كان من المتوقع أن نشهد تغطية اعلامية لمشهد الاعتصام أمام أسوار المنطقة الخضراء في بغداد الجمعة الماضي، على خلفية حراك جماهيري جديد في الساحة العراقية قادها التيار الصدري للإسهام في عمليات الضغط على الساسة وأهل الحكم في بغداد للعمل على تغيير الاوضاع السياسية والاقتصادية ومعالجة داء الفساد جذرياً.

بيد أن التجاهل الاعلامي جاء مفاجئاً – بعض الشيء- للكثير من ابناء الشعب العراقي، لاسيما وأن ثمة قنوات فضائية عوّدت مشاهديها على تغطية أي حراك او موقف او حتى كلمة غاضبة في قارعة الطريق ضد الحكومة والعملية السياسية برمتها. وقد سبق هذا الاعتصام، تغطيات مكثفة لافرازات هذا الحراك واسقاطاته السياسية والامنية، مما يجعل التعاطي مع هذا التطور الجديد في الشارع، يبتعد عن "الإعلام" ورسالته المعروفة، لينزلق نحو "الدعاية"، او ما يُعرف بالبروباغندا الاعلامية.

إن هشاشة الاوضاع العامة في العراق، حفّزت تيارين في الساحة، لكل واحدٍ منهما وسائل اعلامه (البروباغندا) لتحقيق ما يريده في هذه البرهة الزمنية بالذات:

التيار الاول: المعارض لفكرة الاعتصام لخشيته من الآثار المترتبة عليه سياسياً بالدرجة الاولى، كونها تستهدف النظام الاداري المشحون فساداً، والذي يمثل القاعدة الاساس التي يتكئ عليها.

أما التيار الثاني: فانه مؤيد للفكرة، اذا كانت تستهدف العملية السياسية برمتها، وليس فقط النظام الادراي بغية إصلاحه.

من هنا اصطبغ التعاطي الاعلامي – الدعائي مع هذا التطور بالتهديد لإيقافه مساره، تارةً؛ وبالتهويل والتضخيم الى حد الانفجار تارة اخرى. والمساعي كلها باتجاه التأثير على الافكار والقناعات في الشارع المعترض ومحاولة توجيهه الوجهة المطلوبة، وليست بالضرورة ان تحاكي تطلعات الجماهير وما تريد تحقيقه.

وفي ظل الغضب الجماهيري على النخبة الحاكمة بسبب ما آلت اليه البلاد من اندفاع الى حافة الافلاس بعد سنوات من الهدر الفظيع في الثروة الوطنية، بين اختلاس وتهريب واستئثار، فان قنوات فضائية بعينها، مثل "البغدادية" تجد في الشارع ما يؤهله لأن يتحول الى سيل عرم وكاسح يدمر كل شيء، وهذا لا يتحدثون عنه مباشرة، إنما يتبعون أساليب حديثة شهدتها "البروباغندا الاعلامية" بعد أن كانت لا تتورع عن الكذب والتزوير ومجانبة العقل والمنطق، وكانت ترتبط بأسماء موهوبة في فن التأثير وصناعة الرأي العام. فهم لا يجهلون أن الشارع العراقي يتابع باستمرار وسائل التواصل الاجتماعي، عبر الهاتف المحمول، قبل ان يعود ليلاً الى بيته ويتنقل بين القنوات الفضائية، فهي وسيلة إعلامه الاسرع إيصالاً للمعلومة، وهذا يجعل قنوات فضائية تحرص على التعامل الدقيق مع الاحداث وابطالها وايضاً مع المتلقي بشكل لا تفقد "البروباغندا" مصداقتيها وتأثيرها، فالتركيز دائماً يكون على الفساد المالي بالمقابل تسليط الضوء على الواقع السيئ والمزري في السكن والعمل والخدمات مثل الماء والكهرباء والطرق وغيرها من ملفات الفشل على ارض الواقع.

وانطلاقاً من هذا الواقع نجد أن قناة مثل "البغدادية" تسعى لاستباق الاحداث والدفع قدماً نحو مزيد من الغليان الى حد الانفجار ما أمكنها، فالمتظاهر او المعتصم في الشارع، يكون ذو أهمية لها عندما "يدخل الى داخل المنطقة الخضراء وينتزع المسؤول او النائب من هناك ويسحله على الارض...". كما جاء في تعبير أحد مقدمي البرامج في هذه القناة. ومن على هذه الشاشة وغيرها، يجري الحثّ والشحذ لعموم الناس على الخروج في تظاهرات مستمرة الى حيث المجهول، ويبقى الناس في حيرة من أمرهم؛ فهم حقاً، متضررين جداً من الوضع السائد، لكن تنقصهم الوجهة الصحيحة التي إن سلكوها حققوا التغيير بنجاح وسلام. وهم في ذلك أمام ثلاث أنواع من البروباغندا (الدعاية) التي يحددها العارفون في هذا الشأن:

النوع الاول: الدعاية البيضاء، ويكون فيها صاحب الدعاية واضح المعالم والهوية للناس المعترضين، فهم يعرض افكاره ويدعو الجميع للاستجابة بكل شفافية.

النوع الثاني: الدعاية السوداء، وهي التي تميل الى إخفاء اهدافها وهويتها ومصدرها، فالناس لا يعون وجود أيادي تحرك المشاعر تخلف الستار.

النوع الثالث: الدعاية الرمادية، فهي تقف بين الحالتين لتأخذ حالة تلفيقية – إن صح التعبير- تمكنها من إظهار شيء واستبطان أشياء أخرى، مما يقربها جداً على حالة النفاق والانتهازية.

هنا يقفز السؤال أمام هذه التهافت الاعلامي – الدعائي:

ما هي طريقة التعاطي مع هذا النمط من الاعلام الذي يضحي بالاخلاقية والموضوعية، مقابل اجندات خاصة؟، إن المياه التي يسبح فيها هكذا إعلام لن تكون ابداً صافية وشفافة، إنما هي المياه العكرة، لذا يجب تقليل مساحة هذه المياه في مواطن الازمات والمشاكل، ويكون على المواطن والمسؤول على حدٍ سواء من الذكاء والمسؤولية بدرجة تجعلهما يتجهان في خط واحد نحو التغيير الحقيقي، لأن كلما زادت مساحة المياه العكرة كانت فرصة التصيّد أكثر، بل وكانت نسبة الاضرار اكبر على المواطن والمسوؤل في وقت واحد، فلن يخرج أياً منها منتصراً بخسارة الثاني في هكذا مياه.

ومن ذلك استعجال الامور واستباق المواقف، بحيث يجعل أحدهم يهدد رئيس الحكومة الدكتور حيدر العبادي بأن "لو أمر بضرب الاعتصام فانه يتخذ قراراً بالانتحار..."، فهو بعد لم يتخذ قراره بمواجهة المعتصمين، ثم ندفعه الى الانتحار!.

وهذا تحديداً ما تبحث عنه هذه القنوات ووسائل دعائية اخرى تمثل – بالحقيقة- ولادات غير شرعية لوسائل الاعلام، وهذا وغيره، يفسر لنا سبب تغاضيها عن تغطية الاعتصام الاخير، لانه ابتعد عن المياه العكرة، وتم وفق اجراءات أمنية وتنظيمية مُحكمة أبهرت المراقبين، فبعد اجراءات التنظيم المشدد للمشاركين في الاعتصام وإعداد قاعدة بيانات خاصة لهم، وتحديد أماكن تواجد خيام الاعتصام، لاحظنا التعاون اللافت من قوى الامن مع الحراك الجديد، مما يعطي الأمل بتقدم العملية المعارضاتية بخطوات ثابتة نحو التأثير الحقيقي على مجمل مشاكل وأزمات العراق.

اضف تعليق