لصنع أي قرارٍ بطريقة عقلانية، نحن بحاجة لأن نفكِّرَ في العواقب المحتملة لهذا القرار أيًّا كانت الطريقة التي قد نقرِّر في النهاية أن نستخدمها وعلينا أن نكون صادقين مع أنفسنا بشأن أهمية المكاسب والخسائر المتوقَّعة. سنفترض أن الهدف من أي قرارٍ هو الإقدامُ على فعل شيء أو تجنُّبُ فعله...

لو كنَّا نمتلك بلورات سحرية لا تخطئ، لَمَا وجدنا مشكلةً في صنع القرارات؛ كنَّا سنراهن على الأسهم المضمونة، ونضع مكاسِبَنا في استثمارات رابحة خالية من المخاطر، ونتقاسم حياتنا مع الشركاء المثاليين، ونَبْرَع في تنشئة أطفال مثاليين في بيئة مُثلى، ونتجنَّب ركوبَ الطائرات والسيارات التي تأخذ بنا نحو المصاعب، وننعم بحياة مُرْضية آمنة بشكل رائع؛ لكننا لا نعرف كلَّ العوامل ذات الصلة، ولا نستطيع التكهُّنَ بالمستقبل، بل حتى إننا لا نعرف الآن ما الذي سنحتاجه في حياتنا لاحقًا؛ لذا نجد صعوبةً في اتخاذ القرارات، وكل هذا دون العبء الإضافي المتمثِّل في وجود عدة مشاركين في القرار، الذين قد يعملون معنا في بعض الأحيان، وضدَّ مصلحتنا في أحيان أخرى.

عندما لا نعرف شيئًا -سواء أكان عن المستقبل، أم الماضي، أم عن معنى الحياة، أم حتى عن طموحاتنا- فإن تلك الحالة تُسمَّى عدم اليقين؛ وهي حالة لا يمكن الفرار منها، مثلها مثل الموت والضرائب. وتصاحب المشهدَ المألوفَ لحالة عدم اليقين صورُ تخبُّطٍ ونقصٍ في المهارات وتردُّد (وهو ما تقود إليه حالةُ عدم اليقين على الأرجح) وضَعْف، ولكن كل ما تعنيه الكلمة بالفعل يتلخَّص في وجود شيء لا نعلمه.

وليس ثمة ما يدعو للخجل في هذا؛ قد يكون هذا الشيء لا سبيل لمعرفته كالمستقبل، أو ربما شيئًا يسهل معرفته كرقم هاتف، وسواء أكان معروفًا لشخص آخر أم لا، فإذا لم تعرفه أنت بذاتك، فأنت إذن في حالة من عدم اليقين. حاوِلْ أن تجد شخصًا يدَّعِي أنه يعرف كلَّ شيء، وعندئذٍ ستكون قد وجدتَ شخصًا عليك تجنُّبه. ويتناول هذا الكتاب كيفيةَ صنع القرارات العقلانية والمتَّسِقة في مواجهة حالة عدم اليقين هذه؛ ممَّا يعني بدوره التكيُّف مع حقيقة أننا بينما لا نعرف كلَّ شيء، فهناك دائمًا «شيء» نعرفه؛ علينا الاستفادة ممَّا نعرفه بفاعليةٍ قدرَ المستطاع، وعلينا فعل ذلك معظم الوقت على أي حال.

سوف نتعامل أيضًا مع الاحتمالات؛ فمعظمنا يعرف كيف يستخدم الاحتمالات ليقرِّر، وتكمن مشكلةُ صنع القرار في كيفية تطبيق المبادئ نفسها بصورة أوسع نطاقًا على سلوكيات حياتنا، ولسوف نعود مرةً أخرى فيما يلي للحديث عن حالة عدم اليقين والاحتمالية.

إن قدرًا كبيرًا من عدم اليقين الذي يشوب صنع القرار الفردي يتأتى من عدم معرفتنا بما نريد تحقيقه بالفعل من القرار، ومن نزعتنا للمبالغة في توقُّع المكاسب أو الخسائر المحتملة؛ فالناس يشترون تذاكرَ اليانصيب ويلعبون على ماكينات المقامرة الآلية في نوادي القمار، بالرغم من حقيقة أن مالكي هذه النوادي ومديري قاعات اليانصيب لا يهدفون من عملهم هذا أن يَهَبوا الناسَ المالَ؛ فَلِكَي يجمعوا المالَ (ومَن لا يفعلون ذلك يتم استبدالهم على الفور)، ينبغي أن يخسر اللاعب العادي نقودَه (وهذا يُطلَق عليه «لعبة صفرية المجموع»)، لكن يظل اللاعبون يحلمون بالفوز. أما المقامرون المتفائلون (ومَن يكتبون إعلانات اليانصيب)، فهُم مولعون بتوضيح أن «أحدًا» سوف يفوز بالفعل بالرغم من كل شيء، وهذه مبالَغة في المكاسب المحتملة؛ لأن ذلك لا يعني أن لديك فرصةً حقيقية للفوز.

وعلى الجانب الآخَر، فإن الخوف المبالَغ فيه من التأثيرات الضارة يمنع بعضَ الآباء من تطعيم صغارهم ضد المرض، ويقودهم أيضًا إلى التخلُّص من الأغطية الكهربائية، ويجعلهم يطلبون من المدارس التخلُّص من مادة الحرير الصخري غير الضارة التي تغطِّي الجدران، والتي كان من الأفضل تركها. إننا نفزع من المخاطر الصغيرة، وننفق المليارات على جهودٍ لا طائلَ منها كي نتحكَّمَ فيها، وهذه مبالغة ولكن في الاتجاه الآخَر؛ ففي أغلب الأحيان نحن نبالغ في توقُّعنا للمكسب، وكذلك في خوفنا من الخسارة؛ ممَّا يؤثِّر سلبًا على عملية صنع القرار المتوازن.

ولصنع أي قرارٍ بطريقة عقلانية، نحن بحاجة لأن نفكِّرَ في العواقب المحتملة لهذا القرار -أيًّا كانت الطريقة التي قد نقرِّر في النهاية أن نستخدمها- وعلينا أن نكون صادقين مع أنفسنا بشأن أهمية المكاسب والخسائر المتوقَّعة.

وخلال كل هذا، سنفترض أن الهدف من أي قرارٍ هو الإقدامُ على فعل شيء أو تجنُّبُ فعله، أو أداؤه بصورة مختلفة؛ أما القرارات التي لا تؤدِّى إلى أي أفعال، فهي ليست بقرارات على الإطلاق، مثل القرار الذي يتَّخِذه المرءُ ببدء حمية غذائية في الغد، وهذا هو السبب وراء السهولة الشديدة التي تُتَّخذ بها قرارات العام الجديد.

وهكذا تتكوَّن مشكلةُ القرار الفردي من مجموعةٍ محتملة من الأفعال، ومجموعةٍ محتملة من نتائج هذه الأفعال، وبعضِ التقديرات لما يُحتمَل أن تكون عليه كل نتيجة -في حالة اتخاذ القرار- ونوع من تصنيفات التفضيلات للنتائج المحتملة؛ وتلك الأشياء هي جوهر المشكلة، أما ما يتبقَّى فهو إضافة بعض التفاصيل لجوانبها.

* مقتطف بتصرف من مقدمة كتاب (لماذا تعتمد على الحظ؟: فن وعلم اتخاذ القرارات الصائبة) لمؤلفه هارولد دبليو لويس، نشر مؤسسة هنداوي

اضف تعليق


التعليقات

عادل عثمان حماد عثمان
EG
القرار ومايترتب عليه من نتائج أيجابيه وسلبيه عاجله وأجله ودراستها وكيفية الأستفاده منها .2023-12-20