، وفي الزيارة المطلقة للامام الحسين(عليه السلام) نخاطب الشهداء بقولنا لهم: «فُزْتُمْ‏ فَوْزاً عَظيماً»، فمن هو الانسان السعيد طبقاً لما عاشه أصحاب الامام الحسين (عليه السلام)؟!

على ضوء الدراسات التي أجريت في هذا المجال وعلى ضوء الدراسة التحليلية لأصحاب الامام الحسين (عليه السلام)، فالشخص السليم والسعيد يتمتع بأربع خصائص النفسية التالية:

1- أهدافهم تنبع من الداخل:

كما أنّ الانسان عندما يركب السيارة فانه يقودها الى غاية معينة، فانه أيضاً في حياته لابد أن يسير نحو هدف معين، الهدفية جزء طبيعي ولاينفك من حياة الانسان حيث يعطى لحياته معنى، ويرشده الى الطريق، وكذلك يشحن النفس الإنسانية حماساً وتحفيزاً، ولكن طبيعة الهدف تختلف من انسان الى آخر، فالبعض يجعل هدفاً في الخارج نصب عينه ويسعى نحوه، ‌وأحدهم يطمح ليحصل على شهادة معينة وآخر يسعى ليحصل على وظيفة مرموقة أو بيت راقي و...

ولكن الذي يحصل أنّ هذا الهدف في الخارج هو شيء محدود وربما عندما يصل اليه الشخص يصيبه الإحباط ويفكر قائلاً: ثم ماذا؟! وماذا سيحدث بعد الان؟ ويعيد التفكير أن يبرمج أوليات حياته في تسلسل ودوران يرجع الى النقطة ذاتها، في أحد البرامج فاجئوا المذيعة بتحقيق حلمها وهو أن ترى المغني الفلاني من قريب، ما حصل انها تفاجئت وفرحت ولكن فيما بعد عندما اجروا مقابلة معها قالت: بعد تحقيق حلمي اصبت بخيبة أمل كبيرة لأنه بعد ذلك لم أعرف ماذا سأفعل.

اما الانسان السليم والسعيد هو الشخص الذي يجعل أهدافه تنبع من داخل وجوده، فالأهداف الذي تنبع من الداخل بما أنها غير مادية فليس لها حدود ولا نهاية لها، إنّ الانسان خلال مسيرة حياته لابد أن يسعى وراء هدف نبيل لا يعود بالنفع له وحده بل لعامة الناس، وأن يسخّر من أجل تحقيق هذا الهدف كل ما رزقه الله من قدرات وامكانيات، فمثلاً أن يكون هدفك بأن تجعل الدنيا مكانا أحسن ليعيش فيه الآخرون، أو يكون هدفك أن تزرع ابتسامات كثيرة على وجوه مهمومة، أو تجعل الدنيا مكانا احسن ليتهيأ ظهور مولانا الحجة بن الحسن (عجل الله فرجه الشريف)، أو ان يكون هدفنا أكبر من كل ذلك وهو رضا الله سبحانه و رضا امام عصرنا (عليه السلام).

انّ الاصرار الذي تمثل في شخصية الامام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه للوصول الى أهدافهم غير مبالين بحجم التضحيات ستكون دافعاً اساسياً في توجيه الأهداف والحفاظ عليها، وعندما نتأمل في سيرة أصحاب ابي عبدالله الحسين(عليه السلام) نرى أنهم لم يهتموا بالظواهر والماديات وانّ أهدافهم كانت تنبع من الداخل، فعندما أمر عمر بن سعد مناديه أن ينادوا بين الجيش أنه قد امهلوا الحسين (عليه السلام) يوم التاسع وليلته، فشقّ ذلك عليه (عليه السلام) وعلى أصحابه، فعند ذلك قام الامام حسين(عليه السلام) في أصحابه خطيباً وقال لهم: «اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أَعْرِفُ أَهْلَ بَيْتٍ أَبَرَّ وَلَا أَزْكَى‏ وَلَا أَطْهَرَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي وَلَا أَصْحَاباً هُمْ خَيْرٌ مِنْ أَصْحَابِي وَقَدْ نَزَلَ بِي مَا قَدْ تَرَوْنَ وَأَنْتُمْ فِي حِلٍّ مِنْ بَيْعَتِي لَيْسَتْ لِي فِي أَعْنَاقِكُمْ بَيْعَةٌ وَلَا لِي عَلَيْكُمْ ذِمَّةٌ وَهَذَا اللَّيْلُ قَدْ غَشِيَكُمْ فَاتَّخِذُوهُ جَمَلًا وَتَفَرَّقُوا فِي سَوَادِهِ فَإِنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا يَطْلُبُونِّي»؛

فقال عبدالله بن مسلم بن عقيل: «يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ مَاذَا يَقُولُ لَنَا النَّاسُ إِنْ نَحْنُ خَذَلْنَا شَيْخَنَا وَكَبِيرَنَا وَسَيِّدَنَا وَابْنَ سَيِّدِ الْأَعْمَامِ وَابْنَ نَبِيِّنَا سَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ نَضْرِبْ مَعَهُ بِسَيْفٍ وَلَمْ نُقَاتِلْ مَعَهُ بِرُمْحٍ لَا وَاللَّهِ أَوْ نَرِدَ مَوْرِدَكَ وَنَجْعَلَ أَنْفُسَنَا دُونَ نَفْسِكَ وَدِمَاءَنَا دُونَ دَمِكَ»؛

وقال زهير بن قين: « يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ وَدِدْتُ أَنِّي قُتِلْتُ ثُمَّ نُشِرْتُ ثُمَّ قُتِلْتُ ثُمَّ نُشِرْتُ ثُمَّ قُتِلْتُ ثُمَّ نُشِرْتُ فِيكَ وَ فِي الَّذِينَ مَعَكَ مِائَةَ قَتْلَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ دَفَعَ بِي عَنْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ»[2]؛

وقال القاسم بن الحسن (عليه السلام):« يَا عَمِّ وَأَنَا أُقْتَلُ؟!»، فَأَشْفَقَ عَلَيْهِ (عليه السلام) ثُمَّ قَالَ:« يَا ابْنَ أَخِي كَيْفَ الْمَوْتُ عِنْدَكَ؟!»

قَالَ: «يا عَمِّ أَحْلَى مِنَ الْعَسَل»[3].

فالهدف اذا كان كبيراً، الانسان سيتحمل أي معاناة حتى ولو كان قتلاً أو موتا، بل سيرى هذه المعاناة لابد منها وحلوة المذاق كالعسل.

2- القدرة على اتخاذ القرار ( Decision Making):

يعتبر اتخاذ القرار من أهم المهارات الحياتية التي تشكل مسار وهدف البشر. اتخاذ القرارات في أبسط تعريفاته هو عملية الاختيار الناجح بين أمرين، ولإثبات أنك جيد في اتخاذ القرار، ستحتاج إلى اتخاذ أفضل خيار ممكن في أقصر وقت ممكن، بالإضافة إلى القدرة على إظهار الأسباب التي تدعم قراراتك.

في كل يوم، وربما كل ساعة، نتخذ العديد من القرارات كبيرة كانت أو صغيرة، بسيطة أو مصيرية، حتى يمكننا القول بأنّ كثير من أجزاء حياتنا سلسلة قرارات واختيارات، وهذه القرارات تتفاوت أهميتها؛ لذلك يعد حل المشكلات مهارة تحليلية يبحث عنها العديد من أصحاب العمل عند مراجعة نماذج طلبات المرشحين لوظيفة ما.

قد يندم أحدنا على اتخاذه بعض القرارات، وقد يندم لعدم اتخاذه بعض القرارات الأخرى، الأمر الذي يؤكد لنا أن القرارات نقطة فاصلة ما بين السعادة والنجاح او الخسارة والفشل. فلذا ضعف اتخاذ القرار والتردد فيه من المشاكل التي تواجه البعض في مفترق طرق حياتهم.

في ليلة عاشوراء، عندما أطفأ الإمام الحسين (عليه السلام) المصباح، بقى الأشخاص الذين كان لديهم قدرة على اتخاذ القرار وانتخاب الخيار الصحيح حتى ولو كان صعبا.

وخير مثال في هذا المجال هو عندما رأى الحرّ بن يزيد الرياحي انهم صممّوا على قتال أبي عبدالله الحسين (عليه السلام) قال لعمر بن سعد: «أ تقاتل الحسين؟»

قال: «أي والله، قتالاً أيسره أن يسقط فيه الرؤوس وتطيح فيه الأيدي.»

قال الحر: «أ فما لكم فيما عرضه عليكم رضاً؟»

قال عمربن سعد: «لو كان الأمر اليّ لفعلت ولكنّ أميرك (أي ابن زياد لعنة الله عليه) قد أبى».

فأقبل الحر ومعه رجل من قومه اسمه (قُرّةُ بن قَيس)، قال له: «يا قرة، هل سقيت فرسك اليوم؟»

قال: «لا»،

فيقول قرة فظننت أنّه يريد أن يتنحى من ساحة المعركة فلايشهد القتال ولو أنّه أطلَعني على الذي يُريد لَخرجت معه الى الحسين (عليه السلام)، فيظهر من هذا الكلام أن قرة رجل كان ذو قدرة ضعيفة على اتخاذ القرار، فقد ظهر له حقانية جبهة الامام الحسين (عليه السلام) ولكنه لم يكن لديه القدرة على اتخاذ هذا القرار وأنه ينتظر أحداً ما يتقدم ويتبعه في ذلك، وهذا ضعف بارز في الشخصية يسبب الشعور بالتعاسة او الفشل في الحياة.

فأخذ الحر يدنو من مخيم الحسين قليلاً قليلاً حتى وقف موقفاً من أصحابه وأخذته حالةً من الرجفة، فقال له المهاجر بن أوس: «واللّه إنّ أمرك لمريب، ولو قيل لي من أشجع أهل الكوفة؟ لما عدوتك، فما هذا الّذي أرى منك؟»

فقال الحر: «وَاللَّهِ إِنِّي أُخَيِّرُ نَفْسِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَوَ اللَّهِ مَا أَخْتَارُ عَلَى الْجَنَّةِ شَيْئاً وَلَوْ قُطِّعْتُ وَحُرِقْتُ».

فالقرار الصحيح يكون بهذه الصورة أن يقيّم الانسان كل الجوانب للموضوع، فعبّر الحر عن نقاط القوة ونقاط الضعف بالجنّة والنار، هكذا يكون التقييم دقيقاً، والمرحلة التالية بعد التقييم هو القدرة على اتخاذ القرار بأن يرجح كفة الإيجابيات على السلبيات حتى ولو كان ذلك صعباً عليه أو يخالف مشاعره.

ثم ضرب الحر فرسه قاصداً الحسين (عليه السلام) ويده على رأسه، وهو يقول: «اللّهمّ إنّي تبت فتب عليّ، فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيّك».

فالانسان السعيد مهما كانت مكانته في المجتمع هو الذي يتقبل عواقب سلوكه مهما كانت، فقال لأبي عبد الله الحسين (عليه السلام): «جعلت فداك، أنا صاحبك الّذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق، واللّه الّذي لا إله إلّا هو، ما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضت عليهم، و اللّه لو حدّثتني‏ نفسي أنّهم يقتلوك لما ركبتها منك‏ أبدا، وإنّي قد جئتك تائبا إلى ربّي، ومواسيك بنفسي حتى أموت بين يديك، فهل ترى لي من توبة؟»

فقال ابو عبدالله الحسين (عليه السلام): «نَعَمْ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْكَ، أنتَ الحُرُّ كما سمَّتْكَ أُمُّك حُرّاً في الدُّنيا والآخِرَة«[4].

ان اتخاذ القرار الصحيح له توابع حسنة وسعيدة في الحياة اقلها الوصول الى بعض الكمالات الأخلاقية كالحرية.

3- اليقظة الذهنية (Mindfulness):

اليقظة الذهنية هي عملية فكرية تركز بانتباه قوي لما تحسه وتشعر به في الوقت الحالي دون تفسير أو حكم. بعبارة أخرى أن تترك الماضي والمستقبل وتعيش في الحال، في کثیر من الأحيان الانسان جسمه يعيش في الحاضر ولكن روحه وأفكاره تغوران في الماضي، فتارة الشخص يؤنب نفسه على قرارات حياته في الماضي، وتارة يعيد في فكره ما قاله الآخرون له وأجرحه ذلك.

وتارة أخرى يؤنب نفسه على الإحسان الذي قدمه للأخرين وهم في مقابل ذلك ردّوه بالاسائة، وبإعادة هذا التفكير يصنع الأفكار السلبية أو كتلة من الحقد في قلبه، وبسبب هذه السلبية أو الكراهية في القلب يشعر بثقل في قلبه الذي ستسبب له القلق الشديد وبالتالي ذلك سيسلب الراحة والطمأنينة من حياته، إضافة لذلك في كل مرة يتذكر هذا القول او ذلك السلوك السلبي في الماضي ويفكر فيه فانه سيعيد اثارة المنبه المثير للقلق ويضيف الى ثقل حمل هذا القلق على روحه.

وتارة يعيش جسم الانسان في الحاضر اما روحه وافكاره تسيران في المستقبل برسم أحلام اليقظة والأماني وتمضية وقت زائد في التخطيط والتنبؤ السلبي والمخاوف من الأشياء التي يمكن أن تحدث في المستقبل كالخوف من الفشل أو الخوف من إصابة بمرض خطير أو فقد أحد الأحبة.

تقول دراسة أجريت عبر الهاتف المحمول، إنّ الناس يقضون نحو نصف أوقات عملهم في أحلام اليقظة، ولا يفكرون أو يركزون على عملهم الفعلي. فهذه الأشياء كلها أنشطة مستهلكة للطاقة وتجعل الإنسان أكثر عرضة للضغط العصبي والقلق وأعراض الاكتئاب. مَثَل هذه الحالة هو أنّ شخصاً ما يريد أن يسافر ليوم واحد ولكنه يستعد ويحمل أغراضاً على ظهره تكفيه لسنة كاملة فهل ستكون رحلة ناجحة؟ وهل سيستمتع بهذه الرحلة؟!

يجب أن يركز الانسان على ما يحدث من حوله في زمن الحال ويعيش فيه ويتخذ قراراته وفقا لذلك، في هذه الحالة ستقل احتمالية انغماسه في أفكاره التي تسرح به الى الماضي والمستقبل، وهذا ما نسميه (بالتيقظ الذهني).

يقول أميرالمؤمنين(عليه السلام): «إنّ عمرك وقتك الّذي أنت فيه، ما فات مضى وما سيأتيك فأين قم فاغتنم الفرصة بين العدمين.»[5]

في دراسة حديثة نشرت في مجلة "Clinical Psychology Review" كشف تحليل إحصائي أنّ معظمنا يدرك أن اليقظة الذهنية تدور حول الوعي والتفاعل مع كل ما يأتي في طريقنا، لكننا لا نفعل ذلك. وأجر العلماء بحوثاً حول تأثير التيقظ الذهني على الدماغ بأجهزة حديثة تقيس بها نشاط المخ ووظائفه، وأظهرت النتائج تغيّر في كمية المادة الرمادية وانتشارها في عدة مناطق من القشرة الدماغية وكذلك روابط عصبية.

إذا أردنا أن نعرف كيف يجب العيش في الزمن الحال، علينا أن نرى الأطفال عندما ينغمسون باللعب، كيف يعيشون في لعبهم كأنّه لايوجد شيء آخر في هذه الدنيا، فمثلاً عندما يلعب الطفل "فقاقيع البالونة" كيف يركز على كل بالونة وهي تطير في الهواء ثم تنفجر في الهواء ويلتذ بذلك.. فهذا هو التيقظ الذهني الذي لا يوجد ضجيج عقلي في خلفيته.

نرى في كثير من أصحاب الامام الحسين (عليه السلام) هذه الصفة: كانوا يعيشون في الحال ويتخذون قراراتهم وفق ذلك، فمثلا كتب الامام حسين (عليه السلام) لـ (حبيب بن مظاهر الأسدي) كتاباً للاستنصار: «مِنَ الحُسَينِ بنِ عَلِيٍّ بنِ أبي طالبٍ إلى الرَّجُلِ الفَقيهِ حَبيبِ بنِ مُظاهِر:

أمَّا بعدُ يا حبيب؛ فَأنتَ تَعلَمُ قَرابَتَنا مِن رَسولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله)، وَأنتَ أَعرَفُ بِنا من غَيْرِكَ، وأنتَ ذُو شيمَةٍ وغَيْرَةٍ، فَلا تَبخَل عَلَينا بِنَفسِكَ، يُجازيكَ جَدِّي رَسولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَومَ القِيامَةِ.»[6]

فكان حبيب جالساً مع زوجته، وبين أيديهما طعام يأكلان، فبينا هم في الكلام وإذا بطارق يطرق الباب، فخرج إليه حبيب، فقال: من الطّارق؟ فقال: أنا رسول الحسين (عليه السّلام) إليك. ثمّ ناوله الكتاب، وقرأه وكان حبيب يريد أن يكتم أمره على زوجته، عشيرته وبني عمّه، لئلّا يعلم به أحد خوفاً من ابن زياد لعنه اللّه، فقالت له زوجته: «يا حبيب! كأنّك كاره للخروج لنصرة الحسين (عليه السّلام)»، فأراد أن يختبر حالها، فقال لها: «نعم». فبكت، والقت وشاحها على حبيب وقالت: «إذا تليق لرأسك هذه المقنعة، أنسيت كلام جدّه رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) في حقّه، وأخيه: ولداي هذان سيّدا شباب أهل الجنّة، وهما إمامان إن قاما وإن قعدا؟ وهذا رسوله أتى إليك يستعين بك، وأنت لم تجبه ؟!»

فلمّا عرف منها حقيقة الأمر، قال لها:«أخاف على أطفالي من اليتم وأخشى أن ترملي بعدي»، فقالت: «ولنا التّأسّي بالهاشميّات والبنيّات والأيتام من آل رسول اللَّه واللَّه تعالى كفيلنا وهو حسبنا ونعم الوكيل»،

فقالت: «دعني آكل التّراب، ولا تترك نصرة الحسين (عليه السّلام)»، فجزّاها خيرا.[7] فروي عن حبيب أنه قال: «واللّه لا تصبغ هذه إلّا من دم منحري دون الحسين»[8].

انّ أصحاب الحسين (عليه السلام) كان يمكنهم القلق بشأن المستقبل، وأنه ماذا سيحدث لعوائلهم وأولادهم ومالهم لاسيما أنّ من كان في الجهة المقابلة لهم هو ابن زياد الذي لم يعرف في قلبه أي رحمة، وكان يمكن لهم التفكير في الماضي فحبيب كان صحابي جليل حارب بين يدي رسول الله (صلى الله عليه واله) وأميرالمؤمنين(عليه السلام)، الذي ملأ سجله بالمفاخر والفضائل، حبيب كان يستطيع العيش في الماضي والاكتفاء بالمفاخر التي جناها، ولكنه لم يفكر لا بالماضي ولا بالمستقبل، بل عاش في لحظته واغتنم الفرصة الذهبية التي أتت باب بيته وهو نصرة امام زمانه.

4- إرضاء الاحتياجات النفسية والمعنوية (Psychological and spiritual needs):

تنقسم احتیاجات الانسان الى قسمين: الاولى الاحتياجات الجسمية (الفسيولوجيةPhysiological needs) والثانية الاحتیاجات النفسیة والمعنوية (Psychological and spiritual needs)، اما الاحتياجات الجسمية فهي الاحتياجات المشتركة بين الانسان والحيوان، وغالبا ما يهتم الانسان بها بل ويفرط في الاهتمام بها، فنرى أنّ الانسان اليوم لیس على استعداد أن يجوع ويعطش ولو لساعة واحدة، أو ان يلبس ثياب ممزقة أو غير مناسبة ولو لساعة أخرى، فهو يهتم بهذه الاحتياجات بما يكفي ويزيد. اما النوع الثاني من الاحتياجات فهي تشمل حاجة الانسان إلى الاستقلال والحرية والكمال، والحاجة للحب، والتواصل الفعال التي تشمل التواصل السطحي للانسان مع انسان آخر والتواصل العمودي الذي يأتي في ذروته التواصل مع الله سبحانه وتعالى، والحاجة للعبودية والتعبّد لله عزوجل و...

مع الأسف في عالم اليوم الذي تحكمه الرأسمالية فقد الإنسان الاهتمام بهذا الجانب، فأصبحت نفوس الشباب تشعر بالجوع الشديد في هذا الجانب، فبدل أن تتغذى ارواحهم بالأكل الصحي توجهوا نحو الأكل الفاسد، فنرى الاحصاءات العجيبة المرعبة لإقبال الشباب على المغنيين والفرق الموسيقية كبي تي أس وغيرها، فقد ظهرت فرقة BTS على الغلاف الدولي لمجلة تايم باسم "قادة الجيل القادم"، كما تم إدراجها في قائمة أكثر 25 شخصًا تأثيرًا على الإنترنت (2017-2019) ومئة شخص الأكثر تأثيرًا في العالم (2019)، فالإنسان في ذاته يحتاج بأن يحب ويحبه الاخرون فنرى أنّ الله سبحانه طبقا لهذه الحاجة في وجودنا جعل لنا ائمة نحبهم ويحبون شيعتهم، فاذا لم يوجه الانسان هذه الحاجة نحو الاتجاه الصحيح فانها سوف تتوجه نحو الجهة الخاطئة، فنرى (ريم) الفتاة ذات العشر سنوات ضبطت المنبه لكي تستيقظ في الساعة الرابعة صباحاً لكي تتابع البث المباشر للحفلة الموسيقية، لأنه لم يوجهها والديها أو أحد مربيها الحب في داخلها في الاتجاه الصحيح مثلاً بأن تستيقظ في نفس الساعة لصلاة الليل للعبادة وحب الله سبحانه تعالى، فلقد تكلمت كثيراً مع الناس الذين توفقوا لصلاة الليل انهم عاشوا لذة معنوية هائلة لم يعرفوا مثلها في مواقف اخرى.

كان أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) لهم اهتمام عجيب في جانبهم المعنوي والنفسي، فقد روي عنهم في ليلة عاشوراء: «وَبَاتَ الْحُسَيْنُ وَأَصْحَابُهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَلَهُمْ دَوِيٌ‏ كَدَوِيِ‏ النَّحْلِ‏ مَا بَيْنَ‏ رَاكِعٍ وَسَاجِدٍ وَقَائِمٍ وَقَاعِد»[9]، كانوا يعلمون انهم سيستشهدون، وأنّ مقامهم في الأخرة في العليين من الجنة، وكانوا يستطيعون أن يستريحوا للتهيأ لحرب الغد، ولكنهم حتى الليلة الاخيرة من حياتهم لم يغفلوا بهذا الجانب، وأخذوا ليلتهم كلها بالعبادة والصلاة وقراءة القرآن.

وايضا روي أنه لمّا قتل (حبيب بن مظاهر) بان الانكسار في وجه الحسين (عليه السّلام)، فقال: «إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، وعند اللّه تعالى نحتسب أنفسنا رحمك اللّه يا حبيب، لقد كنت فاضلاً تختم القرآن في ركعة واحدة»[10]، فكيف هو الانسان الذي يختم القرآن في ليلة واحدة؟! انه يعيش مع كل آية من آياته الكريمة حتى أصبحت كلحمه ودمه.

إذا أردنا أن نصبحَ أكثرَ سعادة، فنحن بحاجة إلى العمل على ذلك طبقاً لأولئك الصفوة؛ لأنّ السعادة أقرب مما نعتقد، ويمكن تحقيقها باتباع قواعدَ بسيطة ولكن يبقى علينا أن نعمل كما هم عملوا وأن نعيش كما هم عاشوا.

......................................
[1] مفاتيح الجنان، الشيخ عباس القمي، باب الزيارات المخصوصة لامام الحسين(عليه السلام)، زيارة الأربعين.
[2] الأمالي، الشيخ صدوق، 156.
[3] الهداية الكبرى، حسين الخصيبي، ص204.
[4]اعلام الورى بأعلام الهدى، الطبرسي، ص242.
[5] غرر الحكم ودرر الكلم (مجموعة من كلمات وحكم الإمام علي عليه السلام)، عبدالواحد التميمي الآمدي، ص222.
[6] مكاتيب الأئمة، ج3، ص145؛ موسوعة الإمام الحسين (عليه السلام)، ج ٢، ص ٧٥٥
[7] أسرار الشّهادة، الدربندي، صص 396 – 397/ موسوعة الإمام الحسين (عليه السلام)، ج ٢، مكتب طباعة الكتب المساعدة التعليمية، ص ٧٥٦
[8] أسرار الشهادة، للدربندي، ص396
[9] بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار (ط - بيروت)، ج44، ص394.
[10] أسرار الشهادة، الدربندي، صص281 و281/ موسوعة الإمام الحسين (عليه السلام)، ج ٣، مكتب طباعة الكتب المساعدة التعليمية، ص ٦٠٩.

اضف تعليق