ملفات - عاشوراء

المشي لنصرة الحق في كربلاء

هؤلاء الناس - وهم بالملايين- يأتون من كل البلاد إلى مدينة كربلاء في العراق، أسر وقرى وربما بلدات بأكملها تترك ديارها، وتشد الرحال، نحو ضريح الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، حفيد الرسول محمد "ص" لابنته فاطمة "ع". تقطع هذه الجموع الغفيرة آلاف الكيلومترات مشياً على الأقدام، تفترش العراء والصحاري والطرقات، وتقصد الجوامع والحسينيات، وتلجأ إلى الفنادق والمضافات والبيوت، دون ملل أو كلل!

وليس ثمة شك، أن ملايين الناس في شتى بقاع الأرض، ممن لم يتمكنوا من السفر إلى كربلاء، لأسباب صحية أو مادية، يجتمعون في بلدانهم، ثم يمشون من مكان إلى آخر، جماعات ثم جماعات، إحياء لذكرى أربعينية الإمام الحسين" أسوة بزوار كربلاء.

وفي المقابل، هناك كثير من الناس، قد لا يقل عددهم عن الماشين في طريق كربلاء، مهمتهم توفير الخدمات للزائرين، كأكل والشرب، واللباس والفراش، والطبابة والنظافة، وما يميزهم أنهم يقدمون تلك الخدمات المجانية باسلوب التحبب والتودد والتذلل، وكأنهم مدينين لمن يخدمونهم بدين!

فما بال هؤلاء الناس - شباباً وشيوخاً ونساءً وأطفالاً- يأتون من كل حدب وصوب، يتحملون مشقة السفر، وأذى الطريق، ولا يهابون شيئا؟ وما بال أولئك ينفقون أموالهم على آخرين، لا يعرفونهم، ولم يلتقوا بهم يوما، دون كتاب أو حساب؟

ورث الحسين "ع" نهضة جدّه الرسول الأعظم "ص" على الجاهليّة والعنصريّة والوثنيّة لإنقاذ المستضعفين في الأرض من الظلم والتسلّط والاستعباد. وكانت مسؤوليته السير بها على خطى جده وأبيه وأخيه، بعد أن أخذت دعائمها تنهار، وتتقوض تحت ضربات بني أميّة وأعوانهم.

وبدأت قصة تضحية الحسين "ع" عندما قرر أن يعلن في مجلس حاكم مدينة الرسول "ص" يومذاك موقفه من يزيد وحكومته قائلا: (أيّها الأمير إنا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد فاسق فاجر، شارب المخمور، وقاتل للنفوس المحترمة، ومستحلّ لجميع الحرمات، ومثلي لا يبايع مثله).

يستعرض الشرقاوي في إحدى المشاهد مراوغات الوليد بن مروان، ومحاولاته لانتزاع البيعة من الحسين بن علي بن أبي طالب. قال الوليد: نحن لا نطلب إلا كلمة فلتقل: بايعت، واذهب بسلام لجموع الفقراء، فلتقلها وانصرف يا ابن رسول الله حقنا للدماء فلتقلها. آه ما أيسرها. إن هي إلا كلمة.

رد عليه الحسين (منتفضا): كبرت كلمة، وهل البيعة إلا كلمة؟ ما دين المرء سوى كلمة. ما شرف الرجل سوى كلمة. أتعرف ما معنى الكلمة يا ابن مروان؟ مفتاح الجنة في كلمة، دخول النار على كلمة، وقضاء الله هو الكلمة، الكلمة نور وبعض الكلمات قبور، بعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النبل، الكلمة فرقان بين نبي وبغي. بالكلمة تنكشف الغمة، الكلمة نور ودليل تتبعه الأمة. عيسى ما كان سوى كلمة أَضاء الدنيا بالكلمات، وعلمها للصيادين فساروا يهدون العالم. الكلمة زلزلت الظالم، الكلمة حصن الحرية، الكلمة مسؤولية، الكلمة شرف الإنسان، الكلمة نور الرحمن. ثم قال الحسين: أتقتلني يا ابن الزرقاء بقولة جدي فيمن نافق؟ أتزيف في كلمات رسول الله أمامي يا أحمق؟ أتقتلني يا شر الخلق؟ أتؤول في كلمات الله لتجعلها سوط عذاب تشرعه فوق امرئ صدق؟.

هذه المبادئ والقيم التي كان يحملها الحسين "ع" وجسدها أمام وكيل الحاكم الظالم والمستبد، دون أن يهبه به وبمن أرسله لطلب البيعة، هذه الكلمات والعبارات التي قيلت في مجلس من مجالس ذلك الحاكم الجائر، الذي يريد أن يغير مسيرة الرسالة ويحرفها عن طريقها، هذه المواقف والتضحيات الجسام بالنفس والأولاد والأهل والأصدقاء والموالين من أجل الحق والحقيقة، من أجل الحرية والإنعتاق هي التي أوجدت في نفوس الناس تلك المحبة الخالصة للحسين وأهل بيته وأصحابه. وهي التي أوقدت في قلوب الناس شعلة الأمل والخلاص والعزة والكرامة.

نعم، صحيح، أن زيارة مرقد الحسين "ع" مشيا هي ظاهرة عقائدية وتعبدية، آمن بها جماعة من المسلمين، ثم توارثوها جيلا بعد جيل، استنادا إلى أحاديث عن أئمة المسلمين، تحثهم على زيارة مرقد الحسين "ع". ليكسب القائمون بها رضا الله ورضوانه، كون الحسين "ع" امتداد الرسول والرسالة معا.

يقول المجدد محمد الشيرازي "الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام من المتفق كونه مجسِّداً لركن مهم من الإسلام ماضياً وحاضراً ومستقبلاً أيضاً، فسيّد الشهداء بما قدم من تضحيات ومواقف أثبت من خلالها العقيدة الراسخة والإيمان العميق والذوبان في ذات الله سبحانه، بحيث لا يرى شيئاً ولا يعمل إلا من خلال الباري سبحانه وبذلك صيَّره عزَّ وجل قدوة المجاهدين وأمثولة الراغبين ومحور استشهاد المناضلين. أرسى سيّد الشهداء الطريقة القويمة والطريقة الرفيعة في الحياة، فتسابق من خلالها الراغبون بمرضاة الله مقتفيين أثر سيّد الشهداء باعتباره القدوة التي لا خلاف على مصداقيتها، مستلهمين من ثواني عمره الشريف دروس الجهاد بكلا قسميه النفس وجهاد العدو، الجهاد الأكبر والأصغر".

إلا أن الصحيح أيضا، أن هذه العلاقة الوثيقة بين هؤلاء الناس - على اختلاف أصولهم وعقائدهم وانتماءاتهم وألوانهم- وبين الحسين بن علي "ع" على وجه الخصوص، قد تتجاوز في العديد من جوانبها المسألة الدينية أو العقدية، فهي علاقة بنيت على أسس نفسية ومجتمعية، عاش ويعيشها الناس في كل زمان ومكان. علاقة حميمة لها دلالات تتعلق بشخصية الحسين ذاته، وبمنهجه ونهجه، وعلاقته مع الآخرين، محبين ومبغضين، سواء الذين عاشوا في عصره (عاصروه أو سمعوه) أو الذين جاءوا من بعده، وأطلعوا على عظم شخصه، واستقامة نهجه، ونبل هدفه وغايته. فضلا عن دلالات التعبد والتقرب والتزلف إلى الله.

علاقة الناس بالحسين ليست علاقة مستجدة أو عابرة إنما هي علاقة تنبع وتجدد من الصراع الأزلي بين أنصار الحق وأنصار الباطل، بين حزب الله وحزب الشيطان، وهو صراع مستمر إلى ما شاء الله، ولن ينته حتى يرث الله الأرض وما عليها. وإلى ذلك الوقت يظل الناس جبهتين متصارعتين. وكلما اشتدت وطأة تلك النزاعات والصراعات-لا سيما عندما يختلط الحق بالباطل والباطل بالحق- ازدادت حاجة أنصار الحق ودعاته إلى من يـتأسون به، ويستلهمون من حياته وتجاربه وعطائه ما يستطيعون به مواصلة المسيرة ورفدها بعناصر القوة والعزة والمنعة. ولا شك أن كل من يعرف الحسين، مسلما كان أم غير مسلم، متدينا كان أم غير متدين، فانه قطعا لا يحد عنه قيد أنملة قدوة ومثلا ونبراسا للعمل ضد دعاة الباطل والظلم والاستبداد.

يقول "إبراهيم ساواد تاتسويجي" من اليابان (أخذ حفيد النبي المحبوب يعد نفسه لمقاومة الظلم وتقبل الشهادة في سبيل الله بطيب خاطر، فأصبح بذلك قدوة لنا وللأجيال الصاعدة، وغدت سيرته درسا للعصور المتتالية، وقد أثبتت نهضته هذه للعالم بان الفوارق الزمنية لا يمكنها أن تقف أمام نهضة المخلصين، فليس هناك زمان صالح وآخر طالح لتوعية الأمة للوقوف أمام الظلم، فكل يوم عاشورا وكل ارض كربلاء).

ويقول أسد الله حبيب: (تمثل شهادة سيد الشهداء الإمام الحسين من بين حوادث البشرية الكبيرة نموذجا رائعا للأجيال وعلى مر التاريخ تتأسى بها البشرية للانعتاق من الظلم والاستكبار وبقاء مشعل الحرية مولعا في مسيرتها، وهي محل عبرة للأجيال التي تعيش تحت وطأة الظلم والاستكبار ونموذج حي لاستلهام الدروس وهو النموذج الحي مدى الدهور المتوج بشهادة الإمام).

وعلى هذا الأساس، لا يمكن ربط عاشوراء الإمام الحسين عليه السلام، بسياقاتها التاريخية حصرا، مثلما لا يمكن فك ارتباطها عن ذلك التاريخ، فهي الثورة الإصلاحية الحية التي تفجرت لتصحح مسار الانحراف في الأمة الإسلامية، واستمر صداها يتخطى القرون عابرا الآفاق نحو المستقبل. كما لا يمكن ربطها بالإسلام حصرا، مثلما لا يمكن فك ارتباطها عنه وهي جاءت حاملة لمبادئه، باذلة التضحيات في سبيله. فهي ثورة إنسانية لكل أبناء البشرية، منبثقة عن الإسلام الذي هو دين الإنسانية المنزل من رب العالمين جميعا، وإليهم جميعا، في كل زمان ومكان.

نخلص مما تقدم، أن زيارة مرقد الحسين "ع" في كربلاء وقصد المشي إلى ضريحه من هؤلاء الملايين من الناس، إنما هو يعود للعلاقة المتأصلة بين هؤلاء الناس وبين الحسين، وهي علاقة يمكن القول إن عمادها وسندها ثلاثة أمور هي:

- رمزية الإمام الحسين" ع": حيث لم يكن الحسين بن علي رجلا عاديا في الناس، ولم يكن وده وحبه عاطفة عابرة، بل هو حفيد الرسول لابنته فاطمة "ع" وهو ابن علي بن أبي طاب ذلك الرجل الذي وصفه الرسول (علي مع الحق والحق مع علي) وهو عماد من عماد النهضة الإسلامية الأولى، وهو إمام من أئمة المسلمين، وهو امتداد للرسول وللرسالة، فلقد قال الرسول "ص" بحقه "الحسين مني وأنا من حسين" وهو سيد شباب الجنة لمن أراد أن يكون في الجنة.

- أحقية الإمام الحسين "ع": حيث لم يكن الحسين "ع" يطلب من سلطان زمانه شيئا لنفسه، أو لأسرته من مال أو ثروة أو جاه، ليتباهى به كما يتباهى غيره من طلاب المال والثروة. ولم يكن الحسين يطلب حقا هو ليس له، يسلبه من صاحبه كما يسلب الأقوياء الحقوق من الضعفاء في كل زمان ومكان، بل كان يفكر في إصلاح أمور المسلمين لما رأى الاعوجاج، وفي استقامة الأمة لما رأى الانحراف، وكان يدرك تمام الإدراك أن نيل تلك الطلبة لا يتحقق إلا بإراقة دماءه الزكية ودماء أسرته وأطفاله ومحبيه.

- مظلومية الحسين "ع": لم يشهد التأريخ مظلمة ظلمها أهل الأرض كالمظلمة التي ظُلم بها أهل البيت "ع" فلم ينصف المسلمون رسولهم الذي جاء لهم بالهداية والنور عوضا عن الضلالة والظلمة، ولم ينصفوا علي بن أبي طالب، ذلك القائد الذي حافظ على الرسالة وقوتها وهيبتها، سواء في عهد الرسول، حينما وصفه في معركة بدر (برز الإيمان كله للشرك كله) أو في خلافته حينما أنحرف نفر من القوم وأرادوا بالإسلام غنيمة يتوارثونها خلف عن سلف. ولم ينصفوا الحسين "ع" حينما خرج لطلب الإصلاح في أمة جدة؛ فقتلوه وقتلوا عياله وأصحابه، وسبوا نساءه وأطفاله من بلد إلى بلد، واتهموهم بالخروج عن ربقة الإسلام زورا وبهتانا.

.............................

** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات/2009-Ⓒ2017

هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...

هـ/7712421188+964
http://ademrights.org

[email protected]

اضف تعليق