يبدو مستبعدا أن تتضمن رحلتنا العودة إلى نمط ما قبل الجائحة المتمثل في انخفاض أسعار الفائدة الاسمية والحقيقية، إلى جانب بلوغ معدل 2 في المئة أو أقل منه في مستويات التضخم. فقد ظل الطلب متضائلا على مدى سنوات بعد الأزمة المالية العالمية، وذلك نظراً لفترة مطولة من إصلاح الميزانيات...
بقلم: مايكل سبنس

سنغافورة- كيف نسافر إلى مكان ما؟ نحدد الوجهة بالطبع؛ ولكننا نحدد أيضًا المسار الذي سنسلكه لنصل إليها، والوقت الذي ستستغرقه الرحلة. وقد يكون هذا إطارا مفيدا للتفكير في المسار المستقبلي للتضخم وأسعار الفائدة- وهي رحلة لها تداعيات عامة على تكلفة رأس المال، والتقييمات والمضاعفات، والقدرة على تحمل الديون، وغير ذلك.

إن الخطوة الأولى في هذه الرحلة هي أن نفهم كيف وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم. فبعد رفع القيود التي فُرضت خلال فترة الجائحة، ارتفع الطلب عبر مختلف قطاعات الاقتصاد العالمي، الذي عززته إلى حد ما الميزانيات العمومية السليمة للأسر والشركات، مما يُظهر الدعم المالي السخي الذي قدمته الحكومات خلال الجائحة. ولكن التوسع المالي تسبب أيضاً في ارتفاع حاد لمستويات الديون السياديةـ مما سيكون له عواقب مستقبلا.

عندما ارتفع الطلب في مرحلة ما بعد الجائحة، لم يتمكن جانب العرض من مواكبته، فتفاقمت الضغوط التضخمية. وكانت بعض الاضطرابات في جانب العرض- أو ما يسمى بالعوائق المؤقتةــ ناجمة عن عمليات الإغلاق واختلال التوازن التي سببتها الجائحة، وسرعات ما تراجعت. ولكن ثبُت أن بعضها الآخر كان أكثر حدة، وكانت علمانية، وهيكلية. وظل الطلب الزائد مستمراً بإلحاح. وفي نهاية المطاف، تدخلت البنوك المركزية الكبرى، وسرعان ما رفعت أسعار الفائدة لتقييد الطلب الكلي. ويبدو أن جهودها قد كُللت بالنجاح؛ فقد بدأت معدلات التضخم في الانخفاض.

ماذا سيحدث بعد ذلك؟ يخبرني خبراء إدارة الأصول- وأنا لا أملك الخبرة في هذا المجال- أنه من عجيب المفارقات أن التنبؤ بالمسار الدقيق للتحولات غالبا ما يكون أصعب من التنبؤ بوجهتها. وهذا مثال على سمة عامة للتحليل الاقتصادي: غالبا ما يمكن وصف التوازنات التي تستقر فيها الأسواق بدقة أكبر مقارنة مع فترات تحولها.

لذلك، دعونا نحدد وجهتنا. سوف يبلغ التضخم أو يقترب من معدل 2 في المئة، وهو الهدف الذي التزمت به البنوك المركزية، والذي تتوقعه الأسواق؛ ويكون سعر الفائدة الحقيقي عند مستوى يحافظ على توازن العرض والطلب إلى حد معقول (ومن ثم القضاء على السبب الجذري للضغوط التضخمية). واستناداً إلى اتجاهات التضخم الأخيرة، يبدو أن هذا التوازن يمكن تحقيقه بالكامل من دون حدوث انكماش اقتصادي حاد أو حتى معتدل. والسؤال هو كم سيكون سعر الفائدة الحقيقي.

يبلغ معدل التضخم في الولايات المتحدة حاليا 3.4 في المئة، ويبلغ سعر الفائدة الأساسي لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي 5.25 في المئة إلى 5.5 في المئة. وهذا يضع سعر الفائدة الحقيقي عند معدل 2 في المئة تقريبا. وحتى الآن، لا يبدو أن هذا المستوى كان له أي تأثير سلبي كبير على نمو الناتج المحلي الإجمالي أو تشغيل العمالة.

ومع أن بنك الاحتياطي الفيدرالي قرر في اجتماعه الأول لعام 2024 إبقاء سعر الفائدة القياسي ثابتا، إلا أن الأسواق كانت تتوقع العودة إلى هدف التضخم المحدد في 2 في المئة بحلول نهاية العام. وإذا خفض بنك الاحتياطي الفيدرالي سعر الخصم بنسبة 1.5 في المئة هذا العام، إلى نطاق 4 في المئة، فإن سعر الفائدة الحقيقي سوف يظل عند مستوى 2 في المئة تقريباً. ويتسق هذا المسار الذي تتخذه أسعار الفائدة، والمتمثل في ستة تخفيضات بنسبة 0,25 في المئة في كل واحدة في عام 2024، مع توقعات السوق، ويتسم بحدة أكبر إلى حد ما مما توقعه بنك الاحتياطي الفيدرالي نفسه، وفقا لأحدث مخطط نقطي له.

وتبدو توقعات أسعار الفائدة-الاسمية والحقيقيةـ بعد عام 2024 أكثر إشكالية. إذ يتوقع المخطط النقطي إحداث تخفيضات إضافية كبيرة في أسعار الفائدة في عامي 2025 و2026. وإذا صحت التوقعات، فسوف ينخفض سعر الفائدة الحقيقي ويستقر عند (أو يقترب من) 0.5 في المئة. ويبدو هذا مستبعدا جدا، نظرا للقيود البنيوية المستمرة في جانب العرض (بما في ذلك نقص العمالة، والشيخوخة السكانية، وتراجع الإنتاجية)، وارتفاع التكاليف الناجمة عن التوترات الجيوسياسية، والصدمات، والتنويع السريع والمكلف لشبكات العرض العالمية.

وفي هذا السيناريو، سوف ترتفع أسعار الأصول، تماما كما كانت في العقد الذي أعقب الأزمة المالية العالمية في عام 2008، وسوف يتوسع نطاق الائتمان، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى ارتفاع الطلب. ولكن من دون زيادة في العرض في العمالة أو الإنتاجية، فمن المحتمل أن يتراجع العرض وتعود الضغوط التضخمية إلى الواجهة، وهو ما من شأنه أن يدفع أسعار الفائدة الحقيقية إلى الانخفاض بحدة أكبر.

ومن المؤكد أن زيادة الإنتاجية أمر ممكن، وخاصة في ظل الاختراقات التي تحققت في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي. ولكن متى؟ وحتى أولئك الذين يتوقعون زيادة في نمو الإنتاجية بفضل الذكاء الاصطناعي لا يتوقعون حدوث ذلك بسرعة؛ بل يبدو حدوث ذلك أكثر احتمالا في الجزء الأخير من العقد منه في السنتين أو الثلاث سنوات القادمة.

ولكن مجرى الأحداث قد يتغير. إذا تحققت زيادة الإنتاجية بفضل الذكاء الاصطناعي بسرعة، فمن شأنها أن تزيد كثيرا من مرونة جانب العرض في الاقتصاد. وهذا من شأنه أن يحدث أثرا انكماشياً، تماماً مثل ذلك الذي أحدثه نمو الاقتصادات الناشئةـ والذي أضاف قدرة إنتاجية هائلة إلى الاقتصاد العالمي- في العقود الثلاثة إلى الأربعة الماضية.

ولكن خلال هذه المرحلة، يبدو مستبعدا أن تتضمن رحلتنا العودة إلى نمط ما قبل الجائحة المتمثل في انخفاض أسعار الفائدة الاسمية والحقيقية، إلى جانب بلوغ معدل 2 في المئة أو أقل منه في مستويات التضخم. فقد ظل الطلب متضائلا على مدى سنوات بعد الأزمة المالية العالمية، وذلك نظراً لفترة مطولة من إصلاح الميزانيات العمومية، وخاصة في قطاع الأسر المعيشية.

ولكن الدعم المالي خلال الجائحة حال دون وقوع أضرار مماثلة، لذلك يمكن تحفيز الطلب بسهولة اليوم. ونظرا لأن التحولات البنيوية أدت إلى تقليص قدرة جانب العرض على الاستجابة لضغوط جانب الطلب، فسوف تكون هناك حاجة إلى تحديد أسعار فائدة حقيقية أعلى لإبقاء الطلب- ومن ثم القوى التضخمية- تحت السيطرة. وإذا انخفضت أسعار الفائدة الحقيقية إلى ما دون 0.75 في المئة، فمن المحتمل أن يرجعنا مسارنا إلى التضخم المرتفع.

* مايكل سبنس، حائز على جائزة نوبل في علوم الاقتصاد، أستاذ الاقتصاد الفخري والعميد السابق لكلية الدراسات العليا للأعمال في جامعة ستانفورد. مؤلف كتاب التقارب التالي: مستقبل النمو الاقتصادي في عالم متعدد السرعات
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق