بأن الصلح أمر محبوب ومطلوب لفض الخلافات وإصلاحها، لأن النفس السليمة ميالة إلى السلم والعيش بأمان فلا غالب ولا مغلوب، والعيش في دوامة الخلاف وإجبار الآخرين على الدوران في فلكها هو من ديدن النفس المريضة، من هنا كان الصلح تثبيتاً لحق وإزالة لفساد كما يؤكد...

من الأمور الصعبة أن يوضع الإنسان الحر في موقف الشهادة في مجلس صلح بين صديقين، يريد الأول أن تقف إلى جنبه كسند ويطلبه الآخر أيضا، وبين كفي الطلبين يبقى قبان ميزان العدل هو الحاكم، وفي حكمه مجلبة لصديق ونفرة لصديق آخر إذا لم يمتثل لصوت الحق.

قبل عقدين من الزمن وقع صديق لي في خلاف مع إبن خالته على مبلغ من المال، فالأول كانت تربطني به صداقة طويلة منذ مقاعد الدراسة في كربلاء المقدسة سنة 1976م والتقيت به ثانية في لندن عند هجرتي إليها سنة 1990م، والثاني هو رب العمل لي في مجال البناء حيث عملت معه لأكثر من عام واحد وذلك بعد أن أُغلقت في وجهي أبواب العمل الإعلامي والتحقيقي سنة 2002م ووقتها كان لزاما علي أن أوفر رسوم الدراسة الجامعية العليا إلى جانب مصروف البيت، فتحولت بنقلة غير متوقعة من استعمال الأنامل في بناء الكلمات وهندسة العبارات والعمل الصحفي إلى استخدام الكف في حفر الأرض والحيطان ومد أنابيب التأسيس الصحي، ثم عدت إلى عملي القديم سنة 2004م.

عندما دعاني الصديق القديم لحضور جلسة الصلح كنت أشعر بمرارة الموقف، وحتى أكون على بينة من الأمر سألته إن كان ابن خالته يعلم بقدومي، فكان الجواب بنعم، وسألته ثانية عن دوري ما إذا كان حضورا شرفيا أو حكميا، فمال الى الثانية، وسألته ثالثا ما إذا كان سيرضى بالحكم أيا كان إذا طُلب مني ذلك، فأبدى سروره.

جلست بينهما مع حكم آخر وهو في الوقت نفسه صاحب المصلحة المشتركة بعد أن باع لهما ما اختلفوا عليه ماليا، وبعد ساعتين من النقاش الذي عليه أن يفضي إلى الصلح، انتهيت وأنا في مجلسي إلى قناعة تامة بأن الحق مع صديق العمل وليس مع صديق الدراسة، فاعتصمت بالسكوت حتى إذا ما طُلب مني إبداء الرأي، قلت بما كنت أراه الصواب، فخرج صديق العمل راضيا قانعا ورضي صديق الدراسة على مضض، وفوضا إلي أمر الإستسلام والتسليم وتسوية قرار الصلح حسب المدة التي ضرباها بينهما، وعندما حان الأجل رفض الثاني تسليم ما بذمته للأول وضرب صفحا عن تنفيذ مجلس الصلح وقفل هاتفه ورفض الحديث معي وصار إذا رأيته يهرب إلى الجانب الثاني من الطريق وإذا ألقيت عليه السلام في مجلس يجيب ببرودة أهل القارة الأوروبية.

وحيث اختلف طرفا الصلح ماليا بعد انفاض مجلس الصلح اختلفا عائليا وصارت القطيعة هي الحاكمة بينهما، كما أصبحت القطيعة هي الحاكمة بيني وبين صديق الدراسة حتى يومك هذا، وهي كاشفة عن مرارة قول الحق، وحيث ظن زميل الدراسة أن حضوري مجلس الصلح سيكسبه صوتا إلى صوته، ولكن الحق خيّب ظنه، كما خاب ظني بما كنت أراه صديقا يحتكم إلى صوت العقل ويرضى بالحكم، فلا مصلحة لي منهما، ولكن الشيطان دخل بينهما ففك عرى القرابة، وحلّ بساحتنا فهدّ أساس الصداقة، وهوى جدارها عند أول عاصفة.

هذه الحادثة التي لاشك وقع بها غيري، قد أخرج سهمها من كنانة الذاكرة كتيب "شريعة الصلح" للمحقق الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي، الصادر نهاية العام 2019م في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 48 صفحة وفيه 75 مسألة شرعية مع 20 تعليقة للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري، وقبلهما كلمة للناشر وثانية للمعلِّق وثالثة للمصنِّف.

تثبيت وإزالة

لا يختلف إثنان بأن الصلح أمر محبوب ومطلوب لفض الخلافات وإصلاحها، لأن النفس السليمة ميالة إلى السلم والعيش بأمان فلا غالب ولا مغلوب، والعيش في دوامة الخلاف وإجبار الآخرين على الدوران في فلكها هو من ديدن النفس المريضة، من هنا كان الصلح تثبيتاً لحق وإزالة لفساد كما يؤكد الفقيه الكرباسي في التمهيد حيث: (الصلح في اللغة: كل ما يزيل الفساد فهو ضده، فإذا كان معيوبا أصلحه، وإذا كان ناقصا أتمّه، وإذا كان قبيحا أحسنه، وهكذا)، حيث يدخل الصلح في صميم السلم المجتمعي وهو مطلب إسلامي كما يشير الفقيه الكرباسي، إذ: (لا يخفى أن الإسلام في بنيته هو دين التعايش ودين الواقع المعاش، بمعنى أنه ينظر إلى الأمور بواقعية وينظر إلى الفرد من منظار العِشْرَة مع الآخر، فهما اللَّذان يكوِّنان المجتمع وما يترتب على هذه العشرة وما تتطلبه من أحكام وأسس يمكن ان تقوّمه نحو الأفضل والأقل سوءاً).

وأما في مصطلح الفقهاء فإن الصلح: (هو التوافق على ما ليس بحرام في الشريعة بما يرضي الطرفين إزالة الخلاف او تأسيسا على صلاح)، وبذلك يكون الصلح: (بَدْويًّا وقد يكون بعد الخلاف على ما بدأه الشريكان)، وللمعلق الشيخ الغديري رأيه في المسألة: "إذا كان بَدْويًّا فيسمى في العرف بـ -الإتفاق- دون الصلح"، وأيا كان المسمى، فإنّ يدور مدار التثبيت والإزالة، وإذا ما تحقق الأمر بدويا أو بعديا فإنه يشكل خارطة طريق للطرفين أو أكثر يستنيرون بها وتحول دون وقوع خلاف أو غلط، والناس عند شروطهم، ومن الشروط العمل ببنود الإتفاق أو الصلح.

ولأن الصلح حالة لاحقة مترتبة على خلاف سابق، فإن من الطبيعي أن يمر في مراحل بعد أن يصل المتصالحان إلى مرحلة النضوج والوقوف على قاعدة الصلح والإنطلاق نحو البناء والإعمار، وقد ميّزها الفقيه الكرباسي بثلاث مراحل هي: (1) مرحلة التفاهم لوضع بنود الصلح، (2) مرحلة تثبيت بنود الصلح والتوافق عليها، (3) مرحلة تطبيق بنود الصلح.

وفي كل المراحل وبخاصة الأولى منها تدخل الأخلاق عاملاً مهما في ترطيب أجواء الصلح وتنقيتها وتمهيد النفوس لتقبل البنود وتطبيقها والعمل بمقتضاها لخير الطرفين، وربما يتطلب الأمر التنازل الحبي من أحدهما للآخر من أجل أن تستمر الحياة وعدم وضع العصي في عجلة الصلح، وخلاصة الأمر كما يفيد الشيخ الكرباسي أنَّ: (الصلح صلحان، صلح على قاعدة الخلاف الذي نشأ على تفاهم سابق لإنهائه، وصلح على قاعدة التوافق لتفاهم جديد، وكلاهما أمران مادِّيان يدوران على المعاملات البينيَّة، فالأول لإزالة الخلاف الواقع، والثاني لدرء الخلاف اللاحق، وهما أمران قضى الشرع بصحتهما وقنَّنهما حسب مصالح الأمة آخذا بعين الإعتبار مصلحة الفرد).

ويقتضي في تنجيز خارطة طريق الصلح بشكل عام كما يشير الشيخ الكرباسي تحقيق أمور ثلاثة: (1) طيب الخاطر، (2) عدم الغش، (3) عدم مخالفة الشرع، مع التأكيد المبرم: (إنّ الصلح مقدم على الحُكم، بمعنى أن المصالحة مع طيب خاطر مقدّمة على تطبيق القانون بدقته وخصوصاته حيث هو الأسهل أولاً، وفيه طيب الخاطر ثانيا، ولا يستوجب المرافعة إلى القضاء أو غيره ثالثاً) وبتعبير أهل القانون عند المرافعات في قضايا الصلح العمل بـ "روح القانون" المتحرك وليس بـ "نص القانون" الجامد.

شروط الصلح

يعتبر الصلح وجها من وجوه إبراء الذمة من الطرفين، إن كان بثمن ضمن بنود صلح (عقد) أو غير ثمن بشكل ودّي وفي كلتي الحالتين لابد من توفر شروط المتعاقدين، وكما يؤكد الفقيه الكرباسي: (الشروط الواجبة في الصلح هي الشروط العامة في كل عقد، كمال العقل، وحرية التصرف والإختيار، والقصد والرضا والتكليف، فلا يقع من غير البالغ والمجنون والسَّفيه والمجبر والمُكرَه والمحجور عليه فيما إذا أوجب التصرف في المال ولا في المال المغصوب أو الوقف أو الأموال العامة التي لا يملكها، وفي حالة الغفلة أو النوم أو ما شابه ذلك).

ولهذا فإن المكلّف الراشد بحضور الأب هو مسؤول عن تصرفاته على خلاف غير البالغ فـ: (المكلَّف لا يجب عليه أخذ الإذن من والده، وغير المكلَّف يجب عليه أن يستأذن والده)، من هنا يخضع المكلف لقانون الجزاء من ثواب وعقاب، حيث يقع العار على من ينقض عهد الصلح، كما يقع عليه الوزر والغرم، ويطبق عليه القانون إذا حنث بوعد أو تخلف عن بند.

وبالطبع كما لا ينبغي أجراء عقد على مجهول أو سمك في البحر أو طير في جو السماء، فإنه: (يشترط في الصلح أن لا يكون التبادل حراماً شرعا، فلو تصالحا على مالٍ مغصوب أو على الخمر، أو على الربا أو على ما شاكل ذلك من المحرمات الشرعية، لا ينعقد الصلح)، وعليه: (إذا تصالح الطرفان على شيء ثم تبين أنه مغصوب، بطُل الصلح) كما: (لا تجوز المصالحة على المحرّمات ومنها الغش في الإمتحانات)، لأنّ الغش في أصله محرّم، وفي الإمتحان المدرسي فيه حق غائب وظلم حاضر وتضييع لحقوق الطالب الشاطر الذي يتساوى في النتيجة النهائية مع الطالب الكسول الغشاش.

وليس العوض المادي شرطا في إبراء ذمة الصلح حتى وإن كان الخلاف أصلا على مال أو مادة، فعلى سبيل المثال: (إذا كان التصالح على قيام عمل الخير أو الدعاء أو الإستغفار له أو قراءة سورة من القرآن، جاز ذلك)، وبشكل عام: (تجوز المصالحة على العبادات كما في غيرها إلا إذا كانت العبادة فرض عين كالفرائض والصوم، إما إذا كانت فرض كفاية، جازت المصالحة على ذلك ليسقط الوجوب عن نفسه)، أي مقابلة العوض المادي بالعمل كما يقابله بالصلاة أو الصوم أو الإستغفار، وهو أشبه بما يجري في بعض المحاكم عندما يستبدل القاضي فترة محكومية السجين بساعات عمل في دوائر خدمية حكومية أو خيرية.

وكما يشدّد الشرع على التسامح في عملية الصلح بين إثنين وتسهيل الأمور إلى القدر المكن حتى بالتنازل عن الحق الشخصي من أجل سلامة الفضاء الإجتماعي، فإنه يشدد على عدم التنازل عن الحق عندما يكون الخلاف بين بلدين، لأن الحقوق حينئذ تخرج من دائرة الشخصنة إلى دائرة المواطنة، والدائرة الثانية مقدمة على الأولى شرعاً وعرفاً وقانوناً، ولهذا يؤكد الفقيه الكرباسي أن: (المصالحة والتفاهم بين دولتين يجب أن لا يكون على حساب الوطن والمواطن ولا على حساب العقيدة والمبادئ، فلا تجوز المصالحة على الإحتلال من طرف الأجنبي)، ولهذا كانت مقاومة الإحتلال أمراً مشروعا أقرته شرائع الأرض والسماء وبنود الأمم المتحدة، فضلا عن إقراره وطنيا وفق شروط موضوعية يقررها قادة البلد المحتل وعلمائه وأعيانه دون غوغائه وسفلته وجهاله.

وحيث حقن الدماء أولى، فإنه: (تجوز المصالحة على رفع الإحتلال إذا انحصر الطريق الأسلم فيه، وإلا سُلك طريق آخر لا يتضرر المُصالح عليه)، ويفترض في مثل هذه المصالحة تقديم مصلحة الوطن والمواطن ومستقبل البلد، من هنا: (لا تجوز المصالحة مع العدو في غير ما هو صالح للوطن والمواطن والعقيدة) كما: (لا تجوز المصالحة إذا أدّت إلى تسليط الكفار على المسلمين)، حتى وإذا تحقق الصلح مع المحتل أو العدو فإنه ينبغي ملاحظة رفع الضرر الحاصل واللاحق، ولهذا: (إذا كانت هناك مصالحة ظالمة أُجريت من قبل من سبقهم على الحكم، وجب إزالتها وتحرير بلاد المسلمين من الأجانب، وتجوز المصالحة بشكل بما يرفع الضرر والحيف والميل).

إذن ما دام قطار الصلح قائماً على سكتي تثبيت حق وإزالة فساد، فإنه لابد من تعبيد الطريق وتوفير سبل سلامة الوصول الى محطة السلم المجتمعي، وهذا يتحقق ابتداءً بتحقيق السلم بين الأفراد حتى تتحقق العدالة الإجتماعية على مستوى القرية والناحية والقضاء والمدينة والقطر، واذا تحقق الأمن المجتمعي ازدادت قويت شوكة البلد فعظم في عين القريب وأمن شر البعيد.

* الرأي الآخر للدراسات-لندن

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق