المقدمة

عند البحث في إطار العلاقة بين الدولة والشعب، تتبين لنا الحاجة للتعمق في البحث في معالم (العدل)، وحالاته وأنواعه وتطبيقاته، استدلالاً بكون العدل من أسس الدين ومقاصد الشريعة، وكذلك فإن المؤسسة التي ترتكن وتستند وتتكئ وتعتمد عليها الدولة، في حفظ الأمن والاستقرار في البلاد، وهي الجيش والقوات المسلحة، مما يتطلب التعمق في البحث، لجهة العلاقة الوثيقة بين أدوار وأداء المؤسسة العسكرية، وبين تحقيق العدالة في العلاقة بين الحكم والشعب.

إن المؤسسة العسكرية بقدر ما هي نافعة، قد تكون خطيرة في الوقت نفسه على الحريات العامة وعلى حقوق الناس، عندما تكون وسيلة وأداة، لقمع الناس والمستضعفين، ولتكريس دعائم الاستبداد، مما يتطلب وضع ضمانات بعدم تحول الجيش والقوات المسلحة، إلى نقيض الهدف والغاية التي أنشئت من أجلها، بل أن يكون كما قال أمير المؤمنين (عليه صلوات الله وسلامه): (فَالْـجُنُودُ بِإِذْنِ اللَّهِ حُصُونُ الرَّعِيَّةِ)[1].

فدورهم الأساسي ومسئوليتهم الأولى هي الحفاظ على أموال الناس وأعراضهم وأنفسهم ودمائهم وحقوقهم، وهذه الكلمة (حُصُونُ الرَّعِيَّةِ) هي مطلقة، من حيث أنفسهم، من حيث أموالهم، من حيث دمائهم، ومن حيث حقوقهم، من كل هذه الجهات هنالك إطلاق.

الغاية

إلقاء الضوء على معالم العدل وأقسامه ومبانيه، ثم بيان الضمانات الداعمة لأداء الجيش والأمن، بما يمنع القمع والاستبداد والظلم للرعية، وعلاقته بتحقيق العدل والعدالة في الحكم بين الناس وفيهم، عبر التدبر بالآيات الشريفة.

المبحث الأول: بصائر قرآنية

العدل معناه وماهيته وفائدته

يقول تعالى: [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ]، وهذا هو أمر إلهي صريح بالحكم بالعدل.

لكن ما هو العدل؟.

قد مضى فيما سبق أن ذكرنا بعض التعاريف للعدل، ونقول هنا: إن العدل قد عرف بتعاريف شتى، لا نرى في هذه التعاريف تناقضاً أو تضاداً وتضارباً بل هي متكاملة، يكمل بعضها بعضاً، كل تعريف يأخذ جانباً أو وجهاً أو مظهراً من مظاهر العدل ويوضحه لنا.

فمن هذه التعاريف: (العدل هو الاعتدال والتوسط بين الجانبين الإفراطي والتفرطي، والاعتدال والتوسط بين النمطين العالي والداني)، وبتعبير آخر العدل: هو الاعتدال من الناحية الكمية ومن الناحية الكيفية.

ومن التعاريف: (إن العادل هو الذي يثيب المحسن على إحسانه، و يجازي المسيء على إساءته).

وعلى ضوء ذلك تقول الصديقة فاطمة الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها) في خطبتها في المسجد[2]: (فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس ونماءً في الرزق، والصيام تثبيتاً للإخلاص، والحج تشييداً للدين، والعدل تنسيقاً للقلوب)[3].

فهذه هي العلل الغائية، أو من العلل الغائية ومن الأهداف التي شرعت لأجلها هذه التشريعات، وكل كلمة من هذه الكلمات تستدعي وقفات طويلة، لكن موطن الشاهد هنا هو في كلمة واحدة، إذ تقول (صلوات الله وسلامه عليها) في خطبتها في المسجد: (والعدل) يعني: إنما جعل الله العدل وشرّعه وأوجبها، (تنسيقاً للقلوب).

وهنا توجد نسخ متعددة، في النسخة الأولى (العدل تنسيقاً للقلوب)، وفي النسخة الثانية (العدل مسكناً للقلوب)، وفي النسخة الأخرى (العدل تنسكاً للقلوب)، ولكل من هذه النسخ الثلاثة وجه صحة، يعني بأية طريقة نقرأها فإن المدلول مفيد ونافع.

1- العدل عبادة وتنسك

أ-من هذه النسخ (العدل تنسكاً)، والتنسك بمعنى العبادة، أي أن العدل عبادة للقلوب، وما أروع هذه العبارة، (العدل تنسكاً للقلوب)؛ ذلك أن العدل عملية صعبة جداً، والعدل يبدأ من القلب.

فإن قلب الإنسان إذا كان عادلاً، وكانت سريرته مستقيمة، فإن جوارحه أيضاً تكون كذلك. والظلم أيضاً ينشأ من القلب، فإن من قلبه آثم فإنه سيظلم بيده أو لسانه الآخرين، بل بعينه أيضاً إذ قد ينظر شزراً ويؤذي الآخرين بنظراته الحادة أو بغير ذلك.

إذن العدل هو عبادة القلوب وتنسكها، والمبحث حول ذلك يحتاج إلى بحث مستوعب.

والحاصل: إن العدل قد جعله الله تعالى عبادة للقلوب، فكما أن عبادة الجبهة هي السجود على الأرض مثلاً، وعبادة الظهر والرجلين هي الانحناء في الركوع، كذلك (العدل) هو عبادة القلب.

2- العدل عامل ثبات وتماسك

ب- والنسخة الثانية أنّ (العدل مسكناً للقلب)، بمعنى أن (العدل) يمسك القلوب عن أن تنساق للضغائن والأحقاد، أو أن تنهار تحت حكومة الظلم والظلمات، والبغي والشهوات.

ولا فرق في ذلك بين الحاكم وبين القاضي وبين الجيش والقوات المسلحة، فإنها إذا كانت عادلة في طريقة تعاملها مع الجماهير، ومع مطالباتهم المشروعة، بحقوقهم الشرعية الدينية والإنسانية، فإن قلوب الجميع ستكون متماسكة حينئذٍ.

إن العدل يمسك القلوب، فكما أن البناء يحتاج إلى ألواح تشد بعضه ببعض، والألواح تحتاج إلى مسامير تمسكها، كذلك القلوب، لكن ما الذي يمسك القلوب ويشدها إلى بعضها؟!.

وما الذي يمسكها من أن تتحطم تحت أطنان من الحسد والحقد، والبغضاء والعداوات! إنه العدل، وبخلافه الظلم؛ لأن الحاكم عندما يظلم الناس، فإنهم سيحملون حقداً عليه، ومن هنا تبدأ المشاكل والفتن بين الناس وبين عشيرة الحاكم أو حزبه أو جماعته والمنتفعين به.

أما إذا كان العدل هو الحاكم؛ فإن القلوب كلها تكون متآلفة متحابة متقاربة، كأنها معقودة في سلك الأخوة والمودة، لذلك تراها منظمة بشكل عقلاني وإيماني وإنساني.

وكذلك الحال في الأسرة التي يتعامل فيها رب البيت والأم بحكمة وبعدل، فكل القلوب تكون متماسكة وممسوكة، بمعنى أنها تكون في أماكنها وفي مواضعها، ليس فيها تقلبات واضطرابات أو انهيارات، فهذا يفكر في الانتحار ـ لا سمح الله ـ وذاك يصاب بالتشاؤم والإحباط، والآخر يصاب بالغرور والكبرياء...كلا... بل القلوب ممسوكة متماسكة مستقرة.

أما ذاك الذي أصيب بالإحباط واليأس، فكأن قلبه قد خرج عن السلك والانتظام، فيصاب بجلطة في القلب أو غير ذلك.

3- العدل عامل تنظيم وتنسيق

ج-والنسخة الثالثة أن (العدل تنسيقاً للقلوب)، وتنسيقاً أي تنظيماً، أي أن القلوب ستكون منتظمة بالعدل، ويكون بينها تنسيق وتناسق وتناسب، ومبعث ذلك القلب. فإن العدل يوجب أن يكون الناس متآلفين ومتحابين ومتقاربين بين القلوب، وذلك بدوره يبعث على التنسيق العملي في شتى مجالات الحياة، بدل النزاع والتناحر والتدابر.

أما إذا كان الظلم سيد الموقف، فإن القلوب لن تكون متناسقة، ولا يكون فيها تنسيق، بل يكون قلب هذا ضد ذاك وبالعكس، قلب ينتفض وقلب يستسلم ويرضخ لكنه ساخط.

وعند التدبر نجد أن هذه الألفاظ والمعاني الثلاثة لكلام الصديقة الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها)، تنطبق عليها تلك التعاريف اللغوية.

فلنلاحظ مثلاً أن العدل في كلامها (صلوات الله عليها) وفي الآية الشريفة [وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ]، ينطبق عليه هذا التعريف بـ: (أن تثيب على الحسنة حسنة)، فإذا أحسن عليك أحدهم فالعدل أن تثيبه بالحسنى، وليس أن تجازي المحسن بالسيئة.

موقف الحكومات في مواجهة المظاهرات

وعلى ذلك فإن على الحكومات، عندما تجد الشعوب بدأت تطالب بحقوقها، وخرجت إلى الشوارع في مظاهرات سلمية، عليها أن تجازيها بالحسنى؛ لأن عمل الناس في حد ذاته وبما هو هو أمر حسن؛ حيث إنهم يطالبون بحقوقهم الشرعية.

ومن الواضح أننا لا نقصد بذلك أولئك المخربين ـ فلا شأن لنا بهم ـ أو الفوضويين أو الانتهازيين أو التكفيريين، أو الذين يرومون تخريب البلاد وإثارة الفوضى في العباد.

وإن مطالبة الناس عامة بحقوقهم الشرعية بالطرق السلمية في أي بلد ديكتاتوري، لهي أمر مشروع وحسن ومما يقرّه العقل والشرع، وهو مصداق للأمر بالمعروف، فإنهم خرجوا يأمرون الحاكم بالمعروف: [أَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ][4]، و(ادفع لكل ذي حق حقه)[5]، ولا تظلم ولا تسجن، ولا تهتك الحرمات، ولا تصادر الرأي، ولا تصادر الحقوق، ولا تسحق الحقوق.

وعلى ذلك فإن على الحاكم أن يثيب على الحسنة حسنة، ويعامل المطالبين بالحسنى. لكن المستبدين يجازون الحسنة بالسيئة، فإن المستبدين عادة يواجهون إحسان الناس لهم ومطالبتهم الحكام بالعدل والإنصاف، بالكبت وبالإرهاب وبالضغط.

تلاحظون ذلك في الكثير من دول العالم؛ بدءاً من ليبيا ومروراً بالبحرين ومواجهتها للناس الذين يطالبون بحقوقهم بالطريقة السلمية بالاعتقالات، وبقتل الناس في السجن، تحت التعذيب، وباعتقال العلماء والأبرياء والنساء من طبيبات وغيرهن، ووصولاً إلى اليمن وغيرها.

إن مواجهة الحكام للناس العزل المطالبين بحقوقهم، بالعنف والإرهاب والسجن والتعذيب ليس عدلاً، عقلاً وشرعاً وعرفاً، بل إنه الظلم بعينه، والظلم مرتعه وخيم، ويعود على الحكام بأسوأ النتائج.

وقد يتصور الحاكم آنياً أنه قد انتصر، لكنه في الواقع أحرق مستقبله كما أحرق مستقبل البلاد، [وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ][6]، إن الله تعالى لا يغفل عن ظلم ظالم، بل يعاقبه أشد العقاب، كما أن هؤلاء المستبدين يفقدون شرعيتهم أيضاً إذا كانت لهم شرعية، ويفقدون ماء وجههم إذا كان لهم بعض ماء وجه، ويفقدون مكانتهم الدولية إذا كانت لهم مكانة، كما أن استقرار البلاد وتقدمها وازدهارها أيضاً يختل بذلك.

إن العدل هو أن تثيب المحسن على إحسانه، وتجازي المسيء على إساءته.

وعلى ذلك فإن على الحاكم لو علم بأن وزير الداخلية، أو قائد الجيش، أو وزير الأمن والاستخبارات، أو غير ذلك، قد ظلم ولو واحداً من الناس أو عذب واحداً من الأحرار بالسجون عليه أن يحاسبه، أي تقع على الملك والأمير والقائد والرئيس بنفسه مسئولية أن يعاقب وزير داخليته، ولا يترك الأمور تتطور إلى درجة أن يطالب بالإطاحة به.

إن الحاكم الحكيم العادل هو الذي يضع الأمور موضعها، فإذا كان كذلك أحبه الناس، وسيستمر حاكماً ما دام كفؤاً ورضي الناس به، وحتى إذا انتخبوا غيره، فإنه سيبقى معززاً مكرماً له مكانته، ولن يكون مصيره في مستشفى السجن العسكري مثلاً، ذليلاً أسيراً منبوذاً، تحاسبه المحاكم على كل صغيرة وكبيرة.

إن الحاكم الحكيم والعادل هو الذي يجازي المسيء على إساءته، وعلى أي ظلم يقوم به أحد وزرائه أو أعوانه، بمحاكمة عادلة قبل أن ترتد السيئة إليه، كما أنه يثيب المحسن على إحسانه، وإن صدرت من منافسيه من الأحزاب أو العشائر الأخرى، والمقياس عنده الكفاءة والتقوى، لا المحسوبيات والمنسوبيات والانتماءات العرقية والحزبية وشبهها.

وبذلك كله يكون العدل تنسيقاً للقلوب، كما تقول الصديقة الزهراء (عليها السلام)، كما أنه سيكون مسكناً للقلوب، وتنسكاً للقلوب أيضاً؛ ذلك أن عبادة الحاكم الحقيقية هي بالعدل، وليس بأن يصلي صلاة الليل، فمطلوب الشرع والناس من الحاكم حسب موقعه ووزنه أن يقوم بأهم الواجبات المتوجهة إليه وهو العدل.

فليس المطلوب منه بالدرجة الأولى صلاة الليل، ولا قراءة القرآن، فإن كل ذلك حسن لكنه مستحب، لو فرض أنه يصلي صلاة الليل بخلوص نية، لا رياءً ولا سمعة ولا لخداع الناس، فهذا أمر مستحب لا يفي بأداء الواجب، [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ].

إذن هذه الآية الشريفة توجب علينا العمل بهذه المعادلة: إثابة المحسن على إحسانه، ومجازاة المسيء على إساءته، في حقل (حقوق الناس).

فإذا ظلم أحدهم فرداً، فله شخصياً أن يعفو عن حقه الشخصي، لكن أن يظلم شخص من المسئولين الآخرين، فلا مجال للعفو عنه، بل على الحاكم أن يدفع المنكر، وأن يعمل بالمعروف.

(العدل) من أصول الدين

ومن هنا نعرف وجهاً من الوجوه العقلية التي دعت الشيعة الاثني عشرية ومن قاربهم في عقائدهم، إلى القول بأن العدل أصل من أصول الدين.

فإن أصول الدين عند الشيعة هي: (التوحيد، والعدل، والنبوة، والإمامة، والمعاد). إذ لو أنكر شخص العدل، أي عدالة الله سبحانه وتعالى، فلن يستقر حجر على حجر، إذ سيكون معنى ذلك أن الله سبحانه قد يجزي على السيئة بالحسنة، وإن من يقتل الناس ويسفك الدماء ويصادر الحريات، قد يجعله الله في قمة الجنة، كمثل فرعون وهامان وجنودهما، [إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ][7]، ومثل الحجاج وهتلر وصدام.

أما أولئك الذين أثابوا وأحسنوا، من الأنبياء والصالحين والمجاهدين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فحسب معادلة المنكِر لعدل الله تعالى ورأيه بأن الله قد يجزي الإحسان بالسيئة، فإن الله تعالى قد يرسل الأنبياء جميعاً إلى النار!!

أفهل يمكن أن يلتزم إنسان عاقل بهذا الكلام؟!.

وألا يستلزم هذا الكلام هدم أساس الأديان؟!.

وألا يستتبع تثبيط الصالحين عن صلاحهم، وعن العمل الصالح؟!.

إن العدل هو أساس الدين، ولو أنكر منكِر عدل الله سبحانه وتعالى، فذلك يعني إلغاء أساس الأديان بأكملها، وقد قال الله تعالى: [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ][8]، فكيف يأمر بالعدل وهو يظلم!! فهو غير معقول.

والحاصل: إن التفسير الثالث للعدل[9] هو: (أن تثيب المحسن على إحسانه، و تجازي المسيء على إساءته).

أما التفسير الرابع للعدل فهو (الاعتدال)، ومراعاة النمط الأوسط بين النمطين العالي والداني، ومراعاة الاستواء، والطريقة الوسطى بين الإفراط وبين التفريط.

وذلك يعني أن هنالك عدلاً من الناحية الكمية، كما هنالك عدل من الناحية الكيفية، وهذا البحث نتركه لفرصة أخرى بإذن الله تعالى.

المبحث الثاني: ضمانات استقامة الجيش وعدالته

عند الاستضاءة بهذه الآية القرآنية الكريمة: [وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ]، في معرفة حقيقة وضمانات توفر العدل في الجيش، بمعنى: أن تضع الأمور مواضعها، وأن تثيب المحسن على إحسانه، وتجازي المسيء على إساءته، وأن تراعي الاعتدال.

نجد أنه لابد من ضمانات عديدة كي يكون الجيش، معتدلاً مستقيماً نزيهاً، يجسد دوره الحقيقي في كونه (حصن الرعية)، غير مائل وغير سار على طريق الهوى، ولا يستجيب للحاكم إذا أراد أن يقمع الناس، وقد تم ذكر مجموعة من الضمانات في البحوث السابقة.

5- تقليص وسائل هيمنة الحاكم على الجيش

ومن هذه الضمانات ـ وهي الخامسة ضمن سلسلتنا ـ والتي علينا أن نضعها نصب العين دائماً، وأن نبذل جهداً استثنائياً، لكي تترجم على أرض الواقع، هي: تقليص وسائل هيمنة الحاكم، أو السلطة الحاكمة على الجيش؛ كي لا تستطيع تلك الجهة الحاكمة، أو ذلك الشخص المستبد الحاكم، أن يستغل هذا الجيش في ضرب الناس، وفي سحق الحقوق، وفي إذلال العلماء والمفكرين والأحرار، وكبتهم، وسحق حقوقهم في مختلف الأبعاد.

أي تسخير الجيش فيما يخالف الهدف الذي أوجد من أجله، وهو كونه حصناً للرعية، وهذا ما يستدعي بحوثاً موسعة، لكننا سنشير الآن إلى جانب واحد من تلك الجوانب فقط:

فإن أحد أهم الأركان في تقليص هيمنة المستبد على الجيش، هو تغيير معادلة نظام المثوبة والعقوبة، وذلك بأن لا يكون نظام المثوبة والعقوبة بيد الحاكم، أو زير الدفاع، أو رئيس الوزراء، أو رئيس الجمهورية نفسه، أو رئيس هيئة الأركان المشتركة.

فإن نظام المثوبة والعقوبة لو جرد بأكمله أو في الجملة من الحاكم، عندئذ سنضمن إلى حد كبير استقامة الجيش، أو على الأقل حياديته، فيما لو حدث هنالك صراع ونزاع بين الشعب وبين الحكومة.

أما لو كان نظام المثوبات والعقوبات بأكمله بيد الحاكم، فمن الطبيعي أن الجيش سيكون خاضعاً عندئذ لهذا الحاكم، واحتمالات أن يعمل بالعدل ستكون أقل.

نظام المثوبات والعقوبات

وتوضيح ذلك: إن المثوبات هي الرواتب والمخصصات أو المقررات الشهرية، وهي المنح والعطايا الإضافية، وهي الترقيات، من رتبة إلى رتبة أرفع.

وهنالك عقوبات أيضاً، مثل عقوبة المناقلات التنقلات الفجائية: بأن ينقل هذا الضابط أو ذلك النقيب أو العقيد أو غيرهم، من موقع إلى موقع آخر، فهذا نوع من العقوبة، ومن العقوبات الإقالة، بأن يُقال من منصبه، وغير ذلك.

والناتج من ذلك أن هذا العسكري مهما كانت درجته، إذا رأى بأن كل مصيره بيد هذا الحاكم؛ الامتيازات، والأموال والمنح والترقيات، والعقوبات أيضاً، فمن الطبيعي أن هذا العسكري بطبعه يتحول ـ إلا من عصمه الله ـ إلى عبد مطيع، أو في أفضل الفروض إلى تابع وإرادته مُسيرة للغير.

لكنه ـ على العكس من ذلك ـ إذا رأى بأن نظام المثوبات والعقوبات، ليس مرتهناً برئيسه، فإن دواعي الاستسلام والخضوع المطلق، والإطاعة العمياء من هذا العسكري لوزير الدفاع، أو من ذلك المسئول الأمني لوزير المخابرات، أو من ذلك الشرطي لوزير الداخلية، ستكون أضعف وأقل.

إذن لمن تحوّل العقوبات والمثوبات؟

ولذا نرى بأن من الواجب أن نحوّل نظام المثوبات والعقوبات ـ إما بأكملها أو في الجملة وعلى الأقل مقدار منها ـ إلى جهة أخرى، ومن الخيارات أن تكون الجهة الأخرى هي العلماء، ومن الخيارات أن تكون الجهة الأخرى هو البرلمان، ومن الخيارات: مجالس الشورى المحلية، وستأتي الإشارة له بعد قليل، فالخيارات متعددة.

ولكن قد يبدو ذلك في بادئ النظر غريباً؛ لأن النظم لا تعمل عليه عادة، ولكننا نرى ضرورة أن تعمل بهذه الطريقة، كيلا يتحول الجيش إلى أداة قمع وإرهاب وديكتاتورية. وكذلك نرى أنه يمكن بدلاً من أن يأخذ العسكر رواتبهم من مراتب الجيش العليا، يمكن أن نسنّ قانوناً بأن يأخذ العسكر رواتبهم، أو مخصصاتهم الشهرية:

أ- من شورى إدارة المسجد مثلاً، فإن المسجد في صدر الإسلام كان هو مركز القيادة، فهنالك كان القضاء في الخصومات، وهناك كان التوجيه والإرشاد، وكان هنالك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فما الإشكال في أن يتسلم الجنود رواتبهم من المساجد، من مساجد محلاتهم، من هيئة الأمناء أو المدراء الذين يديرون ذلك المسجد؟!.

ب-أو أن يأخذوا رواتبهم من مجالس شورى المناطق والمحلات.

ج-أو أن يأخذوا رواتبهم من العلماء في كل منطقة، فكما أن طلاب الحوزة العلمية يأخذون الرواتب من العلماء والمراجع، كذلك ليأخذ الجنود رواتبهم منها أيضاً.

د-أو أن يأخذوا رواتبهم من إحدى اللجان المتخصصة بذلك في البرلمان.

وكذلك الحال في (الترقيات)، فلتكن من خلال الهيئة الإدارية للمسجد، طبعاً ذلك كله حسب الضوابط المعروفة، كما هو واضح.

ولرفع الاستغراب نذكر أن لذلك مثيلاً، وله أمثلة في عالمي التكوين والتشريع، وله أيضاً نظير حتى من العالم الديمقراطي.

ولنبدأ بالمثال المعاصر: فإن الكتب الدستورية المكتوبة في القانون الدستوري، تنقل لنا أن إحدى الدول المتحضرة في عالم اليوم[10]، كانت تعمل بالنسبة للنائب في البرلمان وفق ما اقترح هنا بالنسبة للجيش.

فهذه الدولة من القرن الثالث عشر إلى القرن الخامس عشر الميلادي، كانت تلتزم بقانون بأن النائب في البرلمان، لا يأخذ مخصصاته الشهرية من الحكومة، كيلا تكون لها هيمنة على هذا النائب، الذي ينبغي أن يجسد إرادة الناس، بل إنما كان النائب يأخذ راتبه من الناس أنفسهم، أي من ناخبيه، وذلك طوال قرنين أو ثلاثة قرون، كان هذا القانون في النواب ساري المفعول، بعد ذلك لم يستمروا على ذلك المنهج؛ لعله لأنهم ضمنوا بأن الدولة لا تهيمن على البرلمان.

أما في دولنا التي تمتلك الدول هيمنة شبه تامة على البرلمان، أو الجيش، فيجب عندئذ أن نوفر ضمانات إضافية لتقليص هذه الهيمنة، كيلا تتحول إلى أداة تخريب.

فنقول: كما أن النائب لا مانع من أن يأخذ راتبه أو مقرره الشهري من الناخبين بآلية معينة، كذلك ليأخذ العسكري راتبه أو ترقيته من الناخبين، من الناس طبق آلية معينة، عن طريق مؤسسة اسمها المسجد مثلاً.

وهنالك بحث مفصل عن المساجد، والسيد الوالد (رضوان الله تعالى عليه) كتب أكثر من كتاب عن دور المساجد والحسينيات، وإن لها أدواراً متعددة، وليس دور المسجد مجرد العبادة، بل إن الدنيا والآخرة مجتمعتان في المسجد.

وهذه الآليات يمكن أن تدرس أكثر، ويمكن أن تتنوع أو تتغير بتغير الظروف أو البلاد، كما لو رأى أهل الخبرة والمقننون في ظرف معين في دولة معينة، أن من الأحسن أن تكون رواتب الجيش والترقيات ونظام العقوبات من إقالات وتنقلات وغيرها مرتبطة بالبرلمان، أو بالعلماء، أو بالمساجد.

وقد يرون أن الأفضل أن ترتبط بمؤسسات أخرى من مؤسسات المجتمع المدني، هذه كلها قابلة للبحث والنقاش، إنما الجامع الرئيسي الذي نريده هو تقليص هيمنة الحاكم المستبد على الجيش والقوات المسلحة.

هذه القدرة التي هي السبب الأساسي في الطغيان، وقد قال سبحانه وتعالى: [إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى][11].

مثال آخر من الدول المعاصرة، هو (الشركات) فإن رئيس الشركة منه الأموال، ومنه الإدارة أو تعيين المدراء، وبموافقته يتم استخدام الموظفين، لكن هل تقبل الدول المعاصرة بأن يكون نظام المثوبات والعقوبات بأكمله بيد مدراء الشركات؟!.

كلا.. فالدولة لا تقبل بذلك، فتتدخل بنسبة ما في شانها، ومنطقها في ذلك: إنه وإن صح أن رئيس الشركة هو المؤسس لها، وأن الأموال والإدارة منه، وإن صح أيضاً أن الموظفين جاؤوا طوعاً ليوظفوا فيها، لكنها كحكومة مكلفة بحماية حقوق الناس ومنهم الموظفين، ولذلك تفرض على رئيس الشركة بعض القيود، فلا يحق له أن تفصل الموظفين إلا وفق ضوابط محددة.

ولا نقول: إن كل القيود المقررة من قبل الدولة تجاه الشركات صحيحة، لكن بعضها في الجملة صحيح، وذلك في إطار أن لا يُظلم ذاك العامل، فإن الدول تفرض الحد الأدنى للأجور مثلاً ـ وهي طرف ثالث ـ لكنها تفرض على من يريد أن يستخدم عاملاً أو موظفاً، أنه لا حق له في أن يعطيه في الساعة أقل من خمسة دراهم مثلاً.

فالدولة هنا تدخلت في داخل المنظومة الخاصة لشركة كذا، أو مؤسسة كذا، ووضعت ضوابط، ووضعت حدوداً للمثوبات أو للعقوبات، كما أنها تفرض حدوداً على ما يعطى للرئيس التنفيذي للشركة، فتقرر أنه لا حق لمجلس الإدارة أن يخصص له مبلغ خمسة ملايين دولار سنوياً مثلاً.

كما حدث في الأزمة الأخيرة التي أطاحت بالكثير من اقتصاديات الدولة المتحضرة. إذ تبين أن من أسباب الأزمة، أنهم يعطون للمدير التنفيذي أموالاً طائلة هائلة، لا تتحملها ميزانية الشركة. إذن يجب أن توضع قوانين، كيلا يظلم عامة الناس والشركاء والمساهمين.

وأما في عالم التكوين، فإننا نجد أن الله سبحانه وتعالى خلق الرجل والمرأة فتكونت منهما الأسرة، لكن الملاحظ أن نظام المثوبات والعقوبات يتوزع طبيعياً، أو فقل طوعياً وفطرياً بين الأب وبين الأم.

وهذا التوازن هو لصالح الطفل، بل ولصالح الأبوين والمجتمع أيضاً، فإنه إذا كان كل شيء، عقوبةً ومثوبةً بيد الأم، فلعل الأم تسرف في تدليل الطفل فيفسد، وإذا كان كل شيء بيد الأب، فلعل الأب يفرط في القسوة على الطفل، فيتربى الطفل على الحقد والبغضاء، وينعكس ذلك على المجتمع.

إذ أن هذا الطفل عندما يكبر، فإنه ينفّس عن هذه الحالة النفسية السلبية ويعكسها على الناس، لكن وجود التوازن الطبيعي في الأسرة، يحول دون أن يتربى الطفل معقداً أو رخواً لا أبالياً.

فإن الأب إذا قسي على الأبناء أو البنات، ستهدئ الأم من روعه، وتأخذ جانبهم إلى حد ما. والأم إذا دللت الأطفال أكثر من اللازم، فإن الأب يحاول أن يحول دون ذلك بالحكمة والحسنى، والعكس بالعكس لا فرق، إن هذا التوازن الطبيعي مطلوب بل هو أكثر من ضرورة.

ونقول: كما الأمر في الأسرة، كذلك الأمر في الدولة يجب أن يكون كذلك، فلو فرضنا أن رئيس الجمهورية أو وزير الدفاع هو القائد الأعلى للجيش، أو رئيس الهيئة الأركان المشتركة، فإنه ينبغي أن يكون هناك موازن له، في نظام المثوبة والعقوبة في الجيش، اقتداء بما صنعه الله سبحانه وتعالى في اللبنة الأساسية الأولى، والوحدة الأساسية التي بني المجتمع بأكمله منها.

هذه إذن ضمانة أخرى من الضمانات: تقليص سبل هيمنة الدولة المطلقة على الجيش، عبر إيجاد التوازن في نظام المثوبات والعقوبات.

المبحث الثالث: الأجوبة على الاستفسارات ذات العلاقة بموضوع البحث

السؤال: الأهلية للديمقراطية ومبررات استبداد الأنظمة

إن الأنظمة الجائرة في بلاد المسلمين، عادة ما تبرر استبدادها بتخلف سياسي وثقافي، قد ضرب هذه الشعوب منذ قرون، وبذلك فإن الحرية تضّر بمصالح هذه الشعوب أكثر مما تنفعها؟.

الجواب:

وقبل الإجابة على هذا السؤال ـ بل في الواقع (الشبهة) ـ نشير إلى أن هذا السلاح يشهره عادة المستبدون في وجه الإصلاحيين والأحرار؛ وذلك لأن المستبدين لا يرضون بأن يرفعوا قبضتهم الحديدية عن أعناق الناس، ولذلك يختلقون الأعذار والحجج لتكريس سلطتهم بأية طريقة من الطرق.

وهذه الحجة المخترعة، هي من بين تلك الأعذار المتوهمة والكاذبة، لضمان ديمومة سيطرة الديكتاتور، فالحاكم الديكتاتور وأبواقه الإعلامية تدعي: بأن الناس غير مهيئين للحكومة الشورية أو الاستشارية، (إذا كانوا ملتزمين بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة)، أو يقول: بأن الناس غير مهيئين للديمقراطية، (إذا كان الحاكم علمانياً).

وتدعي: إن الناس ليسوا قادرين على معرفة الأصلح للحكومة، ولا هم يملكون الإرادة لانتخابه، لذا فإننا نحن (الحكام الحكماء بزعمهم) نفرض أنفسنا عليهم كقيمين على مصالحهم؛ لأننا الأعرف بمصالحهم، وذلك إلى أن يتهيأ الناس وتتوفر فيهم القابلية، لكي يحكموا أنفسهم بأنفسهم، عندئذ نفوض الأمور إليهم ليديروا البلاد بالانتخاب!!

هذه هي الشبهة التي تطرح عادة، لكن نقول: إن هذه الشبهة واهية جداً وعليلة، وهي من الوهن والضعف حتى كأنها حيكت من نسج بيت العنكبوت، وهذه الحيلة لم تعد تنطلي على عاقل، أو على مثقف، أو حتى على الجاهل، إلا القليل منهم.

فإن من الواضح أن هذه خدعة لتبرير السيطرة غير الشرعية على مقدرات الناس، وذلك مثل أن يغتصب أحدهم داراً، ثم يبرر جريمته بأن أصحاب المنزل وأهل الدار لا رشد فكري لهم، ولا يعرفون فن تدبير أمور المنزل، وإنه ـ أي الغاصب ـ أعرف منهم وأفهم وأذكى.

ومع قطع النظر عن ذاك كله، نقول:

أولاً: من أين لك هذا؟!.

ومن قال لك بأن الناس غير مؤهلين للديمقراطية، أو للاستشارية، وللحكومة الشورية ـ نسبة إلى الشورىـ؟!.

بل الأمر على العكس تماماً، فما أكثر العلماء في الأمة، وما أكثر المثقفين وهم بالملايين وأطباء ومحامين ومهندسين وصحفيين ومدراء وغيرهم.

بل إن أكثر الناس في هذا الزمن متطورون، وإن عامتهم يتعاملون مع مختلف وسائل الإعلام، كمثل الشبكة العنكبوتية (الانترنت)، وشبكات التواصل الاجتماعي كتويتر وفيس بوك، وأنواع الهواتف النقالة المتصلة بالإنترنت كـ: بلاك بري والآيفون والجالاكسي وغيرها.

كما أن الكتب والجرائد والمجلات متوفرة بكثرة في الأسواق والمكتبات وأجهزة الحاسوب والآي باد وغيرها.

فمن أين يقول الطاغية وأعوانه: بأن الناس ليسوا مؤهلين؟! وما هذه إلا دعوى بغير سلطان، بل إنه يجر النار إلى قرصه، فهو متهم في هذه الدعوى، والبراهين قائمة على العكس؛ فإن الكل يشهد بأنه ما أن تفسح الدولة المجال للناس حتى تنشأ جرائد ومجلات، وتؤسس نقابات واتحادات ومنظمات ومؤسسات للمجتمع المدني وللرعاية الصحية ولرعاية الأيتام، وغير ذلك.

إن الدولة هي التي تخنق الناس، ولذا نرى الناس في أي بلد، توفرت فيه حريات ولو نسبية قد انطلقوا.

ونسأل المستبد مرة أخرى: هل هو ونظامه فسح المجال حقيقة للناس وللديمقراطية أو للاستشارية، حتى يرى الناس قد عجزوا بالفعل، وصارت البلاد عاليها سافلها وسافلها عاليها؟.

وثانياً: لو فرض وسلمنا، أن الناس غير مهيئين للديمقراطية، لكن من قال بأنه هو الحاكم الأصلح؟!.

والغريب أننا نجد الحكام المستبدين عادة هم من الطبقة الجاهلة، أو من المستوى العادي جداً، ومع ذلك نجده يدعي أنه الأصلح والأفضل!! وهل تجد في الحكام المستبدين من يحمل كفاءة الطوسي، أو أبو علي بن سينا، أو أديسون، أو نيوتن!! وحتى لو وجد فهل ذلك يبرر مصادرته لحقوق الآخرين، والسيطرة عليهم بالقدرة ودون رضاهم؟!.

وأؤكد: إن الكل يعلم أن ثقافة المستبدين عادة محدودة وعادية، ويوجد في البلاد من أمثاله الملايين، كما يوجد بالألوف أو مئات الألوف مِمَن هو أعلم منه، ومن هو أكثر منه ثقافة ومن هو أكفأ منه[12]!!

وإذا رفض المستبد أو أنصاره هذا الكلام، فليقم مناظرة أو مقابلة تلفزيونية، كي يشهد الجميع كم هنالك في أنحاء البلاد، من الكفاءات ومن المفكرين ومن العلماء، ومن الذين يتمكنون أن يسيّروا شؤون البلاد بنحو أفضل.

والحاصل: إن الناس أولاً مهيئون، ولهم تلك الكفاءة لكي يحكموا أنفسهم بأنفسهم في إطار الشريعة، لمن يقبل الشريعة، وإن لم يكونوا مسلمين ففي الإطار الذي يرتضونه.

وثانياً: لو فرض أن الناس غير مهيئين، فيجب أن ينتخب أهل الخبرة وكبار العلماء وأساتذة الجامعات والمثقفين حاكماً، إذ مَن قال بأن هذا المستبد هو الذي يجب أن يحكمهم؟!.

وهل القوة والسلطة والسيف هو منشأ الشرعية؟!.

وثالثاً: لو فرض وتنزلنا وسلمنا بأن الشعب غير مهيأ، لكي يتقبل الانتخابات والديمقراطية أو الاستشارية الإسلامية، ثم لو فرض بأن الحكام المستبدين الذين يحكمون في هذه البلاد بالفعل هم الأكفأ ـ مع أن هذا القول مما يُضحك الثكلى ـ فنتساءل من زاوية أخرى: أين برنامج الحاكم العملي لتهيئة الناس لكي يكونوا مستعدين لتقبل الاستشارية والديمقراطية؟!.

إن المأساة هي بقاء الحاكم في سدة الحكم لخمسين سنة ـ فرضاً ـ من دون محاولة للارتقاء بالمجتمع وثقافته، ومن دون برنامج عملي يتكفل ذلك، بل يبرمج برنامجه العملي والسلوكي على العكس؛ المزيد من الكبت والإرهاب وخنق الكفاءات واغتيال أو قتل أو سجن المعارضين والأحرار.

وأما البرنامج العملي للرقي وصناعة الأرضية وتوفير القابلية فمن بنوده لمن يريد حقاً تفويض الأمور للناس: (البدء بتغيير المناهج الدراسية)، التي يجب أن تصب وتتحدث عن الاستشارية أو الديمقراطية وعن حقوق الإنسان، وعن التعددية، لكي يتربى الطلاب عليها، وكذلك الحال في (وسائل الإعلام) وغيرها.

لكن الذي نشهده في الدول الاستبدادية هو العكس تماماً، فإن المناهج الدراسية ووسائل الإعلام وغيرها، تطبل وتزمر للزعيم الأوحد، وللقائد الأعلى، وترسم له صورة فوق بشرية، وتجعله فوق النقد والمحاسبة، فنجد أن هنالك تخطيطاً متعمداً وشاملاً، لكي يستمر الناس بزعمهم في عبوديتهم وفي جهلهم وفي تهميشهم وإقصائهم.

السؤال: انتخاب القائد للجيش واحتمالية تفجر الفوضى

بحسب قاعدة إن دفع الضرر المحتمل واجب، وبالنظر إلى تنوع انتماءات المجتمعات الدينية والثقافية، أليس من الموضوعية توقع تفجر الفوضى في حال اختيار قيادة الجيش عبر الانتخاب، وبالتالي يجب تفادي تلك الفوضى عبر التعيين؟.

الجواب:

لقد اتضح مما تم بحثه سابقاً، أنه سوف لا تحصل الفوضى، فيبقى الأفضل هو ما ذكر من أن تكون قيادة الجيش بالانتخاب، على عكس النظام المعمول به حالياً، حيث إن رئيس الجمهورية ينصب من قبله نائباً له اسمه وزير الدفاع، أو غيره.

لقد ارتأينا أن هنالك بدائل أفضل من هذا البديل، حتى لو فرض أن رئيس الجمهورية منتخب، فمن البدائل أن تجري في داخل الجيش انتخابات، فبالانتخابات يعين القائد الأعلى للجيش، وذكرنا أن من البدائل الأخرى أن تجرى انتخابات عامة، كما أن الناس جميعاً ينتخبون رئيس الجمهورية، وكما أن الناس في الكثير من البلاد جميعاً ينتخبون النواب، أيضاً الناس جميعاً ينتخبون قائد الجيش، نظراً لخطورة هذا المنصب، وعدم صحة أن ندمج المنصبين، ونجعل القوتين التنفيذية: رئاسة جمهورية وقوة الجيش والقوات المسلحة، بيد شخص واحد.

هذه البدائل المطروحة، ولكن هذه البدائل مسوّرة بضوابط، فلا نقول في (انتخابات الجيش) أن لهم أن ينتخبوا أي إنسان؛ كأن ينتخبوا جندياً عادياً لقيادة الجيش، بل هناك مواصفات وضوابط يجب أن تتوفر في المرشح لمنصب هام مثل قيادة الجيش، كما توجد ضوابط لترشيح رؤساء الجمهورية عند إجراء الانتخابات، ولا تستلزم الانتخابات أية فوضى مع مراعاة تلك الأطر والضوابط والأسس.

إذ لا نقول لهم أن ينتخبوا فلاناً الأمي، بل يلزم أن يكون للمرشح لرئاسة الجمهورية وكذا قيادة الجيش، مستوى معين من التعليم والمعرفة، وأن يكون ملفه الجنائي نظيفاً، وأن لا يكون خائناً، وأن لا يكون مرتبطاً بدولة أجنبية معادية عميلاً لها، إلى غير ذلك، وكذلك في أعضاء البرلمان، وكذلك الحال تماماً في قائد الجيش.

هناك ضوابط توضع من الكفاءة والأمانة، وما أشبه، والنتيجة أن يرشح مجموعة من الأفراد أنفسهم لمنصب قائد الجيش والقوات المسلحة، كعشرة أو عشرين مثلاً، شرط أن تنطبق عليهم الضوابط، ثم الناس ينتخبون أحدهم، أو أفراد الجيش ينتخبون أحدهم، وأية فوضى تلزم من ذلك؟!.

السؤال: الحريات في الإسلام ونطاقها

بالرغم من سعة الحريات في بلاد الغرب، فإن ما نسمعه ونقرؤه يشير بل يؤكد، على أن الحريات في الإسلام أوسع من الحريات الموجودة اليوم، فهل هذا يعني أن الحريات في الإسلام مطلقة؟.

الجواب:

مع إن الإجابة الكافية تتطلب مقاماً أوسع، لكن باختصار نقول: إنه لا توجد هنالك في أية دولة، وفي أي نظام عقلائي، حرية مطلقة بما للكلمة من معنى، بمعنى عدم وجود أي قانون، وأي تشريع يقنن الحرية المطلقة، فهو غير معقول وإلا للزمت الفوضى والهرج والمرج، ولجاز لكل فاجر فاسق أن يسرق ما شاء من أموال الناس، أو يعتدي على الأعراض بذريعة أنه حر!. إن الكلام إنما هو في حدود الحرية، وأن دائرة الحريات الإسلامية أوسع من غيرها.

ونقول: بأنه في الإسلام على حسب التشريع الذي جاء به محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله) وأيضاً التتمة التي ذكرها أهل البيت (عليهم الصلاة وأزكى السلام) ـ باعتبارهم الامتداد الطبيعي لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وباعتبارهم الذين تلقوا العلم منه، حيث قال الرسول: (أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأت الباب)[13] ـ تتوفر مساحات حرية كبيرة للناس، ولا يوجد ما يضارعها ويماثلها في الأنظمة الحاضرة.

لكن الحريات في الدين الإسلامي ليست مطلقة، بل لا يعقل ذلك، إلا أن هذه الحريات النسبية هي أفضل وأوسع بكثير من الحريات الموجودة في أكثر ديمقراطيات عالم اليوم، ومنها مثلاً: حرية البناء، وحرية الإقامة والسكن، وحرية السفر والحضر، وحرية الاستيراد والتصدير، وحرية تأسيس الشركات بدون روتين وبدون بيروقراطية وبدون دفع رسوم وغيره، وحرية حيازة المباحات، وهكذا وهلم جرا.

وقد كتب السيد الوالد (رضوان الله تعالى عليه) مجموعة من الكتب في هذا الحقل، منها كتاب "الحريات الإسلامية" ومنها كتاب "الفقه: ج145 الحريات" من موسوعة الفقه، وكتاب "الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام" وغيرها، قائلاً: إن العالم الغربي يدعي بأنه مظهر للحرية وللحريات، لكن لدى التحليل العلمي الدقيق نجد بأن الحريات في العالم الغربي لا تشكّل عشرة بالمائة من الحريات الإسلامية.

فإنك لا تجد في أي بلد غربي حرية حيازة المباحات، أما في الإسلام فلا يوجد قانون يحول دون ذلك، بل لكل واحد من كافة أصناف الناس أن يقوم بإحياء الأرض، أي أرض تريد إحيائها بالبناء أو التسوير وصنع مزرعة وغير ذلك، فلهم الحرية في ذلك، بدون حاجة لاستئذان الدولة، وبدون دفع رسوم أو شبه ذلك.

كما أن لكل واحد من عامة الناس أن يذهب إلى الصحراء، أو إلى الغابة أو إلى الأنهار، وأن يحوز ما شاء من الأراضي أو الثروات أو الأسماك أو الأشجار أو غيرها، والإطار الوحيد هو عدم الإضرار بالآخرين وعدم الاستغلال في ذلك، فمثلاً: لا يجوز له صيد الأسماك كلها، بحيث يقضي على الثروة السمكية كلها، فهذا إطار عام تشمله قاعدة لا ضرر، لكن لا توجد في الإسلام هذه القوانين المختلفة الكابتة، التي وضعت لتجعل الدولة هي الملك وهي السلطان، وهي الآمر والناهي، ولكل شيء رسوم وبيروقراطية وإلى آخره.

والبحث في هذا الحقل طويل، وقد سبق التطرق إلى بعضه، كحيازة المباحات.

والحاصل: إن الحريات في البلاد الاستبدادية، لا تقاس بالنسبة للحريات في البلاد الديمقراطية، ثم الحريات في البلاد الغربية لا تقاس بالنسبة للحريات في الإسلام.

نعم، هنالك بعض المحرمات التي حُرّمت لصالح الإنسان، ولكن المحرمات في النظم الوضعية أكثر بكثير، ولذا أيضاً يذكر السيد الوالد عن موارد السجن في كتابه "الفقه: ج100 الحقوق"، فيقول: بأن الإنسان يسجن في الأنظمة الوضعية في مئات المواطن، أما في الإسلام فإن مواطن السجن محدودة، وهذا ما نتركه لبحث مستقبلي إن شاء الله تعالى.

* الفصل الحادي العاشر من كتاب ملامح العلاقة بين الشعب والدولة
http://m-alshirazi.com
http://annabaa.org/arabic/author/10

...................................................................
[1] نهج البلاغة: رقم53 ومن كتاب له (عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي لما ولاه على مصر وأعمالها حين اضطرب أمر أميرها محمد بن أبي بكر.
[2] يراجع المجلد الثاني من كتاب "من فقه الزهراء" للإمام الراحل السيد الشيرازي.
[3] الاحتجاج: ج1 ص99 احتجاج فاطمة الزهراء (عليها السلام) على القوم لما منعوها فدك وقولها لهم عند الوفاة بالإمامة.
[4] سورة القصص: 77.
[5]
[6] سورة البقرة: 144.
[7] سورة القصص: 8.
[8] سورة النحل: 90.
[9] وقد مضى تفسيران في المبحث السابق.
[10] وهي بريطانيا.
[11] سورة العلق:6-7.
[12] ويكفي أن نستعرض ثقافة حكام أو ملوك ليبيا وتونس ومصر والبحرين وقطر والسعودية وأشباهها، لنعرف حجم المأساة وعمق الفاجعة.
[13] شرح نهج البلاغة: ج7 ص219 موازنة بين كلام الإمام علي وخطب ابن نباتة.

اضف تعليق