قبل أيّ شيء، يحبّذ الدكتور سيف الدين عمّوص، التمييز بين بتكوين والعملات المشفّرة الأخرى. يعتقد أن بتكوين هي العملة الوحيدة التي لها قيمة ولا يستطيع أحد التحكّم فيها وستبقى في المستقبل، أما باقي العملات فـ كلّها نصب وستزول. هو يروّج لفكرة أنها ستصبح يوماً ما عملة مرجعية، مثلها مثل الذهب...

قبل أيّ شيء، يحبّذ الدكتور سيف الدين عمّوص، التمييز بين «بتكوين» والعملات المشفّرة الأخرى. يعتقد أن «بتكوين» هي العملة الوحيدة التي لها قيمة ولا يستطيع أحد التحكّم فيها وستبقى في المستقبل، أما باقي العملات فـ«كلّها نصب» وستزول. هو يروّج لفكرة أنها ستصبح يوماً ما عملة مرجعية، مثلها مثل الذهب. وكل رؤيته مبنية على أن الرأسمالية ليست أمراً سيئاً، وأن اليساريين يعتقدون خطأً بأن الحلّ هو منع الناس من التملّك والمتاجرة، بينما المشكلة الحقيقية هي في النظام المالي الحالي المبني على الدولار وعلى المصارف المركزية التي تتصرّف بأسلوب شيوعي - يساري - اشتراكي

بعد مرور 14 عاماً على خلق البلوكتشاين وبتكوين من قبل ساتوشي ناكاموتو، لم تستطع العملات المشفّرة أن تستحوذ على حصّة كبيرة من العمليات التجارية حول العالم. هل ستظهر قوة هذه العملات اليوم من خلال الأزمات (تضخّم، ركود، عالم يتّجه نحو الاحتراب) التي تعصف بالكوكب؟ أم أن التطوّر الحالي لها يعكس القدرة القصوى الفعلية؟

- بدايةً، يجب أن نلحظ الفرق بين «بتكوين» وكل العملات الرقمية الأخرى. في الواقع هي العملة الوحيدة المهمة، والباقي كلّه عبارة عن عمليات نصب ليس لها أي أهمية. «بتكوين» هي العملة المشفّرة الوحيدة غير المركزية، أي لا يستطيع أن يتحكّم فيها أحد، وبالتالي هي العملة الوحيدة التي لها قيمة في السوق. يستخدمها الناس لأنهم يعلمون أن لا أحد يستطيع أن يتحكم بها أو يزيد من عدد المعروض منها. أما العملات الأخرى التي أتت بعد «بتكوين»، فكلها، تقليد لها، وخُلقت بطريقة يستطيع من أوجدها أن يتحكّم بها.

في حين أن «بتكوين» صنعها ساتوشي ناكاموتو واختفى بينما هي استمرّت. كما أن «بتكوين» بات لها تاريخ من الأمان، وتعمل شبكتها (بلوكتشاين) باستمرار والمستخدمون يثقون بها. وبالتالي، من الصعب أن تأتي عملة جديدة، وتجذب الناس بسرعة. الأمر الوحيد الذي جعل من بعض العملات الأخرى تصعد بسرعة، هو أن هناك من أدارها، مثل مبدأ الشركات، وطالما أن هناك أشخاصاً مسؤولين عنها، يعني هذا أن باستطاعتهم، وبسهولة، التلاعب بعدد المعروض منها أو جعلها تنهار في ثوانٍ. وهذا ما حدث مع آلاف العملات الرقمية الأخرى. لذا، يجب التمييز بين «بتكوين» وكل العملات الأخرى. تلك العملات مجرّد عمليات «قمار أونلاين» من دون أي مستقبل. وهذا ما أقوله في المحاضرات التي ألقيها وفي كتابي.

ثانياً، برأيي أن «بتكوين» استحوذت على حصّة كبيرة من العمليات التجارية. نحن أمام عملة مشفّرة تبلغ قيمتها حول العالم نحو 400 مليار دولار راهناً. وحجم هذه العملة، عملياً، هو أكبر بـ10 أضعاف من قيمة الليرة اللبنانية، وربما 20 أو 30 ضعفاً. كما أكثر بنحو 20 مرة من حجم الدينار الأردني. باختصار، «بتكوين» حالياً أكبر من كل العملات العالمية باستثناء 10 أو 15 عملة. وهو أمر وصلت إليه خلال 14 سنة من دون وجود حكومة أو أي شخص مسؤول عنها. وهذا ليس تفصيلاً، وهو أمر لم يكن يمكن توقعه. بمعنى لو سألتني عن مستقبل هذه العملة قبل 10 سنوات لما كنت لأجيب بهذه الطريقة. هو أمر فاق التوقعات. ورغم الأزمات التي تعصف بالعالم، لا يزال التعامل بالـ«بتكوين» أمراً موجوداً، ولو أن سعرها متذبذب. لكن الـ«ترند» الأساسي هو الصعود في قيمتها.

ينقسم العالم بين مؤيد ومعارض للعملات المشفّرة. وفي الآونة الأخيرة، خرجت أصوات لمشرّعين أميركيين وأوروبيين، منهم من تكلّم عن «بتكوين» باعتبارها موازية للذهب كنوع من الأصول، وآخرين رأوا أن العملات المستقرّة قد تكون الحجر الأساس الذي سيؤمّن قوننة هذه العملات وفرض تشريعات تحدّ من لامركزيتها لتصبح تحت السيطرة بشكل من الأشكال. برأيك، ما هو المسار الأكثر ترجيحاً أن يحصل؟

- من غير السهل أن يتنبأ المرء بما يمكن أن يقدم عليه الساسة، إلا أننا نشاهد اليوم أن «بتكوين» بدأ يتم قبولها من أهم مراكز صنع القرار في العالم، مثل البنك المركزي الأوروبي والأميركي اللذين أصدرا تشريعات للتعامل معها وقوانين لاستعمالها والاحتفاظ بها من قبل الشركات. وأعتقد أن خطر مواجهة الحكومات للـ«بتكوين» هو أمر ينخفض يوماً بعد يوم.

الإثارة كبيرة بين متداولي العملات المشفّرة. وبتنا نجد مصطلحات مثل «اللامبرغيني قريباً» في أغلب المحادثات عند انطلاق كل مشروع عملة مشفّرة جديدة. هذا سلوك رأسمالي بحت، فهل العملات المشفّرة بسبب تداولها بهذا الشكل، باتت سلعة تندرج ضمن النمط الرأسمالي المالي (الأموَلة) أم أن هناك مساراً آخر مختلفاً، ولا سيما أن صعود سعر البتكوين خلق ما يسمى بـ FOMO، وهذا الخوف بات يدفع المتداولين الجدد إلى شراء عملات الميمز وغيرها التي لا جدوى عملية لها إطلاقاً، سوى أمل في تحقيق ربح خيالي.

- بالنسبة إلي الرأسمالية هي أن يحتفظ المرء بما أنتجه. الرأسمالية ليست أمراً سيئاً، ولا أعتقد أن استخدامها في هذا السؤال أمر جيد. أما إذا كان القصد المضاربة، فهي مشكلة. كما أن الأسعار التي تتغير في عالم العملات المشفّرة بين حين وآخر، هي مشكلة حقيقية. أعتقد أن أساس هذه المشكلة هو النقد. وهي مشكلة لا يفهمها اليساريون، إذ إنهم يرون مشاكل النظام الرأسمالي الحالي ويعتقدون خطأً أن الحلّ هو منع الناس من التملّك والمتاجرة، بينما المشكلة الحقيقية هي في النظام المالي الحالي المبني على الدولار، والمبني حول المصارف المركزية التي تتصرف بأسلوب شيوعي - يساري - اشتراكي. إذا تمعنّا في ما يعنيه وجود مؤسّسة مثل المصرف المركزي، ورئيس لها، وهي تقوم بطبع الأموال وتقرّر سعر الفائدة كما يحدث في الولايات المتحدة الأميركية اليوم، فهذا تخطيط مركزي. هذه اشتراكية. وهذا التخطيط المركزي في المال مثل التخطيط المركزي في البطاطا في روسيا، عندما انقطعت البطاطا وحدثت مجاعة.

الأمر الوحيد الذي دفع العملات الأخرى للصعود هو إدارتها مثل الشركات، ما يعني سهولة التلاعب بعدد المعروض منها أو دفعها إلى الانهيار

كما أنه مثل التخطيط المركزي في فنزويلا حيث دمّر تشافيز الاقتصاد الفنزويلي ومات المواطنون من الجوع. في كل مكان تعمل المصارف المركزية بتخطيط مركزي تدمّر النقد، كما تدمّر قدرة النظام الرأسمالي على النجاح. بالتالي، مشاكل النظام الرأسمالي تأتي من أن النقد ينهار ويتم التلاعب به والتحكم فيه من قبل سلطة مركزية. الأخيرة، هي السبب في أن الدولار يتذبذب بهذا الشكل الحالي، وهو غير ثابت لأن الحكومة الأميركية تعمد إلى تقليل قيمته دائماً، عبر طباعة الدولارات من أجل تمويل الإنفاق، وهذا ما يؤدي إلى انخفاض قيمة الدولار. وبالتالي، لا يعود بمقدور الناس استخدامه للتخزين. لذا لا يدّخر هؤلاء الدولار، إلا في أماكن مثل لبنان وفنزويلا، لأن البديل أسوأ. لكن في المقابل، في الأماكن التي لديها دولار، هم لا يدّخرونه. فعلى سبيل المثال، في الولايات المتحدة، إذا كان لدى شخص مليون دولار، لا يضعه في المصرف أو في منزله، لأنه يعلم أن قيمته ستنخفض كل سنة نحو 10%. لذا، يعمد هؤلاء إلى المضاربة من أجل غلب التضخم، ويبدأ الناس في وضع أموالهم في العقارات أو الأسهم أو السندات والسلع. والعملات الرقمية دخلت على هذا الخط. وبرأيي، إن أسلوب المضاربة هذا ناجم عن مشكلة النقد التي كما قلت ناجمة عن الحكومات التي تطبع المال من أجل التمويل، الأمر الذي يجعل الناس ينقلون النقد من مكان إلى آخر ويرفعون أو يخفّضون أسعار تلك الأشياء، وبالتالي هذا ما يؤدّي إلى التذبذب الكبير في أسعار العقارات والعملات الحكومية والعملات المشفّرة. وبرأيي، «بتكوين» تحلّ هذه المشكلة، وهذا ما أشرت إليه في كتابي «معيار البتكوين: البديل اللامركزي للنظام المصرفي المركزي»، حيث إنه لا يمكن لأحد التحكم بها مثل ما تقوم به المصارف المركزية والحكومات.

بالنسبة إلى «FOMO»، أجل، هذا الأمر يدفع الناس إلى دخول عالم «بتكوين» والعملات المشفّرة الأخرى، لكنّي أعتقد أنه في المستقبل، كل تلك العملات المشفّرة لن تبقى موجودة، فقط «بتكوين» باقية. عملياً، من السهل جداً أن تخلق عملة مشفّرة، وأن تقول للناس «إلى القمر» و«اللامبرغيني قريباً»، لكن لا أحد يستطيع أن يخلق مثيلاً للـ«بتكوين». كل تلك العملات الأخرى ستذهب في القيمة إلى الصفر. فقط «بتكوين» هي الوحيدة التي ستحافظ على قيمتها وترتفع مع الوقت.

بعد التضخّم الحاصل عالمياً والمخاوف من حصول ركود، هل نجحت العملات الرقمية في أن تكون البديل الذي يحمي الناس من انخفاض قيمة العملات المطبوعة؟ خصوصاً أنها تأثّرت مثلها مثل الأوراق المالية المتداولة في الأسواق بالأوضاع الراهنة عالمياً. ففي ظل هذا الوضع غير المستقرّ ومحاولات السيطرة على العملات المشفّرة، هل يمكن اعتبار هذه العملات التي نشأت غير مركزية، بأنها تقوم مقام العملات المتداولة بوصفها تحفظ القيمة وأداة للتبادل؟ وفي السياق نفسه، كيف يمكن أن تحتوي المصارف المركزية حول العالم العملات الرقمية وتقنية بلوكتشاين؟ ما هو تأثير الاندفاعة الأميركية نحو قوننة هذا السوق؟

- انخفض سعر «بتكوين» مع انخفاض سعر كل الأسواق الأخرى، هذا صحيح. لكن «بتكوين»، تاريخياً، لها هذا التذبذب الكبير في سعرها. وهو ليس بالأمر الجديد، بمعنى أن هذه ليست المرة الأولى التي تنخفض فيها «بتكوين» بنسبة 70%. حدث هذا الأمر سابقاً، ويمكن أن يحدث مستقبلاً. لكن ما يميز «بتكوين» عن العملات المشفّرة الأخرى، أو عن الأصول المالية الأخرى، هو أن الأخيرة، عندما يحدث فيها صعود، يقوم الناس بشرائها هرباً من التضخم، ثم يبدأ من ينتج هذا الأصل، بإنتاج المزيد منه، لأن الطلب كبير.

هنا يزداد المعروض، فينخفض السعر وينخسف. والأمر ذاته يحدث في سوق المنازل، يشتري الناس المنازل، ترتفع الأسعار، ثم يزداد عدد المعروض من البيوت فينخفض السعر. ما يميز «بتكوين» أنه لا يستطيع أحد أن ينتج منها أكثر مما هو مقرر من الشبكة، وبالتالي، حتى مع نزول سعر «بتكوين»، فهي تنخفض إلى مستويات تبقى أعلى مما كانت عليه في الماضي، وهذا هو الفرق. نعم، انخفضت «بتكوين» كثيراً خلال هذه السنة، لكن إذا كنت ممن اشتروا هذه العملة في عام 2019 أو عام 2014 أو حتى إلى حدّ آخر أسبوعين من عام 2020، فإن قيمة ما لديك اليوم أعلى بكثير من أي أصل آخر.

كي تهيمن عملة ما عالمياً، فإن أول ما يحدّده ذلك هو حصتها من العمليات التجارية المستخدمة عالمياً. يعني أنه أمر تحدّده القوى الاقتصادية الكبيرة. من هذا المنطلق، ما الذي سيدفع تلك الدول الكبرى لاستبدال عملاتها التقليدية بالعملات المشفّرة؟

- برأيي، المهم هنا، هو حصة بتكوين من الـ«Cash Balances»، أي حصتها من الأرصدة المالية التي يحملها الناس. حالياً، رأس المال السوقي للـ«بتكوين» يساوي 400 مليار دولار، يعني أقل من نصف بالمئة من كل المال الذي في العالم مقارنة مع صفر قبل 14 سنة. وبطبيعة الحال، الدولار أكبر بكثير من «بتكوين»، كذلك الين والعملات الأخرى. لكنّ الفرق أن المعروض من العملات في حالة ازدياد دائمة، في حين أن عدد «بتكوين» هو ثابت (21 مليون عملة، لم تنتج كلها بعد)، وبالتالي، يضمن هذا الأمر إلى حدٍّ ما أن قيمة «بتكوين» لن تنخسف بشكل كبير مع الوقت. لا يستطيع أحد أن ينتج منها أكثر مما يجب طوال الـ 14 سنة الماضية.

تعريف

الدكتور سيف الدين عَمُّوص، كاتبٌ وخبيرٌ اقتصادي فلسطيني، ومؤلّفٌ يصبُّ تركيزه على البتكوين، وقام بتأليف كتاب «معيار البيتكوين: البديل اللامركزي للنظام المصرفي المركزي»، وهو أول كتاب أكاديمي يتحدث عن اقتصاديات البيتكوين، وقد تم نشره بأكثر من عشرين لغة. سيف الدين هو باحثٌ مستقل، يُدرِّسُ اقتصاديات البيتكوين، والاقتصاد وفق تعاليم المدرسة النمسَوية. تخرّج في الجامعة الأميركية، بيروت عام 2003 بدرجة بكالوريوس في الهندسة الميكانيكية، حصل عَمُّوص على الماجستير في إدارة التنمية من كلية لندن للاقتصاد عام 2004، ثم الماجستير (2006)، وماجستير في العلوم (2007)، والدكتوراه (2011) من جامعة كولومبيا. وكانت أطروحته بعنوان: «اقتصاديات الوقود الحيوي ومصادر الطاقة البديلة». شغل منصب أستاذ مساعد للاقتصاد في كلية عدنان القصار للأعمال في الجامعة الأميركية اللبنانية، وعُين أستاذاً مساعداً في جامعة كولومبيا الأميركية.

اضف تعليق