إنّ ظهور الإيمان بفكرة حتمية ظهور المنقذ العالمي في الفكر الإنساني عموماً يكشف عن وجود أسس متينة قوية تستند إليها تنطلق من الفطرة الانسانية، بمعنى أنها تعبّر عن حاجة فطرية عامة يشترك فيها بنو الانسان عموماً، وهذه الحاجة تقوم على ما جُبل عليه الإنسان من تطلّع مستمر للكمال...

الملاحظ أن الايمان بحتمية ظهور المصلح العالمي ودولته العادلة التي تضع فيها الحرب أوزارها ويعم السلام والعدل في العالم لا يختص بالأديان السماوية بل يشمل المدارس الفكرية والفلسفية غير الدينية أيضاً. فنجد في التراث الفكري الإنساني الكثير من التصريحات بهذه الحتمية، فمثلاً يقول المفكر البريطاني الشهير برتراند رسل: «إن العالم في انتظار مصلح يُوحّده تحت لواء واحد وشعار واحد»[1]. ويقول العالم الفيزياوي المعروف ألبرت اينشتاين صاحب النظرية النسبية: (إن اليوم الذي يسود العالمَ كله فيه السلام والصفاء ويكونُ الناس متحابين متآخين ليس ببعيد»[2].

وأدق وأصرح من هذا وذاك ما قاله المفكر الايرلندي المشهور برناردشو، فقد بشّر بصراحة بحتمية ظهور المصلح وبلزوم أن يكون عمره طويلاً يسبق ظهوره; بما يقترب من عقيدة الإمامية في طول عمر الإمام المهدي(عليه السلام); ويرى ذلك ضرورياً لإقامة الدولة الموعودة، قال في كتابه «الانسان السوبرمان» ـ وحسب ما نقله عنه الدكتور عباس محمود العقاد في كتابه عن برناردشو ـ في وصف المصلح بأنه: «إنسانٌ حيٌ ذو بنية جسدية صحيحة وطاقة عقلية خارقة، إنسانٌ أعلى يترقى إليه هذا الانسان الأدنى بعد جهد طويل، وأنه يطول عمُرهُ حتى ينيف على ثلاثمائة سنة ويستطيع أن ينتفع بما استجمعه من أطوار العصور وما استجمعه من أطوار حياته الطويلة»[3].

طول عمر المصلح في الفكر الانساني

إن الأوصاف التي يذكرها المفكر الايرلندي للمصلح العالمي من الكمال الجسمي والعقلي وطول العمر والقدرة على استجماع خبرات العصور والأطوار بما يمكنه من انجاز مهمته الاصلاحية الكبرى قريبة من الأوصاف التي يعتقد بها مذهب أهل البيت (عليهم السلام) في المهدي المنتظر (عليه السلام) وغيبته.

وقضية طول العمر في هذا المصلح العالمي التي أكد ضرورتها برناردشو; تشيرُ الى إدراك الفكر الإنساني لضرورة أن يكون المصلح العالمي مستجمعاً عند ظهوره لتجارب العصور لكي يكون قادراً على إنجاز مهمته[4]، وهذه الثمرة متحصلة من غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) الطويلة حسب عقيدة الإمامية الاثني عشرية، ولكن الفرق هو أن عقيدتنا في الإمام المعصوم تقول بأنه مستجمع منذ البداية لهذه الخبرة والثمار المرجوة من طول عمره، فهو (عليه السلام) مؤهّل بدءاً لأداء مهمته الاصلاحية الكبرى ومسددٌ إلهياً لإنجازها، قادرٌ عليها متى ما تهيأت الأوضاع الملائمة لظهوره. وانّ طول الغيبة يؤدي الى اكتساب أنصاره والمجتمع البشري واقتطافهم لهذه الثمار فيستجمعونها جيلاً بعد آخر[5].

الإيمان بالمهدي (عليه السلام) تجسيد لحاجة فطرية

إنّ ظهور الإيمان بفكرة حتمية ظهور المنقذ العالمي في الفكر الإنساني عموماً يكشف عن وجود أسس متينة قوية تستند إليها تنطلق من الفطرة الانسانية، بمعنى أنها تعبّر عن حاجة فطرية عامة يشترك فيها بنو الانسان عموماً، وهذه الحاجة تقوم على ما جُبل عليه الإنسان من تطلّع مستمر للكمال بأشمل صوره وأن ظهور المنقذ العالمي وإقامة دولته العادلة في اليوم الموعود يُعبّر عن وصول المجتمع البشري الى كماله المنشود.

يقول العلامة الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سره): «ليس المهدي (عليه السلام) تجسيداً لعقيدة إسلامية ذات طابع ديني فحسب، بل هو عنوانٌ لطموح اتجهت إليه البشرية بمختلف أديانها ومذاهبها، وصياغة لإلهام فطري أدرك الناس من خلاله ـ على تنوع عقائدهم ووسائلهم الى الغيب ـ أن للانسانية يوماً موعوداً على الأرض تحقق فيه رسالات السماء مغزاها الكبير وهدفها النهائي، وتجد فيه المسيرة المكدودة للإنسان على مرِّ التأريخ استقرارها وطمأنينتها بعد عناء طويل.

بل لم يقتصر هذا الشعور الغيبي، والمستقبل المنتظر على المؤمنين دينياً بالغيب، بل امتد الى غيرهم أيضاً وانعكس حتى على أشد الايدلوجيات والاتجاهات رفضاً للغيب، كالمادية الجدلية التي فسرت التاريخ على أساس التناقضات وآمنت بيوم موعود، تُصفّى فيه كل تلك التناقضات ويسودُ فيه الوئامُ والسلامُ.

وهكذا نجد أن التجربة النفسية لهذا الشعور والتي مارستها الإنسانية على مرّ الزمن من أوسع التجارب النفسية وأكثرها عموماً بين بني الانسان»[6].

إذن فالإيمان بالفكرة التي يجسدها المهدي الموعود هي من اكثر وأشد الأفكار انتشاراً بين بني الانسان كافة لأنها تستند الى فطرة التطلع للكمال بأشمل صوره، أي أنها تعبّر عن حاجة فطرية، ولذلك فتحققها حتمي; لأن الفطرة لا تطلب ماهو غير موجود كما هو معلوم.

موقف الفكر الانساني من غيبة المهدي (عليه السلام)

إنّ الفكر الانساني لا يرى مانعاً من طول عمر هذا المصلح العالمي الذي يتضمنه الإيمان بغيبته وفقاً لمذهب أهل البيت (عليه السلام)، بل يرى طول عمره أمراً ضرورياً للقيام بمهمته الإصلاحيّة الكبرى كما لاحظنا في كلام المفكر الإيرلندي برناردشو. وعليه فالفكر الانساني العام لا يرفض مبدئياً الإيمان بالغيبة إذا كانت الأدلة المثبتة لها مقبولة عقلياً.

وقد تناول العلماء ايضاح الإمكان العقلي لطول عمر الإمام المهدي وعدم تعارضه مع أي واحد من القوانين العقلية، كما فعل الشيخ المفيد في كتابه «الفصول العشرة في الغيبة» والسيد المرتضى في رسالته «المقنع في الغيبة) والعلاّمة الكراجكي في رسالته «البرهان على طول عمر إمام الزمان (عليه السلام)» التي تضمنها كتابه كنز الفوائد في جزئه الثاني، والشيخ الطبرسي في «اعلام الورى»، والسيد الصدر في بحثه عن المهدي وغيرهم كثير، بل قلّما يخلو كتاب من كتب الغيبة عن مناقشة هذا الموضوع والاستدلال عليه.

الفكر الديني يؤمن بظهور المصلح العالمي بعد غيبة

إن الإجماع على حتمية ظهور المصلح العالمي مقترنٌ بالإيمان بأن ظهوره يأتي بعد غيبة طويلة، فقد آمن اليهود بعودة عزير أو منحاس بن العازر بن هارون، وآمن النصارى بغيبة المسيح وعودته، وينتظر مسيحيو الأحباش عودة ملكهم تيودور كمهدي في آخر الزمان، وكذلك الهنود آمنوا بعودة فيشنوا، والمجوس بحياة أوشيدر، وينتظر البوذيون عودة بوذا ومنهم مَن ينتظر عودة ابراهيم (عليه السلام) وغير ذلك[7].

إذن قضية الغيبة قبل ظهور المصلح العالمي ليست مستغربة لدى الأديان السماوية، ولا يمكن لمنصف أن يقول بأنها كلّها قائمة على الخرافات والأساطير، فالخرافات والأساطير لا يمكن أن توجد فكرة متأصلة بين جميع الأديان دون أن ينكر أي من علمائها أصل هذه الفكرة، فلم ينكر أحدٌ منهم أصل فكرة الغيبة وإن أنكر مصداق الغائب المنتظر في غير الدين الذي اعتنقه وآمن بالمصداق الذي ارتضاه.

إنّ انتشار أصل هذه الفكرة في جميع الأديان السماوية كاشفٌ عن أرضية اعتقادية مشتركة رسخها الوحي الإلهي فيها جميعاً، ودعمتها تجارب الأنبياء (عليهم السلام) التي شهدت غيبات متعددة مثل غيبة ابراهيم الخليل وعودته، وغيبة موسى عن بني اسرائيل وعودته اليهم بعد السنين التي قضاها في مدين، وغيبة عيسى (عليه السلام) وعودته في آخر الزمان التي أقرّتها الآيات الكريمة واتفق عليها المسلمون من خلال ورودها في الأحاديث النبوية الشريفة، وغيبة نبي الله إلياس التي قال بها أهل السنة كما صرّح بذلك مفتي الحرمين الكنجي الشافعي في الباب الخامس والعشرين من كتابه «البيان في أخبار صاحب الزمان»، وصرّح كذلك بايمان أهل السنة بغيبة الخضر (عليه السلام) وهي مستمرة الى ظهور المهدي(عليه السلام) في آخر الزمان حيث يكون وزيره[8].

بل إن انتشار فكرة غيبة المصلح العالمي في الأديان السابقة قد تكون مؤشراً على وجود نصوص سماوية صريحة بذلك كما سنلاحظ ذلك في نموذج النبوة الواردة في سفر الرؤيا من الكتاب المقدس والتي طبقها الباحث السني سعيد أيوب على المهدي الإمامي.

أما الاختلاف في تشخيص هوية المصلح الغائب فهو ناشئ من الخلط بين النصوص المخبرة عن غيبات بعض الانبياء (عليهم السلام) وبين النصوص المتحدثة عن غيبة المصلح العالمي، بدوافع عديدة سنشير إليها لاحقاً.

* مقتطف من كتاب: أعلام الهداية، الامام المهدي (عليه السلام) خاتم الأوصياء

.............................................
[1] المهدي الموعود ودفع الشبهات عنه، للسيد عبد الرضا الشهرستاني: 6.
[2] المهدي الموعود ودفع الشبهات عنه، للسيد عبد الرضا الشهرستاني: 7.
[3] برناردشو، للاستاذ عباس محمود العقاد: 124 ـ 125، وعلق الاستاذ العقاد على كلمة برناردشو بالقول: «يلوح لنا أن سوبرمان شو ليس بالمستحيل، وأن دعوته لا تخلو من حقيقة «ثابتة»، نقلاً عن كتاب المهدي المنتظر في الفكر الاسلامي: 9، وقد نقلها عن العقاد الشيخ محمد حسن آل ياسين في كتابه المهدي المنتظر بين التصور والتصديق: 81.
[4] راجع توضيح هذه النقطة في البحث القيم الذي كتبه آية الله الامام الشهيد الصدر حول المهدي: 41 ـ 48، ط 3 دار التعارف.
[5] لمزيد من التوضيح راجع تأريخ الغيبة الكبرى: 276 وما بعدها.
[6] بحث حول المهدي: 7 ـ 8.
[7] راجع مثلاً كتاب «دفاع عن الكافي» للسيد العميدي: 1/181، وإحقاق الحق: 13/ 3 ـ 4.
[8] البيان في أخبار صاحب الزمان: 149 ـ 150.

اضف تعليق