الأمر بأكمله قد بدأ مع ستينيات القرن العشرين، عندما وصلت الرأسمالية النفعية إلى مرحلة تخبط واضحة، فوقع العجز في تحديد ما هو خير وما هو شر، لأن المسألة برّمتها قد أضحت خاضعة لمنظور ثقافي أو لمنظور شخصي. من هنا ظهرت معايير جديدة للتقييم، وهي تلك التي وضعت الكمية...

يرى المؤلف أن روح المنافسة ذاتها قد تسبب الاكتئاب، لتصيب به "لا الخاسرين فقط، بل الرابحين أيضاً". ولذلك لا يستغرب أن المجتمع الأميركي الذي يقوم بالأساس على الفردية وروح التنافس، هو الأعلى في العالم في الاقبال على مضادات الاكتئاب.

يسلط كتاب "صناعة السعادة: كيف باعت لنا الحكومات والشركات الكُبرى الرفاهية؟" للباحث ويليام ديفيز الضوء على مشروع مهم شاركت فيه الحكومات والشركات الكبرى في القرون الأخيرة، يركز على صناعة السعادة، ومحاربة الضغوط الناتجة عن البؤس والفقر والمرض. ويحاول المؤلف أن يبيّن الطريقة التي تطورت بها النظرة إلى مفهوم السعادة المنشودة، والكيفية التي تحاول من خلالها المؤسسات العالمية تحقيق السعادة والارتياح للعاملين فيها، والجوانب الفلسفية والسياسية المرتبطة بالموضوع والمنبثقة عنه، ولا سيما أثره المهم في النظام الرأسمالي ومرحلة النيوليبرالية التي نعيش فيها.

هل من الممكن أن نقيس الإحساس؟

في بداية الكتاب يتناول المؤلف قصة العالم الإنجليزي الشهير جيرمي بنتام، فيعرض نظريته النفعية والتي يتلخص مضمونها الأساس في "أن العمل الصالح هو أيما فعل يتمخض عنه مُنتهى سعادة العشيرة كلها".

يوضح ديفيز أن بنتام كان ذا طبيعة متفردة، فهو نصف فيلسوف ونصف تقني، وقد تدفقت من هذه الثنائية العديد من المتناقضات "فهو مفكر لديه نفور إنجليزي كلاسيكي من المذهب العقلي، ومُنظّر قانوني آمن بأن الكثير مما ارتكز إليه القانون ليس إلا هراء، ومجدد ومتفائل تنويري تهكم من الأفكار المتعلقة بوجود حقوق أو حريات متأصلة للبشر، ومُناصر لمذهب المتعة، حيث أكد أن كل لذة أو مسرة يمكن تفسيرها عصبياً".

يذكر ديفيز أن بنتام في تسعينيات القرن الثامن عشر كان يقضي أغلب وقته في تصميم تقانات وآليات غريبة عن تلك الموجودة من حوله، وكان هدفه الرئيس من تلك الاختراعات والابتكارات هو "تحسين كفاءة وعقلانية الدولة". ولعل البانوبتيكون، وهو عبارة عن فكرة سجن دائري يستطيع سجّان واحد فقط أن يراقب جميع السجناء فيه وهم داخل زنازينهم، كان أهم مبتكراته على الإطلاق، حتى أنه كاد أن يُدرج بالقانون الإنجليزي خلال تسعينيات القرن الثامن عشر قبل أن يفشل هذا المشروع في النهاية.

بنتام كان معارضاً شرساً للمؤسسة القانونية الإنجليزية، لكنه في الوقت ذاته كان نادراً ما يتعاطف مع الحركات الثورية والراديكالية التي كانت تنتشر في زمنه في بقاع مختلفة من العالم، ويفسّر ذلك استهزاءه بالثورتين الأميركية والفرنسية.

المفكر الإنجليزي الرافض للمثاليات والفلسفات المجردة، كان يحاول العثور على بديل لما اعتبره حديثاً لا جدوى منه، ومن هنا فإنه عمل على تقديم قرار قانوني قائم على بيانات إمبريقية وعلمية، فدشن ما يُعرف باسم "صناعة السياسات المستندة إلى أدلة"، وهي الفكرة التي تذهب إلى أن التدخلات الحكومية يمكن تخليصها من أي مبادئ أيديولوجية أو أخلاقية بحيث لا تسترشد إلا بالحقائق والأرقام فقط لا غير، ومعنى ذلك أن نظرية بنتام كانت لا تقيم أي إجراء أو فكرة إلا بناء على نتائج قابلة للقياس.

بالنسبة لبنتام فإن كلمات مثل الخير أو الواجب أو الوجود أو العقل أو الخيال أو الحق أو الباطل، هي كلمات لا معنى لها، وأن استخدامها على هذا النحو المجرّد، لا يعدو على أن يكون نوعاً من أنواع السفسطة.

ولكن السؤال الذي كان يشغل بال بنتام، إذا استثنينا هذه الكلمات من قاموسنا السياسي، وإذا همشنا من نظريات العدل والحق الإلهي، وهي النظريات التي أستندت إليها السياسات القائمة في عصره، فعلى أي ركائز سوف نبني سياساتنا؟

بحسب ما يذكر ديفيز، فإن الإجابة السحرية التي توصل لها المفكر الإنجليزي، كانت هي السعادة. ولما كانت كلمة السعادة هي في حقيقتها مجرد كلمة عمومية مثلها مثل الكلمات السابقة، فإن بنتام إهتم بتوضيح فحواها من خلال مبدأي الألم واللذة، "وهكذا أصبح علم السعادة مكوّناً حرجاً في إنجاز شكل منطقي للسياسة والقانون، إذ يمكن استخدامه في توجيه السلوك نحو الغايات المُثلى للجميع".

ويذكر المؤلف أن حجر العثرة الرئيس في مشروع بنتام، كان هو كيفية قياس السعادة، "إذ كيف يُمكن لعالم أو مُشرّع أو من يوقع العقاب أو صانع القرار السياسي أن يعرف مدى شدة ألم أو لذة ما؟".

في سبيله لحل تلك الإشكالية المعقدة، طرح بنتام إجابتين مبدئيتين، ولكنه لم يحاول أن يقتفِ أثر أي منهما بأي طريقة عملية حقيقة تستند إلى تجارب إمبريقية من النوع الذي كان يدعو إليه المفكر الإنجليزي نفسه.

كانت كل واحدة من الاجابتين تحاول أن تقيس ما ينوب أو يحل محل الشعور بالسعادة، وذلك لصعوبة قياس السعادة نفسها. الإجابة الأولى، هي قياس نبض قلب الإنسان، حيث اعتقد بنتام أن "معدل نبض الإنسان من شأنه أن يقدم إمكانية قيام علم كمي تجريبي يختص بدراسة الرفاهية".

أما الإجابة الثانية فقد دارت حول إمكانية استخدام النقود، "لأنه –أي بنتام- قد افترض أنه إذا ما استوجبت سلعتان مختلفتان السعر النقدي نفسه، فإنهما توفران القدر ذاته من النفع بالنسبة إلى المشترى".

وعلى الرغم من أن أياً من الاجابتين لم يُتخذ من أحدهما وسيلة قاطعة في المستقبل لقياس السعادة، إلا أن "طريقة طرحهما قد هيأت الأجواء للتشابك بين البحث السيكولوجي والرأسمالية، والذي سيشكل الممارسات التجارية في القرن العشرين".

في مزاج الشراء

يذكر المؤلف أنه بدايةً من أواخر تسعينيات القرن العشرين، أخذ تركيز باحثي السوق، ينصب بالمقام الأول على عيون ووجوه الزبائن المحتملين، وكانوا يبحثون عن أي إشارة تشي بالرغبة في الشراء، ومما ضاعف من هذا الاهتمام نظرية بنتام التي تعتقد بأن الانفعالات هي التي تقود إلى الاستهلاك في المقام الأول.

ويوضح ديفيز أنه على الرغم من الغرابة التي تظهر في تلك النظرية للوهلة الأولى، إلا أنها قد تكون متوافقة إلى حد بعيد مع الإدراك العام بأن المعلنين يستهدفون دائماً رغباتنا اللاواعية وغياب الإحساس بالأمن، وهي الأسس التي يبنون عليها حملاتهم في شراء المنتجات التي يبيعونها.

ورغم أن كل ذلك ليس بجديد، إلا أن النقطة المهمة التي يركز عليها الباحث، هي أن ظهور علم الأعصاب، قد مهد الطريق للاعتقاد بإمكانية العثور على زر الشراء داخل دماغ الزبائن، وهي تلك المنطقة الرمادية "التي تدفعنا إلى وضع سلعة ما داخل سلة مشترياتنا، وهو ما يعني أن المعلنين لم يعد عليهم مواجهة الخيار بين التفكير على نحو خلاق أو على نحو علمي، بل إن كل ما عليهم هو تحديد أشكال الصورة أو الصوت أو الرائحة التي تسفر عن تعلق عاطفي بعلامات تجارية بعينها".

ويخصص ديفيز مساحة كبيرة من كتابه لتبيان الطرق المختلفة التي حاولت قياس الشعور والإقبال على منتج معين، الطريقة الأولى التي يشير المؤلف إليها، بدأت في عام 1879، عندما أعلن الفيسيولوجي والفيلسوف فيلهلم فونت أن جزءاً معيناً من مكتبه سيتم استخدامه في سبيل إجراء تجارب مختلفة، وتتقارب بشكل كبير مع تلك التي عمل عليها فونت إبان مشاركته للفزيائي الألماني هيرمان فون هيلمهولتز في هايدلبرغ في ستينيات القرن التاسع عشر.

هذا الجزء الصغير من مختبر فونت، يُنظر إليه الآن على كونه أول مختبر سيكولوجي في العالم، حيث كانت تُجرى فيه العديد من التجارب على معدل النبض وضغط الدم في محاولة للوصول إلى علاقة وطيدة مع الانفعالات والمشاعر الإنسانية. ولكن المؤلف ينبّه إلى أن أحد السمات الرئيسة التي ميّزت هذا المعمل، هو أن الذين خضعوا للتجارب كانوا من الباحثين والطلاب لدى فونت، ممن هم على وعي تام بما تسعى التجارب إلى اختباره.

النتائج التي توصلت إليها اختبارات فونت، أن هناك ثلاث طرق مختلفة قابلة للقياس يُمكن أن تتباين فيها الانفعالات، وهي (اللذة/ السأم، التوتر/ الهدوء، الإثارة/ الاتزان).

أما الطريقة الثانية، التي يشير إليها المؤلف، فقد جرت في الفترة الواقعة ما بين منتصف القرن التاسع عشر والحرب العالمية الأولى، وذلك عندما سافر خمسون ألف أميركي إلى ألمانيا والنمسا للحصول على درجات جامعية والتدريب على البحث العلمي ثم العودة بما تعلموه إلى الولايات المتحدة.

من ضمن هؤلاء الأميركيين المسافرين إلى أوروبا، وُجدت مجموعة من السيكولوجيين الأميركيين حديثي السن نسبياً تتلهف إلى اكتشاف المزيد من التجارب الشهيرة في مختبر فونت، من بين هؤلاء الطلبة، ويليام جيمس ووالتر ديل سكوت وهارلو جيل وجيمس ماكين كاتل.

من المؤكد أن هؤلاء الطلبة قد انبهروا بما شاهدوه في المختبر الألماني، ويدل على ذلك أنهم قد سارعوا باستنساخ وتقليد العديد من الأجهزة التي تعاملوا معها بمجرد عودتهم إلى وطنهم، كما أنهم قاموا باستدراج مجموعة من طلاب فونت ليأتوا معهم إلى أميركا.

التجارب التي قامت بها تلك المجموعة في مختبرهم الخاص الجديد، ساهمت في تأسيس علم النفس الأميركي بمعناه الحقيقي، كما أسفرت عن ظهور مجموعة من الكتب المهمة في مجال الإعلان، ومنها كتابا والتر ديل سكوت المعنونان "نظرية الإعلان" و"سيكولوجية الإعلان"، هذا بالإضافة إلى تأسيسه للمؤسسة السيكولوجية، التي ستضطلع مستقبلاً بدور مهم فيما يخص الدعاية الإعلانية وطرق التأثير على الزبائن.

أما المرحلة الثالثة التي يتطرق إليها المؤلف في كتابه، فهي تلك التي تم تدشينها على يد متخصص في علم نفس الحيوان يُدعى جون ب. واطسون، والذي ألقى محاضرة في جامعة كولومبيا في عام 1913، عن مصطلح السلوكية، وهو المصطلح الذي سيصبح فيما بعد من أهم المصطلحات المؤثرة في علم النفس على مدار القرن العشرين كله.

بعد إلقائه لتلك المحاضرة، صار واطسون في غضون عامين، رئيساً لاتحاد علماء النفس الأميركيين.

وفي 1920، كانت صناعة الإعلام قد أضحت واعية بشكل تام، بالثروة التي من الممكن أن يقدمها لها علم النفس، وظهرت شركة جيمس والتر تمبسون للإعلان، كأحد أقوى الكيانات التجارية العاملة في هذا المضمار الحيوي البكر.

في العام نفسه التحق واطسون بوكالة جيمس والتر تمبسون باعتباره مسؤولاً عن الحساب التنفيذي، وكان عليه القيام ببعض المهام الإعلانية الجديدة، ومنها السفر إلى بعض المناطق النائية لبيع القهوة. وبتلك الطريقة أصبح في مستطاع واطسون أن يُخضع نظرياته المجردة للتطبيق على أرض الواقع، وناشد زملاءه المعلنين "أن يكون أهم ما عليهم تذكره، هو أنهم لا يبيعون منتجاً على الإطلاق، بل يسعون إلى إنتاج سيكولوجية، والمنتج ليس إلا وسيلة للقيام بذلك إلى جانب الحملة الإعلانية. أما المستهلكون ففي المستطاع تكييفهم للقيام بأي شيء إذا صُممت العوامل البيئية بالطريقة الصحيحة".

وبحسب ما يذكر المؤلف، فإن واطسون لم يكن يسعى وراء الاستفادة من الرغبات والانفعالات القائمة والموجودة عند المستهلك، بل إنه كان في الحقيقة يعمل على تفجير رغبات وانفعالات جديدة.

ويضرب ديفيز مثالاً على تلك الانفعالات التي يقصدها، عندما يوضح أن واطسون قد اكتشف أثناء عمله على عقد الإعلان مع شركة "جونسون آند جونسون"، أن هناك طرقاً مختلفة لتسويق مسحوق الغسول، أهمها تلك التي تعتمد على الانفعالات التي تمر بها الأمهات مثل القلق والخوف والرغبة في النقاء والخشية من الأضرار التي من الممكن أن يُصاب بها الأطفال.

كيف نستطيع أن نحلل شخصية الموظف السيكوسوماتي؟

يشرح المؤلف ويليام ديفيز ما يقصده بمصطلح السيكوسوماتية، فيقول إنه وصف يشير إلى ارتباط من نوع ما بين النفس/ العقل والجسد.

يرى ديفيز أن الضغوطات العصبية التي تُلقى على الموظفين الذين يعملون في العصر الحاضر، قد تسببت نوعاً ما في تعرضهم لإرهاق جسدي تظهر آثاره في أحيان كثيرة.

وبحسب المؤلف، فإن العديد من الدراسات بشأن الولاء الوظيفي قد ألقت الضوء على التكاليف الاقتصادية للسماح للعمال بأن يكونوا منسحبين عقلياً من وظائفهم، حيث أكدت تلك الدراسات أن ما يقرب من 13% من العمال يتمتعون بالولاء الوظيفي اللازم، في حين أن عشرين في المائة من موظفي أميركا الشمالية وأوروبا غير موالين بشكل فعال، وأوضحت تلك الدراسات أيضاً أن غياب الولاء الوظيفي يكلّف اقتصاد الولايات المتحدة نحو 550 مليار دولار سنوياً.

يرى المؤلف أن مقاومة العمل لم تعد تكشف عن نفسها من خلال المعارضة الصريحة أو تنظيم الاحتجاجات، بل إنها أخذت عدداً من الأشكال المتفرقة المتوارية، مثل اللامبالاة والمشكلات الصحية المزمنة، ومن هنا فإن نقص الولاء قد صار يسبب أزمة كبرى للحكومات ويؤثر بالسلب على الإيرادات الضريبية.

تلك التأثيرات السلبية لا تنحصر في قطاع الأعمال فقط، بل إنها تمتد كذلك إلى جميع مناحي الحياة، حيث أثارت منظمة الصحة العالمية ضجة كبرى في عام 2011، عندما رجحت أن اضطرابات الصحة العقلية ستصير السبب الأكبر في الإعاقة والموت في العالم بحلول العام 2020.

تحسين الصحة العقلية ومحاولة إدخال السعادة إلى الموظفين، أصبح أحد المشاغل الرئيسة التي يهتم بها المدراء، إذ كشفت مجموعة من الدراسات أن إنتاجية العامل تزيد بنسبة 12% من العائد الكلي، في حال شعر بالسعادة.

ولكن كيف نساعد الموظف على الإحساس بالسعادة؟

يجاوب ديفيز على هذا السؤال من خلال إظهاره لنموذجين مهمين هما: النموذج الأول هو التصدي المباشر لأسباب التعاسة، ومحاولة القضاء على الفقر والمعوقات التي قد تقابل العامل في وظيفته. أما النموذج الثاني، فهو الاستعانة بمستشارين وخبراء في الصحة العقلية، ودفعهم لتلقين النخب الموجودة في الشركات الطريقة المُثلى التي يستطيعون من خلالها الإبقاء على أنفسهم داخل حالة من اللياقة السيكوسوماتية، وهي الخبرة التي تنتقل من مستوى وظيفي إلى آخر داخل الشركة، ويشارك في نقلها مجموعة متنوعة من خبراء علم الأعصاب والتأمل وخبراء التغذية والرياضيون، الذين يتقاضون مبالغ مالية باهظة لقاء ما يقدمونه من استشارات ونصائح.

يضرب المؤلف المثل بإلتون مايو وهو خبير مارس الفلسفة والطب والتحليل النفسي، وكان يؤمن بأن الحل الوحيد لتحسين الصحة النفسية للموظفين هو توفير أشكال العلاج القائم على التحليل النفسي للموظفين، وذلك لتخفيف آلامهم ولتقريبهم من أحضان أصحاب العمل.

وبحسب نظرية مايو، فإن المشاكل النفسية داخل مكان العمل لن تعلن عن نفسها من خلال انخفاض الإنتاجية والاضطراب الصناعي فقط، بل من خلال ارتفاع ضغط الدم أيضاً، وخلال الفترة الواقعة ما بين عامي 1923 و1925، تجول بين عدد من المصانع في بوسطن بصحبة ممرضة، وقام بإجراء العديد من اختبارات قياس ضغط الدم، بحيث وصل في نهاية الأمر إلى وجود علاقة وطيدة بين ما هو عقلي واقتصادي وجسماني.

أهمية ملاحظات مايو تكمن بشكل رئيسي في كونها قد قللت من قيمة الطرق المادية الأكثر وضوحاً، فلم يعتبر أن النقود ولا الجسم ملائمان لفهم مستويات السعادة أو التأثير فيها، فاستبدل تلك الوسائل بطرق نفسية منها الحديث مع العمال وتسهيل العلاقات في ما بينهم، واتخذ من تلك الوسائل مقياساً للسعادة.

المثال الثاني الذي يستدعيه المؤلف، هو العالم النمساوي هانز سيلاي، الذي استخدم مصطلح الإجهاد للمرة الأولى على الجسم البشري في أربعينيات القرن العشرين، بعدما كان مقصوراً على الاستعمال على الفلزات فحسب فيما قبل.

سيلاي اكتشف أن الإجهاد النفسي من شأنه أن يزيد إفراز هرمون الكورتيزول في الدم مما ينتج عنه تصلّب الشرايين وزيادة مخاطر الإصابة بالنوبات القلبية، ومن هنا كان علم الإجهاد النفسي الذي دشنه العالم النمساوي "ذا أهمية بالغة للمديرين المشغولين بنضوب عمالهم، كما أضحى أحد الاهتمامات الأساسية، بمهنة الموارد البشرية التي كانت تسعى خلف حكمة بدائية بناء على نطاق واسع من الشكاوى البيولوجية والنفسية والاجتماعية".

المنافسة والسعادة

من المباحث المثيرة للاهتمام التي عرض لها ويليام ديفيز في دراسته، العلاقة بين المنافسة والسعادة من جهة، والمنافسة والاكتئاب من جهة أخرى، والكيفية التي تتناغم بها المنافسة مع مبادئ السوق الرأسمالي الحر.

يذكر المؤلف أن زيادة المنافسة من شأنها أن تؤثر بالإيجاب في إحداث مستويات غير مسبوقة من التفاوت الاقتصادي في المجتمع، لأن وظيفة التنافس الأصيلة تتمثل في إنتاج عائد غير مساوٍ. ومن هنا فإنه يستشهد بالدراسات التي تؤكد أن المجتمعات الأكثر توازناً ومساواة، هي نفسها التي تسجّل مستويات اكتئاب أقل ومستويات رفاهية أعلى، ويضرب مثالاً على ذلك بالدول الإسكندنافية، وعلى العكس من ذلك فإن الدول التي تصطبغ بالصبغة التنافسية الكاملة، مثل الولايات المتحدة الأميركية فيتفشى فيها الاكتئاب بصورة حادة.

يرى المؤلف أن روح المنافسة ذاتها قد تسبب الاكتئاب، لتصيب به "لا الخاسرين فقط، بل الرابحين أيضاً". ويستدل ببعض الدراسات التي أوضحت أن نسبة تعرّض لاعبي كرة القدم للاكتئاب تبلغ ضعف احتمال من لا يمارسون اللعبة. ومن هنا فإن الباحث لا يستغرب أن المجتمع الأميركي الذي يقوم بالأساس على الفردية وروح التنافس، هو الأعلى في العالم في الاقبال على مضادات الاكتئاب.

يعتقد المؤلف أن الأمر بأكمله قد بدأ مع ستينيات القرن العشرين، عندما وصلت الرأسمالية النفعية إلى مرحلة تخبط واضحة، فوقع العجز في تحديد ما هو خير وما هو شر، لأن المسألة برّمتها قد أضحت خاضعة لمنظور ثقافي أو لمنظور شخصي. من هنا ظهرت معايير جديدة للتقييم، وهي تلك التي وضعت الكمية محل الجودة، وجعلت المفهوم الوحيد للنمو هو التقدم والانتشار والهيمنة، من دون وجود لأي ضابط أو مرجعية أخلاقية.

ويقدم ديفيز مدرسة شيكاغو الاقتصادية كنموذج معبّر لما يطرحه، حيث يؤكد على أن أطروحتهم الرئيسة كانت تتلخص في السماح للكيانات الاقتصادية بالتضخم بقدر ما تستطيع، من دون أن توضع العراقيل أمامها، مع الترويج لثقافة السوق الحر، وهو ما نتج عنه في النهاية إنتاج لكيانات نيو ليبرالية متوحشة ومهيمنة، مع اختفاء المنافسين الأقل قوة من على الساحة. فمبدأ هذه المرحلة هو إما أن تستطيع أن تنهض وتحقق النسبة الأكبر من الأرباح، وإما أن تترك مقعدك لغيرك، وهي القاعدة التي صاغها ميلتون فريدمان –والذي يُعتبر أهم مؤسسي مدرسة شيكاغو على الإطلاق- في مقال شهير له نُشر في صحيفة نيويورك تايمز عام 1970، بقوله "إن الواجب الأخلاقي الوحيد لأي شركة هو تحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح".

هذه الأفكار سرعان ما استطاعت أن تستحوذ على ألباب الساسة الأميركيين أنفسهم، بدايةً من لحظة وصول الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان إلى البيت الأبيض، وخلال أقل من عشر سنوات "تحول صناع القرار السياسي من رؤية الربحية العالية باعتبارها إشارة تحذير من أن مؤسسة ما تتجاوز الحجم المسموح، إلى مؤشر ترحيب بشركة تُدار بطريقة بالغة التنافسية".

الكتاب: صناعة السعادة: كيف باعت لنا الحكومات والشركات الكُبرى الرفاهية؟
الكاتب: ويليام ديفيز
ترجمة: مجدي عبد المجيد خاطر
اصدار: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب-الكويت سلسلة عالم المعرفة، العدد رقم 464 لشهر سبتمبر 2018
عدد الصفحات: 290 صفحة، من القطع المتوسط
قراءة وعرض: د. محمد يسري أبو هدور

https://www.almayadeen.net/

اضف تعليق