مستفيدة من الانفجار المعلوماتي، ومن ازدياد رؤوس الاموال وانتقالها عبر الحدود الوطنية تحت مسميات التجارة الحرة والشركات العابرة للقومية، ظهرت العولمة بعد افول كل الفلسفات التي كانت سائدة وقت انقسام العالم الى معسكرين رأسمالي واشتراكي، وبعد ان قيض لتلك الرأسمالية الانتصار الناجز بعد سنوات الحرب الباردة، التي كانت ميادينها السياسة والاقتصاد والثقافة.

لم تكن العولمة في مبدأ ظهورها، الا تعبيرا عن افق مفتوح دون حدود حسب وعد وبشارة اصحابها للآخرين، من تحويل العالم الى قرية صغيرة يسهل التنقل فيها، ووعود العيش المشترك وحقوق الإنسان، والعدل الاجتماعي والتلاقح الخصب بين الحضارات؛ من أجل تأسيس ثقافة "التنوع الإنساني المبدع".

في الجانب الاقتصادي، وعدت العولمة بتحوُّل نوعي عن اقتصاد يتَّصف بكل بساطة بأنه دولي، والاقتصاد المدوَّل هو اقتصاد تظل الاقتصاديات القومية المنفصلة فيه مسيطرة، على الرغم من اتساع النشاط بين الدول.

وكان وعدها في الجانب السياسي؛ الاتجاه المتواصل نحو تعددية تُؤَدِّي فيها المنظمات الدولية دورًا رئيسًا لتشكيل بنية عابرة للقوميات، وظهور شبكة من المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية التي تراقب عمل الحكومات وتؤثِّر فيه.

وفي الجانب الثقافي كانت بشارتها؛ انها تمثل مرحلة من مراحل التفكير الإنساني في العالم المعاصر، بدأت بالحداثة، وما بعد الحداثة، والعالمية، ثم العولمة، ونحن الآن في مرحلة الأمركة، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة الكوكبة -نسبة إلى كوكب الأرض- ثم التطلع بعد ذلك إلى مرحلة الكونية.

لم يكن امام شعوب العالم الا ان تضع نفسها امام توجهات العولمة، في عالم نضطرب معه وفيه، وان تشتبك مع القوى الحاشدة التي تشل حركته.

الا ان المنادين بالعولمة في المقابل لم يكشفوا لهؤلاء حجم الانتهاك الذي سيتعرضون له، على مستوى السيادة الوطنية لبلدانهم، التي تضاءلت وانمحت لدى الكثير من دول العالم، حيث الشركات متعددة الجنسيات، التي حلت في مجال السوق محل الدولة تدريجيًا، حتى أضحى العالم مجالاً لعمل هذه الشركات.

وعلى مستوى الاقتصاديات التابعة بحكم صغرها، ازداد الأغنياء غنى والفقراء فقرا، وازدادت معدلات البطالة، وتراجعت معدلات التنمية الاقتصادية والمجتمعية، وازدادت نسب التلوث البيئي تبعا لزيادة التصنيع الذي يستهدف المستهلكين في البلدان الفقيرة، مستفيدين من المواد الخام في تلك البلدان والايدي العاملة الرخيصة فيها.

وعلى مستوى الثقافات المحلية او الهويات الثقافية، لم تستطع تلك الهويات والثقافات الوقوف امام سيل جارف من الرسائل الثقافية الجديدة، والتي في معظمها تتقاطع او تتنافر مع الهويات الثقافية للكثير من البلدان، لان الهوية الثقافية هي نظام من القيم والتصورات التي يتميز بها مجتمع ما تبعًا لخصوصياته التاريخية والحضارية، وكل شعب من الشعوب البشرية ينتمي إلى ثقافة متميزة عن غيرها، وهي كيان يتطور باستمرار ويتأثر بالهويات الثقافية الأخرى ولهذه الأخيرة مستويات ثلاث هوية فردية، هوية جماعية، هوية وطنية.

لم تكن العولمة بهذا المعنى الا شبيها بالقطار (وهو قطار برغماتي قوي يحكم على من يمر به أن يركب فيه، وإلا بقي وحده منفردًا لا يحمله شيء إلى حيث يريد، وكأن ذلك الذي يتخلف عن الركب يتحدى المعايير الدولية في سباق العولمة؛ بل يتحدى ذلك الحلم الرأسمالي الذي يبدو في العقل الأميركي نبوءة إنسانية مقدسة).

لم يكن الامام السيد محمد الشيرازي الراحل وهو يكرس احد كتبه للعولمة (فقه العولمة.. دراسة اسلامية معاصرة) منبهرا بها وبوعودها. كان يستشرف بحسه الانساني وبثقافته التي تنهل من القران ومن معين اهل البيت (عليهم السلام) تلك المآخذ على العولمة، والمآلات التي ستنتهي اليها حركتها الصاخبة.

لقد استشرف تلك المآلات مبكرا، وهو الذي نظر اليها كوجه اخر من الوجوه المتعددة للاستعمار والهيمنة بنسختها الكولونيالية (ان معنى العولمة يتلخص في عودة الهيمنة الغربية من جديد، لكن محملة على اجنحة المعلوماتية والعالم المفتوح، ومدججة بالعلم والثقافة حتى وان كانت غير انسانية، وبذلك تقلب القاعدة القديمة القائلة: ان القوي يأكل الضعيف، الى قاعدة جديدة عصرية عولمية تقول: السريع يأكل البطيء، علما بان القاعدة الجديدة، لاتختلف عن القاعدة القديمة، من حيث النتيجة، بل تكون هذه النتيجة اشد بأسا واعظم ظلما من تلك القديمة، لان اصحاب السرعة يعملون على تثبيط حركة الآخرين بكل وسعهم وجميع امكانياتهم).

بعد ثلاثة عقود من انطلاق قطار العولمة، اكتشف العالم انها وبما احتوت عليه من تناقضات شكلت تهديدا لاختلاف المجتمعات، بل وشكلا آخر من الاستعمار، وتنامي التفاوت والإقصاء والتهميش والظلم، ولم تستطع العمل على اسعاد البشرية والقضاء على آلامها، بل زادت فيها وعمقت منها.

لذلك فان الحاجة الى عولمة بديلة لازالت قائمة ومطلوبة، ونحن نشهد افول العولمة وصخبها، (ان الرأسمالية بمعناها الموجود مصيرها سيكون نفس مصير الشيوعية والاشتراكية من السقوط والزوال، ولا يبقى على وجه الارض الا العولمة الصحيحة التي دعا اليها الإسلام). الامام الشيرازي.

* مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث
http://shrsc.com

اضف تعليق