منذ انطلاق الاحداث في سوريا عام 2011، الى اليوم الاوربيون يحاولون بكل ثقلهم لإيجاد موطئ قدم ثابت لهم في سوريا، ومع انطلاق شرارة الاحداث في درعا السورية، قامت فرنسا بالدفع باتجاه دعم الثورة السورية ورفع شعار اسقاط نظام بشار الاسد، ودفعت بكل ماكنتها الاعلامية والدبلوماسية وتقديم كل انواع الدعم العسكري للمعارضة، واستضافة العديد من المؤتمرات لما يسمى اصدقاء سوريا.

كما انها قدمت ولا زالت تقدم العديد من مشاريع القرارات لمجلس الامن من اجل مساعدة المعارضة السورية وعدم هزيمتها كليا، واخرها قرار مجلس الامن الدولي في 19 كانون الاول 2016، الذي تقدمت به من اجل نشر مراقبين دوليين في حلب، والذي جوبه بالفيتو الروسي اول مرة، حتى تم تعديله اخيرا وبتوافق دولي كامل، وهذا القرار الذي تقدمت به فرنسا وبدعم اوربي واضح هو من اجل انقاذ ما يمكن انقاذه من بقايا المعارضة في حلب وابقاءها هناك حتى ولو في جيب صغير في شمال شرق حلب، خاصة بعد تخلب تركيا بشكل مفاجئ عن دعم المعارضة في سوريا، وتوافقها مع روسيا وايران حول الحل السياسي في سوريا، الذي سوف يركز اولا على محاربة الارهاب قبل التفكير بتغيير النظام السوري، وهو ما عد ضربة قوية للغرب الاوربي الذي كان يستخدم الاراضي التركية كممر لدعم المعارضة السورية.

حتى ان بريطانيا هي الاخرى بدأت تفقد صوابها من الخطوات التركية نحو حل الازمة في سوريا، خاصة بعد حصول تقارب بين امريكا وروسيا حول الحل في سوريا، لهذا بدأت وبكل قوة بدعم بعض الفصائل في سوريا لوقف الهجوم على حلب، ومنها هجوم داعش المفاجئ على دير الزور واحتلالها، خاصة ان هذا الهجوم لا يمكن ان ينجح او يكون بهذه السعة ان لم يكن له دعما دوليا كبيرا، اذ ان احداث المنطقة منذ انطلاقها عام 2011، وما تلاها من حداث وسيطرة داعش على مناطق في العراق وسوريا يدل بشكل لا يقبل الشك ان بريطانيا هي من صنع داعش وسلحه بعد فصله عن القاعدة ولك لمنع اي نفوذ امريكي او دولي منافس لها في المنطقة التي تعدها منطقة نفوذ تقليدية، كما ان تواجد (بوكو حرام) في نيجيريا وهي اصبحت فرع من داعش الان الا دليل على صناعة بريطانيا للمجموعات المسلحة الجهادية في غرب افريقيا لمنع تغلغل النفوذ الامريكي هناك، كما ان زيارة رئيسة وزراء بريطانيا (تريزا ماي) لدول الخليج واجتماعها مع قادة الخليج يأتي من باب استثمار فتور العلاقات السعودية الامريكية بعد اصدار قانون جاستا، وانتشار بعض الاخبار عن احتمال ايقاف توريد السلاح الامريكي للسعودية، واخرها تصريحات الرئيس الامريكي الجديد (ترامب) المثيرة للجدل حول السعودية ودول الخليج.

لقد جاء تحرير حلب المدينة الاستراتيجية في سوريا ضربة قوية لكل المحاور الداعمة للمعارضة السورية، فيعد اربعة اعوام من سيطرة المعارضة على شرق حلب واتخاذه موقعا مهما للسيطرة على شمال سوريا، اذ تم الاطلاق منها لاحتلال ادلب المجاورة لها، كما عدت طريق لدعم المعارضة بالسلاح والمواد الاخرى من تركيا، لهذا كانت حلب ولا تزال مفتاح سوريا السياسي والاقتصادي، فهي تقع في شمال سوريا بالقرب من الحدود التركية وهذا ما يعطيها ميزة مهمة فمن يسيطر عليها يمكنه السيطرة على شمال سوريا والسيطرة على طرق الامداد الرئيسية من تركيا والغرب، كذلك تعد اكبر مدينة اقتصادية في سوريا، فهي تضم العديد من المراكز الصناعية المهمة في سوريا، بل تعد قلب سوريا الاقتصادي النابض، كما لا يمكن اهمال القطاع الزراعي الذي تقوم به حلب واريافها الواسعة.

كما ان سيطرة الجيش السوري وحلفاءه على كامل حلب سوف يجعل مدينة ادلب في كماشة الجيش السوري، فقد اصبحت مدينة ادلب شبه محاصرة من اللاذقية في الغرب وحلب في الشمال وحمص في الشرق، لهذا فان موافقة الحكومة السورية على نقل المعارضين وعائلاتهم الى ادلب من دمشق وحمص وغيرها ماهي الا تجميع لهم في محاولة لا حقة للهجوم عليها، خاصة وان تركيا الداعم الرئيس لفتح الشام (جبهة النصرة سابقا) قد ادركت اخيرا عبثية افعالها، وان ما تقوم به طريقة عقيمة لحفظ مصالحها، حتى تدخلها الذي اسمته بدرع الفرات اصيب بنكسة كبيرة بعد المقاومة التي واجهها، سواء من الحكومة السورية او الاكراد، واخيرا تعرضه لهجوم جوي ادى الى مقتل وجرح عدد من الجنود الاتراك، وكان عبارة عن تحذير اولي قد تتبعه هجمات، لقد بدأ الامن يتهاوى في تركيا تحت ضربات الاكراد من جهة وتنظيم داعش الارهابي من جهة اخرى، من خلال العشرات من عمليات التفجير بالسيارات المفخخة، لهذا كان عليها اخيرا ان تمد يد الصلح مع روسيا من اجل ايقاف تقدم الاكراد في شمال سوريا.

ان فشل الغرب بسقوط حلب في أيدي قوات الجيش السوري والقوات المتحالفة معه سيطارد الغرب كأزمة كبرى خلال العقود القادمة وستكون له تداعياته عليهم في الشرق الاوسط كله.

لقد أفشل تحرير حلب خطط الاوربيين وخاصة البريطانيين الرامية لتقسيم سوريا الى دويلات طائفية متناحرة، فقد حقق تحرير حلب الحفاظ على مركزية الدولة السورية عبرة حماية المدن المهمة فبها وهي مدن الغرب السوري الكبيرة: دمشق وحلب وحمص وحماه، وبالتالي فان عملية تحرك الجيش نحو الشرق لتحرير مدن دير الزور والرقة ستكون أسهل بعد تحرك القوات العراقية نحو الموصل، مما وضع المعارضة في ضع صعب.

ان تحرير حلب حرم الاوربيين من طريق كان مفتاح الدعم العسكري واللوجستي للمعارضة السورية، فقد تم قطع خطوط الإمداد الرئيسية للتنظيمات المتطرفة التي كانت تأتي من تركيا إلي حلب، ثم تتوزع في انحاء سوريا، كما ان محاولة الغرب نشر مراقبين في حلب لاعتقادهم انه يمكن استمرار ارسال الدعم عن طريق المساعدات هي الاخرى غير ذي فائدة لان الدولة التي كانت طريقا لهذه المساعدات اصبحت ضمن المحور الروسي الباحث عن حل سياسي للازمة.

الجيش السوري والقوات الاخرى الساندة له كانت لديها خطط بعيدة واستراتيجية، لم ينتبه لها الاوربيين بشكل جيد، بل كانت بنظر الاوربيين تعد طريقة للحفاظ على قوات المعارضة من الهزيمة من خلال نقلهم من مناطق في دمشق وحمص واللاذقية وحلب الى ادلب، على امل ان يعاد تنظيمهم من جديد من اجل مواجهة جديدة مع الجيش السوري، الا ان خطط الحكومة السورية كانت ناجحة في هذا المضمار فقد تمكنت من تفتيت عزيمة المعارضة، واخراج الالاف منهم من خلال المصالحة مع الحكومة السورية، كذلك حتى خروجهم الى ادلب والتمركز هناك هو تمهيدا لمعركة حاسمة، وهو ما تنبه لها الأوربيين اخيرا وبدأ بالبحث عن ما يمكن الحفاظ عليه من خلال نشر مراقبين دوليين في حلب التي يمكن ان تعمم لتشمل مناطق اخرى.

على الرغم من ان تنظيم الدولة الاسلامية قد سيطرة على مساحات شاسعة من سوريا، وخاصة في شرقها ووسطها، الا انه لم يدخل في معارك كبيرة مع الجيش السوري، سوى في مدينة دير الزور التي استعادها التنظيم اخيرا، اذ ان الخطط السورية الروسية ابتعدت عن تنظيم داعش، مما جعل المواجهة تشتد بين التنظيم والمعارضة الاخرى، مما اضعف المعارضة السورية وخاصة ما يسمى بالجيش الحر الذي فقد اغلب تواجده سوريا، بل اصبح وجوده اسميا فقط، هذا ما سهل على الجيش السوري مهاجمة المعارضة في شمال سوريا، لان تنظيم داعش لا يحظى بالدعم الدولي، بل هناك تحالف دولي بقيادة امريكا لمحاربته انطلاقا من العراق امتدادا الى سوريا، هنا فان الاوربيون بخسارتهم حلب واحتمال توسع السيطرة السورية الى ادلب، وحالة التشرذم في أوساط فصائل المعارضة السورية وكثرتها والمعارك المستمرة فيما بينها واستنزاف بعضها من خلال تنظيم داعش أدى كل ذلك لأن تنتهي خيارات العالم في دعم أي منها أو الرهان عليها،، كما ان محاولة الاوربيين تقديم الدعم لداعش بشكل علني سوف يجعل منهم في موقف الداعم للإرهاب الدولي امام شعوبهم او دول العالم الاخرى.

ان التنافس الروسي الاوربي حول سوريا، ومحاولة الغرب فرض عقوبات اقتصادية على روسيا، جعل الاتجاه العام في المنطقة يسير لصالح روسيا من خلال نجاحها في مهمة وبعيداً من حدودها منذ انهيار الاتحاد السوفياتي قبل ربع قرن. فالتدخل الروسي العسكري قبل سنة كان له الأثر الحاسم في اعادة رسم خريطة الميدان السوري. وروسيا تستأثر في الوقت الحاضر بالدور الأساسي في سوريا وتفرض حضوراً غاب عقوداً عن الشرق الاوسط، لهذا فان سياسة الغرب المعادية لروسيا التي تملك العديد من الاوراق التي تستفيد منها في سوريا جعلهم يخسرون الكثير، بل سوف يخسرون نفوذهم في الشرق الاوسط كله، خاصة اذا نجح التوافق الروسي التركي الايراني الامريكي في المنطقة.

جاء تحرير حلب ليكشف فشل اعتماد الغرب على دول في المنطقة لم يكن لها سياسة واضحة بل ومطاولة واستمرارية في دعم المعارضة، فقد انطوت السعودية على نفسها وابتعدت تحت وطأة حرب اليمن التي جعلت من السعودية تبحث عن من يدعمها بالسلاح والخبرات في هذه الحرب، بل جعلت من السعودية تحت رحمت بريطانيا وامريكا في التسليح، اذا ان تراجع من هذين الدولتين للسعودية سوف يقود الى احتمال ليس فقط خسارتها للحرب في اليمن بل خسارتها لنظامها السياسي وانهيارها الكامل، كما ان قطر الدول الخليجية الاخرى لم تقدم سوى الاسف والحزن على تحرير حلب، فهي غير قادرة على تقديم دعم عسكري حقيقي يمكن من خلاله ان يقوي من عزيمة المعارضة السورية، لان الحرب في سوريا ليست حرب سلاح فقط، بل بحاجة الى قوات عسكرية، وهذا ما استفادت منه سوريا من خلال حلفاءها الروس الايرانيين واللبنانيين، على عكس المعارضة السورية التي كانت تعتمد على مقاتلين محليين فقط وقليل من الأجانب الذين يحسبون مجموعات ارهابية في كثيرة من الاحيان.

ادرك الاوربيون اخيرا ان دعمهم للمجموعات المسلحة، والتي اغلبها تعد متطرفة وفوضوية، قد وصل الى مراحله الاخيرة، فقد كانت الآمال من كل الاطراف الداعمة للمعارضة ان نهاية الحرب قريبة جدا، وان اسقاط النظام لم يدم طويلا، الا ان تمسك روسيا بالنظام وبتواجدها في سوريا، واتساع المعارك وارتكاب الجرائم من قبل كل الاطراف في كل الجبهات، ووصول الارهابيين الى الدول الاوربية نفسها من خلال الهجرة، كما في احداث باريس وبروكسل، والمانيا وسويسرا، واتباع الارهاب وسائل متاحة مثل استخدام الشاحنات والطعن وغيرها، جعل الدول الاوربية تدرك ان الوقت قد حان لأنهاء الازمة، ووقف تمدد الارهاب الذي يصيب اولا واخيرا جسد اوروبا اولا، خاصة وان المعلومات الاستخباراتية نشرت تقارير عن قيام التنظيم بتوزيع أجهزة محمول وأجهزة كمبيوتر لوحية على عشرات الاطفال والصبية في المناطق التي يسيطر عليها ويوفر لهم إمكانية الاتصال بشبكة الإنترنت ليتمكنوا من الدخول على مواقع التواصل الاجتماعي أو المنتديات لبث الأفكار العنيفة والدعاية لمشاركة الاطفال في المعارك في سوريا والعراق، وهو مسعى لتأسيس جيل جديد من “الإرهابيين" ولاجتذاب مجندين جدد على الإنترنت، والقيام بشن حملة من الهجمات في أبرز العواصم الغربية وعلى معالم كبرى فيها مثل ساعة بيغ بن في لندن وبرج إيفل في باريس وتمثال الحرية في نيويورك، كما ان الهجرة هي الاخرى قد جعلت الغرب في تهديد دائم، وتحت رحمة بعض دول المنطقة مثل تركيا التي تهدد بين الحين والاخر لفتح الهجرة الى اوروبا.

ان تحرير حلب لا يعني مطلقا نهاية المطاف في الصراع السوري، لأن الكثير من فصائل المعارضة المسلحة لا زالت مصرة على مواصلة القتال بدفع من قبل جهات اقليمية ودولية، حتى بعد إن اضطرت إلى الانسحاب من المدينة، ويتوقع أن تنتهج هذه الفصائل حرب العصابات، التي يعرفها الجيش الروسي منذ حرب أفغانستان في الثمانينات، الا ان تصميم روسيا وسوريا وايران على انهاء الصراع في سوريا، وانضمام تركيا الى الحل سوف يخفف من وطأة الحرب الدائرة هناك، كما ان الاوربيين وبعض الدول الاقليمية مثل السعودية وايران وتركيا سوف تخرج من اللعبة بدون تحقيق اي مصالح لها في سوريا، اذ لعبة الكبار للكبار ولعبة الصغار للصغار، وان تجميع كل طرف لأنصاره هو لزيادة فرص نجاحه في اللعبة وليس مشاركتهم له في المكاسب، وهذا ما ادركته تركيا مبكرا، فهل تدركه باقي الاطراف الاقليمية الاخرى.

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2017
www.fcdrs.com

اضف تعليق