ينبغي لصناع السياسات أن يركزوا على تزويد الفقراء والطبقة العاملة بالسبل المؤدية إلى الفرصة الاقتصادية. لا تستحق فئة الواحد في المائة الأعلى دخلا ذلك القدر الذي تتلقاه من الاهتمام. من الأفضل التركيز على زيادة أجور ودخول هؤلاء الذين يعيشون عند القاع، والذين هم في أشد الحاجة إلى يد العون...
بقلم: مايكل آر سترين

واشنطن، العاصمة ــ على مدار عقود من الزمن، شهدت حصة الدخل الوطني التي يملكها أعلى 1% دخلا في الولايات المتحدة ارتفاعا شديدا. وأصبح التفاوت في الدخل، الذي اعتبره الرئيس السابق باراك أوباما "التحدي الأبرز في عصرنا"، من القضايا الرئيسية في السياسة الأميركية، حيث يقترح كل من الجمهوريين والديمقراطيين فرض ضرائب أعلى على الأثرياء. كما ساهمت الفكرة، التي روج لها القوميون والتقدميون، بأن النظام الاقتصادي مُـصـمَّـم ضد مصالح العمال والأسر العادية، في تأجيج نيران الشعبوية. حتى أن بعض المراقبين يزعمون أن التفاوت الاقتصادي يهدد الديمقراطية.

بيد أن الاعتقاد بأن التفاوت في الدخل سجل ارتفاعا حادا قد يكون خاطئا. فقد توصل بحث جديد أجراه جيرالد أوتن من وزارة الخزانة الأميركية وديفيد سبلينتر من لجنة الكونجرس المشتركة المعنية بالضرائب إلى أن حصة الدخل بعد الضرائب لدى شريحة الواحد في المائة الأعلى دخلا لم تتغير إلا بالكاد منذ عام 1962. يتناقض هذا بشكل صارخ مع عمل توماس بيكيتي وإيـمانويل سايز، وجابرييل زوكمان، الذي ساهم في تشكيل السياسات والحوار السياسي في السنوات الأخيرة: فقد خلص الثلاثي إلى أن حصة الدخل التي يحصل عليها أعلى 1٪ دخلا ازدادت بنحو 55٪ خلال ذات الفترة.

بدلا من الإجابة على السؤال حول أي الجانبين على حق (وإن كنت أعتقد أن أوتن وسبلنتر أقرب إلى الحقيقة)، من المفيد بدرجة أكبر أن ننظر في ما إذا كان أعلى 1% من الناس دخلا ينبغي لهم أن يكونوا موضع تركيزنا. من منظور أوسع، يتبين لنا أن المناقشة الدائرة حول المساواة في الدخل لا تعود بفائدة تُـذكَـر على أولئك الذين هم في مسيس الحاجة إلى المساعدة. تركزت المناقشة في الأغلب الأعم على حجم الكعكة الاقتصادية التي تحصل عليها كل مجموعة. لكن حجم الكعكة ليس ثابتا. منذ عام 1962، ازداد الناتج الاقتصادي الحقيقي في الولايات المتحدة بنسبة 499%، وقد أدى هذا إلى تحسن كبير في مستويات المعيشة ورفاهة البشر. فقد انخفضت نسبة الأميركيين الذين يعيشون في الفقر بشكل كبير، وساهمت أدوية وعلاجات جديدة في تحسين نوعية حياة الناس إلى حد كبير، ودخلت أعداد أكبر من النساء إلى سوق العمل. إن هذا التحسن الكبير في رفاهة الأميركيين أكثر إثارة للدهشة من حصة الدخل التي تذهب إلى أصحاب الدخل الأعلى في البلاد. إذا قارَنّـا بين أسرة ذات دخل متوسط وواحدة من أعلى 1% دخلا، سنجد أن كلا منهما تمتع بإمكانية الوصول إلى رعاية طبية وأدوية عالية الجودة، وكلا منهما تقوم بإجازات لطيفة، وبوسع كل منهما أن تأكل في ذات المطاعم، وتقرأ ذات الكتب، وتشاهد ذات البرامج التلفزيونية، كما تمتلك كل منهما ملابس دافئة ومنزلا مريحا.

من المؤكد أن الأمر لا يخلو من فوارق ــ فالأسرة الأكثر ثراء تحظى برعاية صحية أفضل، وتسافر بالطائرة على الدرجة الأولى إلى الكاريبي في العطلات، وتتناول الطعام في بعض الأحيان في مطاعم حائزة على نجمة ميشلان، ولديها منزل أكبر. لكن هذا لا ينفي أن التفاوت في نوعية الحياة تقلص بشكل كبير في العقود الأخيرة. فقبل قرن من الزمن، بل وحتى قبل ذلك بقرن آخر، كانت الفجوة في نوعية الحياة بين أسرة متوسطة الدخل وأسرة تنتمي إلى شريحة الواحد في المائة الأعلى دخلا أكبر كثيرا.

علاوة على ذلك، سنجد أن الأسس الاقتصادية والفلسفية التي يستند إليها هذا الهوس بفئة الواحد في المائة الأعلى دخلا بعيدة كل البعد عن الصحة. في اقتصاد السوق، يُـكـتَـسَـب الدخل ولا يُـوَزَّع. وفي ظل نظام ديمقراطي، يكون التفاوت مقبولا إذا كان مدفوعا بفوارق في الإنتاجية ــ وتشير أفضل الأدلة إلى وجود ارتباط قوي بين الأجور والإنتاجية في الولايات المتحدة.

الواقع أن المناقشة الدائرة حول التفاوت معيارية في نهاية المطاف: ما هو المقدار الذي "يجب" أن "يتلقاه" أصحاب الدخول الأعلى من المجتمع؟ سيكون من الأفضل أن نبدأ من فرضية مفادها أن الأكثر ثراء اكتسبوا دخلهم، وأن نتساءل عن المقدار الذي ينبغي للحكومة أن تقتطعه من هذا الدخل. وفقا لمكتب الميزانية غير الحزبي في الكونجرس، اكتسب أعلى 1٪ دخلا 17.6٪ من إجمالي دخل السوق ودفعوا 24.7٪ من مجموع الضرائب الفيدرالية في عام 2019، وهذا يشير إلى أنهم ملتزمون بالفعل منذ فترة طويلة.

من عجيب المفارقات أن المخاوف بشأن فجوة الدخل تفجرت خلال فترة حيث كانت فجوة التفاوت راكدة أو في انحدار، كما أوضحت في كتابي "الحلم الأميركي لم يمت (لكن الشعبوية قد تقتله)". باستخدام بيانات من مكتب الميزانية في الكونجرس، وجدت أن التفاوت في الدخل بين كل الأسر ــ بعد احتساب الضرائب والتحويلات الحكومية وتقديرا على مُـعامِـل جيني ــ ازداد بنسبة 29٪ خلال الفترة من 1979 إلى 2007، لكنه انخفض بعد ذلك بأكثر من 5٪ خلال الفترة من 2007 إلى 2019.

لكي نفهم هذا الاتجاه، يجب أن نركز على الـ 99% الأدنى دخلا. على الرغم من أن فجوة التفاوت كانت آخذة في الاتساع في تسعينيات القرن العشرين، فإن متوسط الأجور كان أيضا في ارتفاع؛ ولم يكن الأمريكيون مشغولين بتحديد ما إذا كان نمو بعض مجموعات منهم أسرع مقارنة بمجموعات أخرى. ولكن بعد الأزمة المالية عام 2008، سجل متوسط الأجور انخفاضا كبيرا. والحق أن الانخفاض كان حادا بين المنتمين إلى النصف الأدنى دخلا من العمال، حتى أن الأمر استغرق حتى عام 2014 قبل أن يرتد الأجر الحقيقي المتوسط إلى المستوى الذي كان عليه في عام 2007. كانت هذه الفترة المطولة من ركود الأجور سببا في تأجيج الغضب والشعور بالظلم ــ إزاء لعبة اقتصادية "مزورة" ــ وأفضى هذا إلى ظهور الشعبوية.

الدرس هنا واضح: إذ يهتم الناس بمدى نجاحهم شخصيا، وليس بمجموعة من الناس نادرا ما يتفاعلون معهم. الناس لا يقطرون حسدا كما تود المناقشة الدائرة حول التفاوت أن تتصوروا. الواقع أن كل من يهتم بصحة الديمقراطية الأميركية يجب أن يكون أشد قلقا بشأن نمو أجور النصف الأدنى من العمال وليس فجوة الدخل. وإذا كان الحراك الصاعد هو الغاية، فيتعين علينا أن نتوقف عن التعامل مع النجاح الاقتصادي وكأنه مشكلة وليس شيئاً يستحق الاحتفال. ينبغي لصناع السياسات أن يركزوا على تزويد الفقراء والطبقة العاملة بالسبل المؤدية إلى الفرصة الاقتصادية. لا تستحق فئة الواحد في المائة الأعلى دخلا ذلك القدر الذي تتلقاه من الاهتمام. من الأفضل التركيز على زيادة أجور ودخول هؤلاء الذين يعيشون عند القاع، والذين هم في أشد الحاجة إلى يد العون.

* مايكل آر سترين، مدير دراسات السياسة الاقتصادية في معهد أمريكان إنتربرايز، مؤلف كتاب الحلم الأمريكي لم يمت: لكن الشعبوية يمكن أن تقتله
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق