تعمل تهديدات جيوسياسية جديدة على زيادة مخاطر اندلاع حروب باردة وساخنة وتفتيت الاقتصاد العالمي بدرجة أكبر. كما تزايدت حدة التأثيرات المترتبة على تغير المناخ وأصبحت أسرع وتيرة من توقعات كثيرين من المراقبين. والجوائح المرضية أيضا من المرجح أن تصبح أكثر تواترا وأشد عدوى وأعظم تكلفة. ويهدد التقدم في...
بقلم: نورييل روبيني

دافوس ــ يحيط بالعالم الآن حشد من "التهديدات الجسيمة" التي تعرض مستقبلنا للخطر. في حين كانت بعض هذه التهديدات تختمر منذ فترة طويلة، فإن بعضها الآخر جديد. لقد أفسح التضخم المنخفض، الذي ظل متواصلا بعناد خلال فترة ما قبل الجائحة، المجال للتضخم المفرط الارتفاع اليوم. وتحول الركود المزمن ــ النمو المنخفض الدائم بسبب ضعف الطلب الكلي ــ إلى ركود تضخمي، حيث تضافرت صدمات العرض الكلي السلبية مع التأثيرات المترتبة على السياسات النقدية والمالية المتساهلة.

في حين كانت أسعار الفائدة ذات يوم منخفضة للغاية ــ أو حتى سلبية ــ فإنها الآن في ارتفاع سريع، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض وخلق خطر اندلاع أزمات الديون المتتالية. لقد أفضى عصر العولمة المفرطة، والتجارة الحرة، ونقل التصنيع والأعمال إلى الخارج، وسلاسل التوريد التي تؤدي وظيفتها في الوقت المناسب، إلى عصر جديد من انحسار العولمة، وسياسات الحماية، وإعادة التصنيع والأعمال إلى الداخل (أو "دعم الأصدقاء")، والتجارة الآمنة، وسلاسل التوريد الزائدة عن الحاجة "على سبيل الاحتياط".

علاوة على ذلك، تعمل تهديدات جيوسياسية جديدة على زيادة مخاطر اندلاع حروب باردة وساخنة وتفتيت الاقتصاد العالمي بدرجة أكبر. كما تزايدت حدة التأثيرات المترتبة على تغير المناخ وأصبحت أسرع وتيرة من توقعات كثيرين من المراقبين. والجوائح المرضية أيضا من المرجح أن تصبح أكثر تواترا وأشد عدوى وأعظم تكلفة. ويهدد التقدم في مجالات الذكاء الاصطناعي، والتعلم الآلي، والروبوتات، والأتمتة (التشغيل الآلي) بجلب المزيد من التفاوت، والبطالة التكنولوجية الدائمة، والأسلحة الأشد فتكا التي يمكن بواسطتها شن حروب غير تقليدية. كل هذه المشكلات تعمل على تغذية ردة فعل عنيفة ضد الرأسمالية الديمقراطية، وتمكين المتطرفين الشعبويين والسلطويين والعسكريين من اليمين واليسار.

ما أسميته "التهديدات الجسيمة" يطلق عليه آخرون وصف "أزمة متعددة" ــ والذي اعتبرته صحيفة فاينانشال تايمز مؤخرا المصطلح الرائج هذا العام. من جانبها، تتحدث المديرة الإدارية لصندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا عن "حشد من المصائب". وقد حذرت في العام المنصرم من أن الاقتصاد العالمي يواجه "الاختبار الذي ربما يكون الأعظم منذ الحرب العالمية الثانية". على نحو مماثل، يزعم وزير خزانة الولايات المتحدة السابق لورنس هـ. سمرز أننا نواجه التحديات الاقتصادية والمالية الأكثر حدة منذ أزمة 2008 المالية. وفي أحدث تقاريره حول المخاطر العالمية ــ الصادر قبل اجتماع النخب في دافوس هذا الشهر لمناقشة "التعاون في عالَـم مفتت" ــ يحذر المنتدى الاقتصادي العالمي من "عَـقـد فريد مقبل عامر بالشكوك والاضطرابات".

وعلى هذا فبصرف النظر عن المصطلحات التي يفضلها المرء، هناك اتفاق واسع النطاق على أننا نواجه مستويات غير مسبوقة وغير عادية وغير متوقعة من عدم اليقين. ففي الأمد القريب، بوسعنا أن نتوقع المزيد من انعدام الاستقرار، والمخاطر الأعلى، والصراع الأشد، والكوارث البيئية الأكثر تكرارا.

في روايته العظيمة التي ألفها بين الحربين العالميتين بعنوان "الجبل السحري"، يصور توماس مان المناخ الفكري والثقافي ــ والجنون ــ الذي أفضى إلى الحرب العالمية الأولى. ورغم أن مان بدأ مخطوطته قبل الحرب، فإنه لم يتمها حتى عام 1924، وكان لهذا التأخير تأثير كبير على الـمُـنتَـج النهائي. تتوالى فصول القصة في إحدى المصحات والتي استلهمها من مصحة زارها بالفعل في دافوس، في ذات الموقع على قمة الجبل (فندق Schatzalp) حيث تُـقام الآن "مهرجانات" المنتدى الاقتصادي العالمي.

الواقع أن هذا الارتباط التاريخي مناسب تماما. إذ أن عصرنا الحالي من التهديدات الجسيمة يشبه تلك الفترة المأساوية التي دامت ثلاثين عاما بين 1914 و1945 بشكل أقرب كثيرا من شبهه بالسنوات الخمس والسبعين من السلام النسبي والتقدم والرخاء في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ينبغي لنا هنا أن نتذكر أن عصر العولمة الأول لم يكن كافيا لمنع الانزلاق إلى الحرب العالمية في عام 1914. في أعقاب تلك المأساة أتت جائحة (الإنفلونزا الإسبانية)؛ وانهيار أسواق الأسهم في عام 1929؛ والكساد العظيم؛ وحروب التجارة والـعُـملة؛ ومعدلات البطالة التي تجاوزت 20%. كانت هذه الظروف المتأزمة هي التي سمحت بصعود الفاشية في إيطاليا، والنازية في ألمانيا، والنزعة العسكرية في إسبانيا واليابان ــ والتي بلغت ذروتها في الحرب العالمية الثانية والهولوكوست (المحرقة).

ولكن بقدر ما كانت تلك السنوات الثلاثين بغيضة ومروعة، فإن التهديدات الجسيمة اليوم قد تكون أشد شؤما من بعض النواحي. فلم يكن جيل ما بين الحربين مضطرا إلى التعامل مع أزمة مناخية، أو تهديدات الذكاء الاصطناعي للعمالة، أو المسؤوليات الضمنية المرتبطة بالشيخوخة المجتمعية (لأن أنظمة الضمان الاجتماعي كانت في ذلك الوقت في أيامها المبكرة، وكان أغلب كبار السِـن يموتون قبل أن يتسلموا أول شيكات المعاش). علاوة على ذلك، كانت الحربان العالميتان من الصراعات التقليدية إلى حد كبير، في حين أن الصراعات الجارية الآن بين القوى الكبرى قد تتصاعد بسرعة في اتجاهات غير تقليدية على الإطلاق، بل وربما تتحول إلى حرب نهاية العالم النووية.

وعلى هذا فإننا لا نواجه أسوأ ما سبعينيات القرن العشرين (صدمات العرض الكلي السلبية المتكررة) فحسب، بل نواجه أيضا أسوأ ما شهدته الفترة 2007-2008 (معدلات ديون مرتفعة بدرجة خطيرة) وأسوأ ما في ثلاثينيات القرن العشرين. إذ يعمل "كساد جيوسياسي" جديد على زيادة احتمالات نشوب حروب باردة وساخنة قد تتداخل بسهولة شديدة وتخرج عن نطاق السيطرة.

على حد عِـلمي، لا أحد من المجتمعين في دافوس اليوم يكتب الرواية العظيمة حول عصر التهديدات الجسيمة. مع ذلك، ينضح عالَـم اليوم على نحو متزايد بِـنُـذُر الشر التي يستشعرها المرء عندما يقرأ رواية توماس مان. الواقع أن كثيرين منا منغمسون في الشعور بالرضا عن الذات وعن تلك القمة، ويتجاهلون ما يحدث في العالم الحقيقي أسفل الجبل. نحن نحيا مثل السائرين نياما، ونتجاهل كل إنذار حول ما يحمله لنا المستقبل. يجدر بنا أن نفيق قريبا، قبل أن يتزلزل الجبل.

* نورييل روبيني، أستاذ فخري للاقتصاد في كلية ستيرن للأعمال بجامعة نيويورك، وهو كبير الاقتصاديين في فريق أطلس كابيتال ومؤلف كتاب "التهديدات الضخمة: عشرة اتجاهات خطرة تهدد مستقبلنا، وكيفية النجاة منها"
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق