بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولاحول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

يقول الله تعالى في كتابه الكريم: (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) [1]

حق (زيارة قربى رسول الله (صلى الله عليه وآله))

الحديث حول حقوق الله تعالى، وحول حقوق رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وحقوق الأئمة الأطهار (صلوات الله عليهم أجمعين) علينا، حديث متشعب، مترامي الإطراف.

إلا أننا في هذا المبحث سنقتصر على حق من حقوق قربى رسول الله (صلى الله عليه وآله).

"فأت ـ وفي آية أخرى: وآتِ ـ ذا القربى حقه"، واحدى تلك الحقوق هو حق (الزيارة)، أي ان نزور سيد شباب أهل الجنة (صلوات الله وسلامه عليه)، وان نزور الإمام أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه)، وان نزور سائر الأئمة المعصومين، ومن انتسب إليهم من تلك المراتب السامية العالية.

وسوف يدور البحث بإذن الله تعالى حول محاور ثلاثة:

الأول: فقه المصطلحات المزدوجة الاستعمال.

الثاني: الزائر المثالي.

الثالث: أهمية الزيارة الأربعينية، وقيمتها الذاتية، والموضوعية التي تحظى بها.

زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) حج وعمرة

وقبل بيان المحاور الثلاث، نذكر رواية شريفة، على ضوئها نبحث كلا المحورين الأولين، ثم ننطلق الى المحور الثالث ان شاء الله تعالى[2]:

فقد روى في كامل الزيارات عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه صلوات الله وسلامه) قال: قلت له: اذا خرجنا الى أبيك[3]، أفلسنا في حج؟ ـ وهنا موطن بحث فقه المصطلحات المزدوجة الاستعمال ـ قال: بلى... ـ أي انتم في حج، ومعنى ذلك ان زيارة سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه) حجٌ ـ قلتُ: فيلزمنا ما يلزم الحاج ـ لعل السائل أراد ان يتثبت من ان الإمام (عليه السلام) لم يرد (الحج اللغوي)، وإنما أراد معنى أعمق وأدق، وهو انه حج اصطلاحي، والحج اللغوي هو: القصد، مع قيد ان يكون المقصود عظيما، اذ لايقال لكل زيارة أنها حج، فاذا كان المزور عظيما يقال: حججت الى فلان ـ قال (صلوات الله وسلامه عليه): ماذا؟ ـ لعل الاستفهام لكي يتكرس ويتأكد الجواب في الذهن وهذا ما سننطلق منه إلى فقه المصطلحات المزدوجة الاستعمال ـ

قلت: من الأشياء التي يلزم الحاج ـ أي في الحج هناك شروط وضوابط ومحرمات وغير ذلك، وسيظهر لنا ان الإمام (عليه السلام) أجاب بجواب يفيدنا في هذا البحث الذي أسسنا له ـ قال: يلزمك..... ـ ثم ذكر الإمام سلسلة من الأمور المشترطة في الزيارة، بين واجب ومستحب، وسنشير لها في البحث اللاحق إن شاء الله تعالى.

1) المحور الأول: فقه المصطلحات المزدوجة الاستعمال

ان الراوي في الرواية المتقدمة، أطلق كلمة (الحج) والإمام (عليه السلام) أقره على ذلك وأكده ثم بدأ يفصّل.. ومن هنا ندخل الى بحث فقه المصطلحات المزدوجة، او المتعددة الاستعمال، فنقول:

هناك العديد من المصطلحات المزدوجة الاستعمال، نذكر منها:

أ) الجهاد: وهو مصطلح متعدد الاستعمال، اذ تارة يستعمل في الجهاد بالمعنى المعروف: وهو ان يشهر الانسان سيفه او بندقيته، وينطلق الى سوح الوغى والحرب، وتارة يستعمل بإطلاق اخر، مثل قوله (صلوات الله وسلامه عليه): "جهاد المرأة حسن التبعل" فانه جهاد، إلا انه يختلف عن الجهاد بالمعنى الأول، ولكلٍ ضوابط ومحددات تختلف عن الأخر، علما ان الجهاد بالمعنى الثاني (حسن التبعل) لا يراد منه المعنى اللغوي الصرف وهو: بذل الجهد، بل هو مصطلح شرعي جديد.

ب) العدالة: وهو مصطلح شرعي، إلا أن له إطلاقات مختلفة، اذ العدالة في مرجع التقليد لها معنى وضوابط، هي تختلف عن العدالة المشترطة في الشاهدين، كما ان هذين المعنيين يختلفان عن العدالة المشترطة في إمام الجماعة.

ج) الإمام: إن إمامة إبراهيم الخليل (على نبينا واله، وعليه أفضل الصلاة والسلام) التي ذكرها الله تعالى في كتابه المجيد (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) وسائر الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، تختلف عن إمامة إمام الجماعة.

مع أن إبراهيم الخليل (عليه السلام)، وإمام الجماعة، كلاهما يطلق عليه لفظ (الإمام) ولا تجوّز في ذلك ولا مجازية، إلا أن هذا أين وذاك أين؟!

د) الشهيد: وهو من المصطلحات المزدوجة الاستعمال ايضا، فقد ورد في الحديث الشريف:إن "من مات على حب ال محمد (صلى الله عليه وآله) مات شهيدا"، مع ان الشهيد في سوح الوغى والحرب له ضوابط وأحكام، إلا ان من مات على فراشه، وهو محب لإل محمد (صلى الله عليه وآله) فهو شهيد أيضا، بمعنى اصطلاحي جديد، وليس بالمعنى اللغوي وحسب، اذ ان له اثار خاصة.

هـ) الحائر: أي الحائر الحسيني (على ساكنه الآلاف التحية والسلام)، فقد أورد الشهيد (قدس سره) في (الذكرى) رواياتٍ وأقوالا في بيان المراد من الحائر الحسيني:

1ـ انه المساحة المقدرة بـ(5) فراسخ من كل الاتجاهات. انطلاقا من المرقد الشريف.

2ـ انه (4) فراسخ من كل الاتجاهات.

3ـ انه (1) فرسخ.

اما ابن إدريس الحلي فقد ارتأى ان الحائر: هو ما ضمّته أسوار الحرم الشريف والمسجد المحيط به.

بيد ان هنالك رأياً أخر يرى ان الحائر: هو ما كان إلى (25) ذراعا عن المرقد المطهر، او (24) ذراعا، او (27) ذراعا، على ثلاث أقوال.

لكن التحقيق يقتضي صحة كل تلك الأقوال، فإن كل هذه أطلاقات، وقد حمل الشهيد في الذكرى الاطلاقات الثلاثة الأولى ـ والتي اقتصر على نقلهاـ على مراتب الفضل، إلا ان الأمر أوسع من ذلك وأعمق، ولنا حوله حديث فقهي نتركه لوقت آخر إن شاء الله تعالى.

كما ان من الضروري ان تكتب دراسات تخصصية في هذا البحث، اعني (فقه المصطلحات المزدوجة او المتعددة الاستعمال)، فان الآثار الشرعية لكلٍّ من فردَيْ المصطلح المزدوج تختلف عن الفرد الآخر، كما أن الآثار الغيبية مختلفة ايضا، فان (التربة الحسينية) مثلا حيث أن فيها شفاء ورحمة، من أين تؤخذ؟ وما هي المسافة التي لها هذا الأثر العظيم في الشفاء او السجود عليها؟ كذلك (الحائر الحسيني) وما يستتبع تحديده من التخيير بين القصر والإتمام في الصلاة، وهناك حيثيات أخرى نتركها لمضانها.

و) الحج: وهو ايضا من المصطلحات المزدوجة، فقد رأينا كيف ان محمد بن مسلم (رحمه الله) ـ وهو من الفقهاء الكبار ولم يكن مجرد راوي ـ عندما يسأل الإمام (عليه السلام) عن زائر سيد شباب أهل الجنة (صلوات الله وسلامه عليه) فيقول: أفلسنا في حــــج؟ قال: بلى...

فهو (حج) اذن.. وليس (الحج) بالمعنى اللغوي

وجوه الاصطلاحات والاطلاقات المتعددة

فما هو وجه ذلك وكيف يمكننا التعامل مع هذا النوع من المصطلحات المزدوجة؟

نقول: ان الاطلاقات المتعددة لها وجوه:

الوجه الاول: قد يكون ذلك من باب المراتب، وهو وجه من الوجوه، وقد يحمل عليه (الحائر الحسيني) في بعض جهاته.

الوجه الثاني: قد يكون من باب الوجود التنزيلي كما في "الطواف في البيت صلاة".

فالشارع عندما يقول (ان الطواف في البيت) هو (صلاة) يعني انه نزّل هذه الحركات منزلة الصلاة، واعتبرها صلاة حقيقيةً، لكن بوجود تنزيلي.

وهنا نعود إلى صلب الموضوع، ونسأل: هل (الحج) الوارد في كلام الإمام الصادق (عليه السلام) من هذا القبيل؟ اي هل ان حج الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) حج تنزيلي؟؟

فيكون حج بيت الله الحرام هو المعنى الأول، وحج الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) حج تنزيلي؟ ام انه من القسم الثالث الآتي؟.

الوجه الثالث: ان يكون هنالك جامع، فيكون لفظ (الحج) موضوعا لجامعٍ ينطبق على حج بيت الله الحرام كصنفٍ من أصناف هذا النوع، وينطبق على حج الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) كصنف اخر، ولكل منهما ضوابط وشرائط معينة، وهذا أيضاً احتمال.

وهناك احتمالات ووجوه اخرى منها: الاشتراك اللفظي ومنها: غير ذلك، مما نتركه لتفصيل اخر، اذ ان هذا البحث يستدعي عدة محاضرات من الكلام.

اذن المحور الأول الذي ينبغي ان نتوقف عنده هو محور المصطلحات المزدوجة الاستعمال، ومن تلك الاصطلاحات (الحرم، الحائر،....)

2) المحور الثاني: الزائر المثالي

في الرواية المتقدمة يذكر الإمام الصادق (عليه السلام) شروط الزائر المثالي والنموذجي ومواصفاته، ويشير الإمام (عليه السلام) إلى ان الزائر اذا تمتع بهذه الصفات، (فقد تم حجك وعمرتك) بحسب نص كلام الإمام.

ثم يؤكد الإمام (عليه السلام) في نهاية الرواية ان هذا حج، وهذا عمرة، حسب معادلة الاصطلاح مزدوج الاستعمال.

وهنا ينبغي ان نسجل ان البعض قد يتحرج أو حتى يخجل من اطلاق لفظ (الحج والعمرة) على زيارة سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه) تخوفا من الغرب أو الشرق ومن النواصب أو حتى من ضعاف النفوس.

ان من دأب النواصب والمخالفين والغرب والشرق، مهاجمة أتباع مدرسة أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) في شتى الحقول، ومنها حقل المصطلحات الشرعية، ومن المصطلحات إطلاق لفظ (الحج) على زيارة الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه)، ولكن: لا ينبغي التخوف والتحرج من ذلك، ما دامت الروايات الصحيحة الصريحة موجودة، وما دام البيان العقلائي والمنطقي موجوداً، وما دام بناء الشرع في الكثير من القضايا على تعدد الاطلاقات، والتعدد في المصطلحات، فلماذا الخوف والوجل مع ان على الإنسان ان لا يخاف الا من الله سبحانه وتعالى؟ قال تعالى: (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) و(من خاف الله أخاف الله منه كل شيء)؟ وقال تعالى: (لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ)

ثم ان الروايات متعددة في بيان صفات الزائر المثالي، وهذه الرواية هي احدى تلك الروايات الكثيرة التي تبين هذا الأمر بشكل جلي، ومن هنا فان من الضروري جداً ان تكون هناك رسالة عملية للزائرين والسائرين في شتى ابعادهم ومختلف جهات حركاتهم وسكناتهم.

واجبات ومستحبات ومحرمات الزيارة

ولنتوقف عند بعض فقرات هذه الرواية الشريفة قليلا:

لقد أشار الإمام الصادق (عليه السلام) في هذه الرواية إلى بعض الواجبات والمستحبات والمحرمات، في الزيارة:

قال (صلوات الله وسلامه عليه):

يلزمك حُسن الصحبة لمن يصحبك.. ـ وذلك بان يكون الانسان هشا بشا خدوما مبادرا قدر استطاعته الى مساعدة الاخرين، والشد من أزرهم والتخفيف من معاناتهم وعونهم في شتى المجالات.

فلو ان الزائر الاخر الذي جمعك واياه المكان، كان ينزعج – مثلاً - من النور المضاء في الخيمة أو المنزل أو المضيف أو الفندق، فينبغي عليك ان ترجّح رغبته على رغبتك، وكذلك لو وجدته يعاني من الحر أو البرد فبادر إلى فتح النوافذ أو إغلاقها في السيارة أو الحسينية أو غيرها، وان عارضت رغبتك وحاجتك.

ويلزمك قلة الكلام الا بخير ـ وهو ما قد يصلح ان نعبر عنه بـ(ثقافة الصمت الهادف والكلام الهادف)، وان زيارة الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) تعد من أفضل الفرص الاستثنائية لكي نتعلم هذه الثقافة، وهي ان لا نتكلم الا بخير، وان لا نصمت الا صمتا فيه عبرة وفكرة، وفيه تدبر وتأمل، وفيه تزكية للنفس وتطهير لها وتسامي للروح.

- ويلزمك كثرة ذكر الله ـ ان الملايين من الزائرين لو رطبوا ألسنتهم جميعا بذكر الله تعالى ـ وما اكثر من يفعل ذلك ولله الحمد ـ ولو رأيتم جميعاً يلهجون بذكره تعالى رافعين أصواتاً ومخفتين حيناً: (سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله اكبر.. اللهم صل على محمد وال محمد..) وغير ذلك من الاذكار والاوراد والأدعية، لرأيت أروع وأبهى منظر على وجه الأرض، ان ذلك المنظر المهيب المجلل بذكر الحي القيوم، وما اروعه؟ وما اشده تاثيرا في النفوس؟ وما أعلى وأسمى هذه الأصوات والحناجر التي تشدو بالذكر والتسبيح والتكبير؟ وما اسماها مرتبةً عنده سبحانه وتعالى!. تصوروا: كل الزائرين ليلا ونهارا، صباحا ومساءا، يشدون ويصدحون بذكر الله، وبتسبيحه وتقديسه تعالى!!.

ان الكثير منهم يفعلون ذلك، وهم زائرون مثاليون، لكننا نطمح ان يكون الكل بهذه المرتبة او اعلى منها، وبهذه الروح الخاشعة والخاضعة لله تقدس اسمه وعز شأنه.

ـ ويلزمك نظافة الثياب ـ وذلك لوضوح ان كل مسافر يسافر الى مسافات طويلة، ولأيام عديدة أحياناً، يتعرض لأشعة الشمس او المطر او الغبار أو غير ذلك وقد تتسخ ثيابه او بدنه، فيلزمه ـ أي الزائر ـ نظافة ثيابه، ومراعاة هيئته ومظهره، على ان النظافة بشكل عام عنوان رئيسي في الشريعة الإسلامية الخاتمة، وللسيد الوالد u كتاب ضخم باسم (النظافة) في مسائلها الفقهية من واجب ومستحب وغير ذلك.

ولعل تعبير الإمام (عليه السلام) بـ(يلزمك) للمبالغة في التحريض نظراً لصعوبة الالتزام بالنظافة للمسافر أياماً عديدة خاصة في الأسفار القديمة، أو حتى للمشاة في العصر الحاضر.

ـ ويلزمك الخشوع ـ أي ان يكون قلب الزائر خاشعا متعلقا بالله تعالى، وبأهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) حتى لا يفكر في الدنيا وهمومها ومشاغلها ومشاكلها، بل ان يكون خاشعاً إلى درجة ان يكون مصداقا للحديث الشريف "من تذكركم اللهَ رؤيتُه" فما اروع واحلى ذلك: ان ترى كل زائر على طريق سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه)، ذاكرا خاشعا متواضعا متذللا لله عز اسمه!.

ـ وكثرة الصلاة ـ أي تلزمك كثرة الصلاة، فاذا كانت طرق الزائرين على امتدادها وتشعباتها من كل فج عميق، في أوقات الصلاة، تعج بالمصلين جماعة او فرادا فان الزيارة المليونية ستكون محفلا عظيما لذكر الله ومظهراً جليلاً من أبهى مظاهر (إقامة الصلاة) وكما اراد الإمام الحسين (عليه السلام)، وقد شاهدنا الكثيرين والكثيرين جداً – ولله الحمد – يلتزمون بذلك الا اننا نشدد على الاهتمام بالصلاة بشكل اكبر فأكثر، ومن ذلك أن يلتزم الزائرون عند دخولهم الى الخيام للاستراحة، بأداء ركعتين تقربا الى الله وشكراً له جل اسمه واستعانة بالصلاة على مهام الأمور كما ترشد إليه الآية المباركة (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ).[4]

فاذا كان ديدن وشغل الزائر إقامة الصلاة في الخيام والمضايف وفي الشوارع والطرق والأزقة والحارات فسوف يكون هذا الزائر مصداقا لـ (مقيمي الصلاة) وليس مجرد مؤدٍ للصلاة[5] ولعل هذه تشكل افضل دعوة الى الدين ولسيد شباب اهل الجنة (صلوات الله وسلامه عليه) في العصر الحاضر، مما يتأتى من عامة الناس.

- والصلاة على محمد وال محمد، ويلزمك التوقي عن اخذ ما ليس لك ـ وهذا من المحرمات كما هو واضح، فعلى الزائر ان لا يأخذ ما ليس له، ولو كان مداس – حذاء ونعل - احد الزائرين او غيره الا بعد الاستئذان منه، او معرفة انه من الاشياء المعدة لخدمة الزائرين من قبل اصحاب المضائف والمواكب.

- ويلزمك ان تغض بصرك ـ ولاحظوا الدقة هنا، فالامام (عليه السلام) يقول (.. ان تغض بصرك..) ولم يستخدم كلمة (من) أي لم يقل (ان تغض من بصرك) كما ورد في الآية الشريفة (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) [6] فما السر في ذلك؟ لا بد ان هناك فرقاً دقيقاً؛ لان الإمام (عليه السلام) لا ينطق بكلمة الا بوجه، ولا يترك ذكر كلمة الا لحكمة.

وبيان ذلك الوجه ان نقول: لان المطلوب من الزائر هو فوق المطلوب من عامة لناس فان المطلوب من عامة لناس هو (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) أي بعض الغض، اما الزائر فعليه كل الغض، بحيث يحتاط حتى في النظرة الاولى التي لا اشكال فيها حسب الصناعة الفقهية اذا لم تكن عن علم وعمد، فالأفضل للزائر ان يكون الزائر منكس الرأس حتى لا تقع حتى نظرته الأولى على وجوه النساء الاجنبيات، وحتى إلى ما حلّ له منها[7] وذلك كله يشكل دورة تربوية تنفعه طوال السنة، إذ ان من تعود على ان ينكس راسه أياماً يسهل عليه الاستمرار على ذلك طوال أيام السنة.

وذلك لأن الأفضل للمؤمن دون شك أن يتجنب ان تنطبع صور النساء الأجنبيات، في ذهنه، حتى ما حلّ منها بقيوده، وذلك لجهات عديدة، منها: الأثر الوضعي الذي يتركه انطباع تلك الصور في خزانة ذهنه وحافظته[8] حتى وإن كانت تلك الصور من جهاز التلفاز أو غيره.

- ويلزمك ان تعود إلى أهل الحاجة من اخوانك اذا رأيت منقطعا من اخوانك، والمواساة ـ وهذه الرواية أيضاً تحدد العلاقة مع المجتمع المحيط بالزائر، من الزائرين وغيرهم.

ومن الملاحظ ان بعض الناس من طباعهم المبادرة للخدمة، حتى مع شدة تعبهم، خلافا للبعض الذي قد يتراخى بسب التعب، ولاشك ان قضاء حوائج الاخوان من أعظم القربات بحيث ورد: ان (من قضى لاخيه المؤمن حاجة، قضى الله له يوم القيامة سبعين حاجة، ايسرها دخول الجنة) تأملوا (أيسرها دخول الجنة) فما أعلاها إذن؟ وفي رواية أخرى (من قضى لأخيه المؤمن حاجة قضى الله له مائة ألف حاجة!)

وقضاء الحوائج مطلوب بشكل عام، وفي كل الأوقات والأماكن، لكنه إذا كان في طريق سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه) وزيارته العظيمة حيث الملايين من المؤمنين وكثرة الحوائج للناس من مأكل او مشرب او مسكن او تداوٍ او غير ذلك، فان ثواب قضاء الحاجات سيكون اعظم عند الله، واوفر قربا اليه من غيره.

ان الإنسان اذا كان محورا للخدمة في مختلف الأبعاد، في هذه الأيام القلائل، فانه سيوفق لكي يكون انسانا رائعا، وعنصرا فاعلا طوال حياته، وفي شتى مناحي الحياة بإذن الله.

واذا تربى المجتمع على مثل هذه الحالة، فسنشهد عندئذٍ عظيم ما تصنعه هذه النهضة الحسينية، من التموجات في العالم كله.

ولاشك ان هذه الزيارة المليونية بتموجاتها المنظورة وغير المنظورة في العالم كبيرة جدا، حتى ان بعض المحققين تتبع ولاحظ واستقرأ، وبعث بعض الناس لكي يتتبعوا (الربيع العربي)، فتوصل الى ان من أهم الأسباب التي أدت إلى هذه الثورات والانتفاضات ضد طغاة العرب، هو تموجات هذه الزيارة المليونية الحسينية الكبرى التي وصلتهم عبر الفضائيات والتي كانت لسنوات عديدة تبث مشاهد هذا الزحف الالهي الكبير نحو سيد الأحرار، نحو ذلك الإمام الذي ضحى بالغالي والنفيس في سبيل الله وفي سبيل الإصلاح في أمة جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) ووقف بوجه الظلم والطغيان، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، كأبلغ وأسمى وأكمل وأتم ما يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ان هذا الزحف المليوني الكبير لا شك انه كان يؤثر في طبقات اللاوعي للشعوب الإسلامية وعلى مدى الخبرات المتراكمة في داخل نفوس المظلومين، فالربيع العربي ـ ومع الأسف اننا لا نفصح عن هذا الامرـ ما هو إلا تموج من تموجات الزيارات المليونية الحسينية الكبرى، خاصة إذا لاحظنا أن الإمام الحسين (عليه السلام) يشكل الرمز الأعلى للتضحية والجهاد والخروج والفداء، ويجسد (المثل) (الأنموذج) للعالم الكامل الثائر التقي الورع الزاهد لدى كل مسلم شيعياً كان أم مخالفاً.

وهنا نقول: اذا كان الأمر كذلك ـ وهو كذلك ـ فما بالك لو كان الزائرون كلهم مثاليين، كما يريد ذلك إمامنا الصادق (صلوات الله وسلامه عليه)؟

- ويلزمك الورع عما نهيت عنه، والخصومة ـ أي أن تتورع عن الخصومة والتخاصم مع بقية الزائرين او الخدم أو حتى عامة الناس

وكثرة الايمان والجدال، الذي فيه الايمان فاذا فعلت ذلك فقد تم حج وعمرتك ـ

إذن: هذه الزيارة للإمام الحسين (عليه السلام) هي حج وعمرة، بالاطلاق الشرعي الثاني، وبالمصطلح الشارعي باعتباره نوعاً للجامع الجنسي أو باعتباره وجوداً تنزيلياً.

- واستوجبت من الذي طلبت ما عنده بنفقتك، واغترابك عن اهلك ورغبتك فيما رغبت، ان تنصرف بالمغفرة والرحمة والرضون "

وهذه مراتب ثلاثة متسلسلة في التعالِي أي ان تنصرف بالمغفرة اولا، وبالرحمة وهي مرتبة فوق المغفرة، ثانيا، وبالرضوان حيث يقول تعالى (ورضوان من الله اكبر) ثالثا.

وهذا البحث يستدعي المزيد من الكلام.

دور الشعائر الحسينية في توطيد أركان المجتمع المدني

كما بقي لنا محورنا الثالث وهو محور مهم الى ابعد الحدود، ولنا فيه كلام قد يدفع الكثير من الشبهات حتى لدى أكثر الناس ادعاءا وتوهما انه حضاري وتجديدي، في أهمية هذه الزيارة المليونية والتي نرى ان من الواجب على الدولة ان تعطل (10) أيام أو(15) يوماً كافة الدوائر والوزارات غير الخدمية، لكي يشارك الجميع في هذه الزيارة المباركة، وليس ذلك نظرا للروايات والأجر العظيم فقط ـ وهو كافٍ في الضرورة واللزوم، بل وأيضاً لانني تتبعت كلمات عدد من أهم علماء (الاجتماع) المعاصر والذين يقبلهم الجميع ولهم شهرة ومعروفية على المستوى العالمي، فوجدتهم يتحدثون عن خصوص الشعائر الحسينية وعن دورها الذي لا يضارع في توطيد كيان أو إعادة بناء وترميم الزمرة المرجعية للمجتمعات المدنية - المذهبية. الى غير ذلك مما أسهبوا الحديث عنه وسيأتي بحث ذلك تفصيلاً في وقت أخر ان شاء الله تعالى، وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين.

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم
http://m-alshirazi.com
http://annabaa.org/arabic/author/10

..................................
[1] - الروم: 38.
[2] - لم يسع وقت المحاضرة لبيان المحور الثالث لذا تركه السيد الأستاذ(حفظه الله) الى المحاضرة اللاحقة إن شاء الله تعالى ـالمقررـ
[3] - يريد سيد شباب أهل الجنة (صلوات الله وسلامه عليه)، اذ الأب يطلق على الجد ايضا.
[4] - سورة البقرة: 45.
[5] - وقد فرق السيد الاستاذ(حفظه الله) بين (اقامة الصلاة)،وبين (الصلاة) في بحث سابق فراجع ـ المقررـ
[6] - سورة النور: 30.
[7] - من النظرة إلى الوجه، من غير تلذذ وريبة وخوف افتتان.
[8] - بل قد يؤثر وجود صور الأجنبيات في لا وعي الإنسان، وفي خلايا مخه، على النطفة لدى انعقادها، فلا يكون الولد بذلك الصلاح، أفلا يجدر بالمؤمن الاحتياط إذن؟

اضف تعليق