استقبلت مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام في كربلاء المقدسة ضيفها الكريم سماحة اية الله السيد مرتضى الشيرازي، وقد تخلل هذا اللقاء حوار رصين حول عمل المؤسسات الثقافية والمراكز البحثية ذات التخصصات المختلفة أكاديميا وحقوقيا واعلاميا وثقافيا، ولأجل اتمام تلك المهمة على أكمل وجه وبغية النهوض بالواقع العراقي ومواجهات التحديات الداخلية والخارجية.

تحدث سماحة اية الله السيد مرتضى الشيرازي قائلا:

 "بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين بارئ الخلائق اجمعين باعث الانبياء والمرسلين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا ابي القاسم المصطفى محمد (ص) وعلى اهل بيته الطيبين الطاهرين الابرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الارضين واللعنة الدائمة الابدية على اعدائهم الى يوم الدين ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.

هنالك آيتان كريمتان تتضمنان كنوز المعارف وهما: الآية الأولى قوله تعالى: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ)(1) قد استظهر بعض العلماء من ظاهر الآية الشريفة (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) وجود عالمين عالم يسمى عالم الخلق والعالم الاخر يسمى عالم الامر، وعالم الامر هو اعلى رتبة من عالم الخلق (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ)، وذلك لأن هنا الأصل في العطف هو عطف المباين على المباين وليس عطف البيان، فان عطف البيان وإن كان ممكناً إلا انه خلاف الأصل ويحتاج الى قرينة، فكلما فصلت واو العطف بين شيئين فان الثاني مغاير للأول.

ونحن جميعا من عالم الخلق وكذلك كل ما هو موجود في الكون، فكل المجرات ومجرتنا مثلا مجرة درب التبانة، والتي هي مستضعفة إلى جوار سائر المجرات على عظمتها الرهيبة كونها تحتوي على مئات الملايين من الشموس، هذه كلها من عالم الخلق، وفوق عالم الخلق عالم الامر ذلك العالم الذي لا يحلق اليه حتى الخيال، وحوله كلام لسنا بصدد الخوض فيه.

الآية الثانية التي فيها كنوز من المعارف هي (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ)، ومعنى هذه الآية اننا لا نملك شيئاً أبداً إذ (اننا لله) بل اننا لا نساوي شيئا ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(2) ومع ذلك تجدنا دائما ما نتحدث وبصوت عالٍ ومرتفع عن ملكيتنا لأشياء كثيرة فنقول أموالي وعقاري ومزرعتي و... كما نقول: ذكائي، علمي، و... والغريب انه كلما زاد الإنسان مالاً أو علماً أو قوة ازداد غروراً وهذه طبيعة المال والقوة والعلم إلا اذا هذب المرء نفسه، قال القرآن الكريم: (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ).

الملكية لمن؟

واللام في قوله تعالى: (إِنَّا لِلّهِ) هي لام الملك وحسب التحليل العلمي الفقهي فان لام الملك تنقسم الى أربعة اقسام لاسيما وان الملكيات التي نملكها هي في اخر درجات صفوف الملكية ويسمونها الملكية الاعتبارية، فمثلا انت تمتلك بستانا او تمتلك ملابسك هذه ملكية اعتبارية مجازية لذا تقع في صف نِعال الملكيات، فهي ادنى واسوأ واردأ أنواع الملكيات، وكأنما هو عبارة عن خيط او شعاع وهمي من الملكية بيني وبينك، على ان هناك ثلاثة أقوال في الملكية وهي انها من مقولة الإضافة أو هي من مقولة الجِدة أي الملك او من مقولة الاعتبار.

اما الملكية الاعلى فهي ملكية الله (سبحانه وتعالى) فإنها ملكية احاطية واقعية ذاتية، ونحن وجودنا آناً بآن في جوهره وليس بظاهره فقط (وكذا سائر الحقائق) منوط بالله تعالى مرتهن بفيضه وعنايته بحيث لو انقطعت آنا عنا انعدمنا تماماً.

يضيف سماحته: الاقتصاد على سبيل المثال يدور على الملكية الوهمية أي الاعتبارية، فالأراضي على سبيل الفرض هل هي ملك للدولة أو ملك للناس؟ على كلا التقديرين هي بالاعتبار أي باعتبار المعتبر وكلما جاء أمر بالاعتبار فانه يزول ويطير بالاعتبار.

اما بالنسبة لملكيتي للصور الذهنية فهي درجة من الملكية الحقيقية وهي مملوكة لك، إذ وجودها منوط بالتفاتتك فاذا غفلت عنها ثانية تنعدم، وبذلك يمكن تقريب المعنى الحقيقي لمملوكيتنا لله تعالى عبر هذا المثال فحينما تصنع في خيالك جبلا من الذهب فلابد ان تفيض عليه الوجود آناً فآنا، فاذا قطعت عنه فيضك انعدم بالمرة فهذا مقرّب وموضح لكيف (إِنَّا لِلّهِ) بل ان فقرنا إلى الله تعالى أشد من فقر صورنا الذهنية لنا.

وبالعودة الى أصل الآية آنفة الذكر فإننا لمسنا في مقابل الله تعالى شيئاً: ذاتا ووجودا وصفة: قوة وجمالا، لكننا خلاف ذلك نعتقد بأننا كل شيء، وان كل شيء هو تحت سيطرتنا إذا حصلنا على المنصب والقوة، فالإنسان عندما يحصل على منصب ما او مال او جمال او شهرة فانه يضيّع نفسه، ولكن هذه الأشياء كما جاءت بلحظة قد تذهب باللحظة.

لذلك لابد ان تعي انه كما ان مبدئك من الله فإن استمرارك منه تعالى ويسمونها العلة المحدثة والمبقية، وانتهائك أيضا إلى الله وهو (وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) وللتقريب للذهن فان ذلك اشبه ما يكون بحالة متهم يعرف ان مصيره بيد هذا القاضي وانه قد يحكم عليه بالإعدام او بالسجن المؤبد كما يستطيع ان يبرأه، فان هذا المتهم يحس أمام القاضي بالعجز والخضوع، فما بالك بالله تعالى والحال ان كل أمورك بيده؟، وقال تعالى في الآية الأخرى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ) وهذا يسمى الفقر بالذات في قبال الفقر بالعرض.

المؤسسات ومكارم الاخلاق

يكمل سماحته: وهذه المقدمة تم ذكرها لأنها تمثل اساس اخلاقيات المجتمع لكل شخص او مؤسسة لها تماس مباشر مع المجتمع على المستوى الفكري والاقتصادي والحقوقي، هذه الاخلاقيات لو تم التركيز عليها من خلال تربية الناس والنفس بأننا لا نساوي شيئا امام الله (سبحانه وتعالى)، وبالتالي فان أي شخص اذا أسندت اليه الرئاسة او حصل على شهرة فانه لا يضيّع نفسه، بل يبقى ذلك الإنسان الذي يدرك حقيقة انه في الحضيض بالقياس الى خالقه ورازقه وكالصفر على الشمال.

ويذكر سماحة السيد مرتضى الشيرازي قصة إنسانية مهمة لاحد مراجع التقليد الكبار وهو السيد اليزدي صاحب كتاب (العروة الوثقى) الذي أصبح كتابه هذا مصدرا لكل المراجع فكل مرجع جاء بعده طول تسعين عاما فانه ينبغي ان يعلق على هذا الكتاب وهو يعتبر –عرفاً- من علامات المرجعية، حيث يقال: انه كان في بيت السيد اليزدي غرفة صغيرة مغلقة دائما، وكان يدخل فيها ويبقى لفترة قصيرة مرتين او ثلاث مرات يومياً، فاستغرب أهله من تصرفه هذا وعندما سألوه اطلعهم على سر تلك الغرفة حيث أدخلهم للغرفة فلم يجدوا فيها إلا قدراً قديماً وحذاءً قديماً، فكان يطل على هذه الأشياء يوميا ليتذكر أيام شبابه ودراسته حينما كان فقيرا وهو لا يمتلك شيئا، فهذا هو القدر الذي كان يعد فيه الطعام وهذا هو الحذاء الذي كان ينتعله، وكان يعظ نفسه بذلك مخافة ان يأخذه العجب أو الغرور بعد أن صار مرجعاً لهذه الأمة، فيذكر نفسه بان المنزلة والكرامة التي اعطاني إياها الله تعالى من الممكن ان يأخذها في أية لحظة، وقد قيل ان الإنسان سمي إنساناً لكثرة نسيانه فينسى انه كان ضعيفاً معدماً ويتصور ان القوة والثروة باقية له، فيطغى أو يتجبر لا سمح الله.

كما يوضح سماحته: بناء على ذلك فان على المؤسسات النهضوية الحضارية ان تنتهج القيم السامية ومكارم الأخلاق من تواضع وحلم وصبر وأناة وغيرها وتغرسها في نفوس كوادرها دائما بحيث ان أي شخص يعاشر أو يتحدث الى العاملين فيها، يجد فيهم مسحة ملائكية.

المؤسسات بين الشورية والفردية

في السياق ذاته يتحدث سماحته: النقطة الثانية وهي مكملة للنقطة الأولى هناك تحدٍ صعب جدا تواجهه كل المؤسسات وهي أزمة عالمية، وهو ان كل مؤسسة تنشأ ثم تنمو ثم تنهض ثم تنطلق فإنها تواجه تحديا ان تبقى هذه المؤسسة بالفعل مؤسسةً وان يبقى العمل فيها شوريا، فالكثير ما يبدأ العمل مؤسسيا لكنه يتحول إلى عمل فردي يتحكم شخص واحد في قراراته الكبرى، وهذا خطأ استراتيجي كبير.

امير المؤمنين (عليه السلام) يقول (مَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ هَلَكَ وَمَنْ شَاوَرَ الرِّجَالَ شَارَكَهَا فِي عُقُولِهَا)(3) و(الِاسْتِشَارَةُ عَيْنُ الْهِدَايَةِ وَقَدْ خَاطَرَ مَنِ اسْتَغْنَى بِرَأْيِهِ)(4) و(مَنْ شَاوَرَ ذَوِي الْأَلْبَابِ دُلَّ عَلَى الصَّوَابِ)(5) هناك روايات كثيرة لأمير المؤمنين بهذا الخصوص فيجب الالتزام بالعمل الشوري والتخطيط لتجذيره وديمومته لاسيما وان استراتيجيتكم انتم هي إقرار نظام الشورى في المجتمع، خصوصا وان تخلفنا عن العالم جاء بسبب أن أعمالنا ليست شورية كما ان الحكومات لا تخضع للشورى، وهذا بالضبط هو ما يحتاج إليه الشعب العراقي باعتبار انه مكون من فسيفساء متعددة الألوان والأطياف.

ويرى سماحته: انه ليس المطلوب ان تصعد الى الأعلى فقط بل المطلوب ان ترفع الاخرين معك وليس المطلوب ان تنجح مؤسستك بل ان تكون مؤسستك مؤسسة مولّدة لمؤسسات ناجحة ومعلِّمة لسائر المؤسسات على كيفية النجاح المستدام.

وأشار إلى انه عندنا مثلا في النحو فعل يسمى اللازم وآخر متعدي والفعل اللازم مثل قعد أو قام والفعل المتعدي مثل نصر، وفي الحوزة أول كتاب يدرسه الطالب هو جامع المقدمات: في النحو والصرف والمنطق وفي (الأمثلة) يبدأ طالب العالم تعلم تصريفات الأفعال ويبدأ من ضَرَبَ ضربا ضربوا.. الخ، ولكن السيد الشهيد العم السيد الحسن رحمه الله فكّر بان هذا غير صحيح تربوياً، فحوَّلها الى كلمة نصر نصرا نصروا... الخ بدلاً من ضرب، لأن المثال وإن كان في علم النحو فانه يؤثر لا شعورياً في منطقة الوعي الباطن.

والشاهد ان المؤسسة الناجحة هي المؤسسة التي تتأسى بالفعل المتعدي فتخطط لتكون نجاحاتها متعدية للآخرين، لا لازمة لها فقط!

المؤسسة النموذجية

ويسترسل سماحته قائلا: ان التحدي الحقيقي هو ان تستطيع البقاء في مجتمع متنوع واطياف مختلفة وانت محافظ على خصوصيتك الذاتية ولا تذوب في الاخر، وتتعاطى في الوقت نفسه مع الآخر بإيجابية وفاعلية وتنقل له، بالحوار والمنطق، قيمك الإنسانية والإسلامية السامية في العدل والإحسان والشورى والتعددية والأخلاق الفاضلة، وعقائدك أيضاً.

ويختتم سماحته بقول الإمام علي (عليه السلام) يقول (اللَّهَ اللَّهَ فِي الْقُرْآنِ فَلَا يَسْبِقُكُمْ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ أَحَدٌ غَيْرُكُمْ)(6)، فلماذا لا تكون مؤسساتنا مثالية في كل الحقول في نوعية الإنتاج المعرفي المتميز وكيفية الإدارة الشورية المتطورية ومنهجية التعامل الأخلاقي النموذجي بحيث نصل إلى مستوى انه حتى الغربيين يستشهدون بنا!!، وبحيث تصل الحال إلى درجة ان مراكز الدراسات في أمريكا وفي بريطانيا وفي فرنسا وفي الصين وفي دولنا العربية كمصر مثلاً، يفتخرون بنا أو يدهشون لما يرون فينا من أنموذج مشرِّف ومميز!

ولنستعن على ذلك بالدعاء الدائم والتوسل المتواصل وخلوص النية وسحق الأنا والعمل بالشورى حقاً وصدقاً كما قال تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(7) و(وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)(8) و(إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)(9).

.......................................

(1) سورة الأعراف: آية 54.
(2) سورة فاطر: آية 15.
(3) الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، نهج البلاغة، دار الهجرة للنشر – قم، ص500.
(4) الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، نهج البلاغة، دار الهجرة للنشر – قم، ص506.
(5) الشيخ المفيد، الإرشاد، عدد الأجزاء: جزءان في مجلد واحد، الناشر: المؤتمر للشيخ المفيد – قم، 1413هـ، ج1 ص300.
(6) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، عدد الأجزاء: 8، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج7 ص51.
(7) سورة الشورى: آية 38.
(8) سورة غافر: آية 60.
(9) سورة محمد: آية 7.

اضف تعليق