ربما لا يوجد إنسان على وجه البسيطة إلا ويحلم بعالم مثالي تزدهر فيه العدالة وتقوده ثقافة إنسانية في إطار التنوع الثقافي البشري، فلكل أمة من الأمم تشكيلتها الثقافية التي تميزها عن غيرها، وقد توجد داخل الأمة الواحدة أو الشعب الواحد عدة مكونات تدخل ضمن التكوين المجتمعي الواحد، ولكن هناك ثقافة خاصة بكل مكون من هذه المكونات، فالعراق على سبيل المثال يتكون شعبه من عدة مكونات عرقية ودينية وسواها، وهذه المكونات كل منها لها ثقافتها التي تختلف عن سواها، ويعد هذا التنوع الثقافي ميزة للشعوب فيما قد يحدث العكس عندما يتم انتهاك حقوق الأقليات والمكونات الصغيرة بحجة وحدة الدولة وما شابه من مبررات لا ترقى الى الحقيقة.

فالحكومات المستبدة ترفض التنوع الثقافي، بل هي ترفض أي حضور للثقافة والوعي بأي مستوى كان، ولذلك فهي تحارب التنوع الثقافي وتحاصره وتكبته في الغالب، مع أن التنوع الثقافي يمثل التراث المشترك للبشرية وفقاً للإعلان العالمي لليونسكو المتعلق بالتنوع الثقافي للعام 2001، ويرى المعنيون أن التنوّع الثقافي يشكل الآن أشدّ القضايا العصرية إلحاحاً، والسبب يكمن في الروابط والمشتركات الواسعة التي يتيحها تنوع الثقافات لتعزيز العلاقات بين أمم وشعوب العالم، بمعنى أن التنوع لا ينحصر في داخل حدود الدولة، وإنما التبادل الثقافي يمكن أن يسهم في تطوير العالم من خلال تطور العلاقات الثقافية بين أمم وشعوب الأرض كافة.

حاجتنا للمشترَك الأخلاقي

وتعد سمة التنوع الثقافي في العصر الراهن من المؤشرات الدالّة على انفتاح الثقافات المختلفة على بعضها، وبالتالي تطوير لغة الحوار وترجيحه على سواه في وضع الحلول اللازمة لمشكلات البشرية والتهيئة لصنع العالم المثالي، وتستدعي قضية التنوع الثقافي تعزيز المشتركات الانسانية، ونشر ثقافة احترام حدود الآخر، والحث على احترامه، بكل ما ينطوي عليه من خصوصية قد تتقاطع أحيانا مع غيره من الافراد او الاقوام، ونظرا لصعوبة تحقيق مثل هذا الهدف بسبب التمسك بـالهوية الخاصة أو خصوصية الذات على حساب التنوّع والتشارك والتداخل الإنساني، لذلك تظهر الحاجة للمشترَك الأخلاقي ملحّة وكبيرة، بل حتمية، كونه يمثل حلا مثاليا وعمليا، لتذويب الفوارق والتباينات بين بني الإنسان في عموم المعمورة شريطة أن يتم العمل على تطوير هذا المشترك العالمي بما يتناسب مع أهمية وضع المعالجات اللازمة للخلافات التي قد يتسبب بها التنوع الثقافي.

إن تركيز النخب الفكرية وتأكيد العلماء على أهمية التنوع الثقافي في التعجيل بصناعة العالَم المثالي، تتأتى من الحاجة الفعلية الى المبادرات الكبيرة التي يطلقها هذا النوع من العلاقات الثقافية الفكرية بين الأمم والشعوب كافة، والسؤال المهم يدور هنا عن ماهية أو ميزة هذا التنوع ومؤهلاته، ولماذا تحتاجه البشرية لتعزيز العلاقات الإنسانية فيما بينها؟ وكيف ركز العلماء على هذا الجانب من أجل توظيف التنوع في الثقافة لصالح المجتمع العالمي كله؟.

وقد وجد هذا الرأي قبولا منقطع النظير لدى مختصين في علم الاجتماع والعلاقات الفردية والجمعية، وقد رحبوا بكل المقترحات المطروحة في هذا الإطار، لذا يُعدّ هذا التنوع الثقافي بوابة واسعة لتعزيز العلاقات المتبادلة على المستوى العالمي وتوظيفها في صالح تطوير التعاون الكلي، كونه يتمتع بقدرة كبيرة على تذويب التقاطعات بينه وبين الآخر بسبب ميزة الإيثار، أما الكيفية التي يمكن من خلالها تحصيل هذا النوع من العلاقات الفعالة، فإن أحد العلماء يقدم للعالم حزمة من الخطوات الإجرائية والفكرية وهي قد تبدو مثالية أحيانا، لكن الإنسان لا يملك خيارات متعددة فيما لو أقرَّ بأهمية صنع عالم مستقبلي مشترك تلتقي فيه المصالح بدلا من أن تتضارب، وتسوده روح الحوار بدلا من القوة، وتميزه الثقافة المشتركة بدلا من ثقافة التمييز والإقصاء والتصادم، ويصبح فيه التنوع الثقافي عامل جمع وليس تفريق بين الشعوب أو حتى بين المكونات التي تنضوي ضمن حدود الدولة الواحدة والشعب الواحد.

تطوير وسائل الحوار العالمي

ومن أهم ما يقدمه التنوع الثقافي في إطار صنع العالَم المثالي، قدرته على تطوير وسائل الحوار الذي يعد من أهم بدائل التناقض والتضارب بين المكونات ذات التنوع الثقافي المختلف، وبهذه الطريقة يمكن للتنوع الثقافي أن يتعزز، ويستطيع بدوره أن يسهم بقوة في القضاء على بؤر التطرف ومنابع العنصرية باشكالها المختلفة، وكذلك يُسهم بقوة في تنمية الموارد والطاقات والمواهب الفردية والجماعية، ويساعد على بث روح الحوار البنّاء بدلا من تنمية مسارات الأنا والتقوقع على الذات والتقاطع والتصادم مع الآخرين، بدلا من مدّ الجسور الثقافية التي تقوم بتذويب الخلافات كافة وتفتح آفاقا واسعة للتعاون المتبادل في إطار علاقات حضارية مقبولة ثقافيا وأخلاقيا وحتى شرعيا.

علما أن التنوع الثقافي لا يشكل عقبة أمام العلاقات المتوازنة بين الأمم المختلفة، بل هو من العوامل التي تساعد البشر على بلوغ هذا الهدف، من خلال تنمية عناصر وعوامل إحترام الآخر، على أننا لابد أن نتفق أولا على أهمية الجهد السياسي والثقافي والنخبوي عموما في الحث والمساعدة على توظيف التنوع الثقافي بصورة صحيح لصالح صنع عالم مثالي، وهذا يعني أن البشرية الآن في أمس الحاجة لهذه الخطوة، لكي تحفظ تراثها المشترك، ممثَّلا بالتنوع الثقافي الإنساني الهائل الذي يتوزع على عموم الأمم والدول التي تختلف عن بعضها في إرثها الثقافي، وربما هنالك تنوع ثقافي داخل الشعب الواحد كما في العراق على سبيل المثال.

خلاصة القول لكي تحصل البشرية على عالم مثالي، عليها – ونعني هنا النخب كافة- أن تبحث باستمرار عن السبل والوسائل التي تزيل الاحتقان ولا تضاعف منه، وتجفف بؤر التوتر، وتقضي على منابع التطرف، ويمكن أن يتحقق هذا الهدف الكبير على المستوى العالمي في حال تم توظيف التنوع الثقافي بالصورة السليمة داخل المجتمع الواحد من جهة، وبين المجتمعات مع بعضها البعض، حيث تكمن أهمية التنوع الثقافي في جعل العلاقات بين الشعوب والأمم أكثر توهجا وتقاربا وتدخلا، مع إمكانية تذويب الخلافات بطريقة أو أخرى عبر منهج الاحتواء والحوار بدلا من التصادم.

اضف تعليق


التعليقات

Henri Twadros
Australia
ماذا استفاد العالم من تكنولوجيا التسلح ؟
غير الحروب والدمار ووو
ماذا استفاد العالم من المركبات الفضائية ؟
غير ضياع اموال لا حصر لها
ماذا يستفيد العالم ؟
من التحول بكل هذا الأموال لزراعة الخير
من زراعة وصناعة وبناء مجتمعات حديثة للعيش
ومساعدة الدول الفقيرة
بأختصار
توجيه الخير والثروات للبشرية
بدلا من الصراعات
لأصبح عالم مثالي لا يوجد فقير واحد
الكل يعيش في مجتمعات حديثة
وخيرات زراعية وصناعية ووو
ومستقبل واعد للأجيال القادمة2021-08-22