تحرير حلب يطرح تساؤل مهم، هل يضع مصير سوريا في يد روسيا؟

من الممكن القول ان تحرير كامل مدينة حلب وخاصة الاحياء الشرقية منها جعلها تحت سيطرة النظام السوري، وهذا أمرا يحمل تداعيات استراتيجية على العمليات الروسية في سوريا.

لدى موسكو الآن خياران: فإما أن تقبل بطموحات الرئيس السوري بشار الأسد وحلفائه في ايران، ومن ثم تستمر في حملتها العسكرية الرامية إلى دحر المعارضة، أو تقرر استثمار تحرير حلب في إبرام اتفاق بين المعارضة ونظام بشار الاسد، من خلاله تستطيع روسيا حصد مكاسب سياسية وفي الوقت نفسه تقليل مخاطر الانغماس أكثر في الأزمة السورية.

لكن هذين الخيارين محكومان بحالة عدم التأكد تجاه السياسة التي ينوي دونالد ترامب كرئيس أميركي جديد تفعيلها في سوريا مما يربك حسابات موسكو، ويدفع باتجاه الخيار الاول وهو تأمين مكاسب عسكرية على الأرض من أجل تفعيلها كورقة تفاوضية في وقت لاحق. من جانب آخر فان تحرير حلب الذي يعد ضربة موجعة لقوى المعارضة السورية، لا يعني نهاية الحرب، بل سيغير من طبيعتها بحيث تتحول من صراع يدور في المدن إلى صراع في المناطق الريفية، فالصحيح أن المعارضة لا تزال تسيطر على كافة أرجاء محافظة إدلب وعلى مناطق ريفية مهمة شرق وجنوب شرق مدينة حلب، بالإضافة إلى جيوب مقاومة صغيرة في حماة وحول العاصمة دمشق، فالمتمردون هزموا لكنهم لم يخرجوا من حلب مطأطئي الرؤوس، بل أصروا على الاحتفاظ بالعتاد والسلاح واللحى مما يؤشر ان الحرب نهايتها ما زالت بعيدة.

لكن قوات المعارضة لم تعد تهدد ببقاء النظام، لان النظام السوري وحلفاؤه يعيدون سيطرتهم على ما يسمى بسوريا المفيدة التي تمتد من سواحل البحر المتوسط إلى الحدود اللبنانية، أي أن النظام سيسيطر على أكبر المدن السورية وقرابة 60 في المئة من سكان البلاد، وهذا ما يجعل من الناحية العسكرية، نظام الأسد بموقع القوة.

القرار الاستراتيجي الذي يتعين على موسكو اتخاذه يتمثل ضمن هذين الخيارين، فأما ان تستجيب لضغوط دمشق وطهران باستكمال الحرب على المعارضة وإلحاق هزيمة ماحقة بها وضرب المناطق المتمركزة فيها، أو الضغط على نظام بشار الاسد للقبول بصيغة ما لإتفاق سياسي انتقالي.

من جانب اخر يمكن التوقع وحسب المعطيات أن تدفع طهران ونظام بشار الاسد روسيا نحو هجوم كبير على محافظة إدلب حيث تتداخل المعارضة مع عناصر مسلحة من (أحرار الشام) و(جبهة النصرة). لكن معركة إدلب ستكون أطول من معركة حلب وتفوقها دموية، ما يتطلب إسهاماً عسكرياً روسياً أكبر خاصة بالقوات الجوية وربما عناصر برية، ويمكن التوقع أن عملية عسكرية في إدلب قد تستغرق عاماً كاملاً أي 2017 كله. ما قد يلقي بظلاله على الانتخابات الرئاسية في روسيا المزمع إجراؤها مطلع عام 2018.

ولهذا تريد روسيا ان تستأثر بالملف السوري وتتحكم بمستقبل سوريا، وفعلا يتم الإعداد لاجتماع يضم ممثلين عن المعارضة السورية الشهر المقبل في دمشق ولقاء اقليمي دولي في الاستانة بكازاخستان مثل هذا الاجتماع لم يكن ممكننا من دون روسيا ودورها وفعاليتها الدبلوماسية وقدراتها العسكرية. ان أحد الأهداف غير المعلنة لروسيا سياسيا: تقسيم المعارضة الموجودة في الرياض والحد من دور السعودية وامريكا في الحل السياسي للأزمة السورية.

وهنا لابد من التأكد على ان امريكا واوروبا لم يستوعبان بعد أن الوجود الروسي في سوريا طويل الامد وإن الرئيس بوتين يعتقد أن بشار الأسد قد لا يحظى بأغلبية شعبية في حال أجريت انتخابات بأشراف دولي ولهذا فهو يتحرك بخلق ترويكا ثلاثي روسي إيراني تركي يقضي بجعل بشار الأسد ينجو برأسه حتى آخر ولايته الثالثة عام 2021 على أن يتم الحد من صلاحياته من خلال تعزيز اللامركزية وموقع رئيس مجلس الوزراء والبرلمان. ان هذه الاستراتيجية قد تعيد الثقة شيئا فشيئا بين مختلف الفرقاء على غرار اتفاق (ويستفاليا) الذي أنهى حرب الثلاثين عاما في أوروبا القرن السابع عشر لكنها ترسخ الوجود الروسي في سوريا والمنطقة وتعيد بناء امجادها السوفيتية بعد الحرب العالمية الثانية.

ان الترويكا الروسية الإيرانية التركية اذا ما ارتأت أن لا حل عسكري في سوريا سيقضي على طموحات بشار الأسد بالحكم بمنطق القبضة الحديدية ويجعله مرتهنا بشكل كلي لحلفائه، المحادثات الثلاثية بين روسيا وتركيا و إيران حول سوريا بالفعل دعت إلى إطلاق العملية السياسية وتوسيع وقف إطلاق النار في سوريا وطرح الدول الثلاثة نفسها ضامنة لتطبيقه.

لكن علينا ان لا نراهن كثيرا على هذه التفاهمات الاولية اذ لا تغيب التناقضات التي تعترض سياسة كل دولة منهن في سوريا، فتضارب مصالح إيران وروسيا وأيضا تركيا في هذه المرحلة الجديدة من النزاع السوري واضحة جدا ولا تؤشر لولادة حلف قوي بقدر ما نشهد مقاربات انية فقد لا تتشاطر روسيا وإيران وتركيا بالضرورة الأهداف والمصالح نفسها، فتركيا التي تدعم المعارضة السورية وتخشى من كيان كردي مستقل عند حدودها مع سوريا وترفض تدخل ايران وحزب الله في سوريا، هو ما تدافع عنه طهران باعتبار أن تدخلها وحزب الله أتى استجابة لطلب من النظام السوري، وتنادي طهران بتشكيل حكومة وحدة وطنية تبقى صلاحيات واسعة لبشار الاسد، فيما تبقى الرؤية الروسية متمسكة ببيان جنيف الذي كرسه مجلس الأمن في القرار الأممي 2254 والذي يدعو إلى تشكيل حكومة انتقالية، ووضع دستور جديد مع إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية على أن تقرر العملية الديمقراطية مصير الرئيس السوري بشار الأسد حينها.

كما ان هنالك غضب داخل تركيا ضد الدور الروسي في سوريا ترسخ باغتيال السفير الروسي في انقرة، فهنالك إحباط كبير في تركيا يرى فيها طرفاً خاسراً في الحرب الأهلية الدائرة في سوريا مما يعقد العلاقة مع الروس.

ويؤكد ان هنالك توترات عميقة بين البلدين، وأن الغضب تجاه الدور الروسي في الأزمة السورية يمكن أن ينتشر في أرجاء تركيا. إن الغضب الشعبي في تركيا يطرح شكوك بأن موسكو وأنقرة قادرتان على بناء تفاهم جديد وبراغماتي لإجراء تسوية في سوريا، وأن من الواضح أن هناك حدوداً لقدرة الحكومة التركية على الدفع بسياسات في الملف السوري، مع الحفاظ على تأييد الرأي العام في الوقت نفسه، مما يفسح للروس قدرة اكبر من تركيا بالانخراط في الازمة السورية. فروسيا استثمرت ايران للتقدم العسكري وتستثمر تركيا للتوصل لحل سياسي، مع ارتهان نظام بشار الاسد للروس يجعل منهم اللاعب القوي فيها ويجعل من مستقبل سوريا مرهون بالخيارات الروسية.

ما بعد حلب تعطينا انطباعات مثيرة للاهتمام فالمشهد يظهر من هم فعلا أسياد الموقف انهم الروس. فإبعاد واشنطن وأوروبا ودول الخليج وحتى الأمم المتحدة عن المسار التفاوضي يجعل موسكو سيد اللعبة في سوريا إلى جانب ايران، لكن الفوز من خلال احراز السلام أصعب بكثير من الفوز بحرب قد لا تنتهي أصلا. هنالك تشكيك بدوام شهر العسل ما بين بوتين وأردوغان ولازلنا ننتظر موقف الادارة الامريكية الجديدة وموقفها من سوريا وايران مع كل ذلك يستبعد على الأرجح نجاح روسيا بفرض إعادة بناء سوريا سياسيا وماليا على غرار ما فعلت في الشيشان، وذلك بسبب ضعف الاقتصاد الروسي والتعقيدات البالغة على الساحة السورية.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001 – 2017 Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق