q
ان يستفيد العراق من عامل التوجه الدولي الذي ينظر الى البلد على المدى الطويل وأن تكون علاقته مرنة وتتكيف مع الظروف، لكن الحكومة العراقية يجب ان تضع لها أهداف استراتيجية كبرى واضحة والتركيز على المشاكل المباشرة مع إنشاء دولة فعالة تتمتع باستقرار طويل الأمد...

وضعت الحرب في غزة المنطقة في قلب تداعيات النزاع الدموي الذي يخلّف يوميا مئات الضحايا وباتت القواعد العسكرية الدولية هدفا لهجمات الفصائل العراقية بل امتد الصراع الى سوريا واليمن وصولا الى لبنان.

تنشغل السياسة الدولية والعراقية رغبة العراق برحيل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة والذي يضم 2500 جندي داخل الأراضي العراقية، و 900 عسكري في سوريا.

فهل يا ترى ستنسحب أمريكا فعلا من العراق أم هناك للعراق قصة مختلفة بالنسبة لها والتي لديها أولوية استراتيجية حاسمة في تأمين مصالحها؟

طيلة العقدين الماضيين أخفقت السياسة الأمريكية في استراتيجيتها وتعاملها مع العراق والشرق الأوسط. كما تحول "انتصارين" واضحين إلى هزيمتين منذ سقوط نظام صدام عام 2003 وحتى الوقت الحاضر.. الولايات المتحدة لم تحدد قط أهدافاً استراتيجية كبرى قابلة للتنفيذ، ولم تبذل جهوداً فعالة لإنشاء عراق مستقر، ولم تُظهر للشعب العراقي أن وجودها يخدم مصالحه فعلياً. ورغم أنها أنفقت أكثر من 765 مليار دولار على الصراع في العراق والقتال ضد داعش منذ مطلع عام 2019 فهذا ليس سوى جزء صغير من التكلفة المباشرة ولا يوجد نمط واضح للتقارير حول إنفاق الدولة أو الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، ولكن يبدو أنه وصل إلى 100 مليار دولار أخرى، بحسب بيانات أمريكية رسمية.

يرى فريق بايدن في الشرق الأوسط أن المنطقة منقسمة بين إيران وشركائها. ويتمثل دور الولايات المتحدة في دعم التحالف الذي يضم الجميع ضد إيران. ومن وجهة النظر هذه، فإن عمليات الانتشار الصغيرة لها، على الرغم من عدم أهميتها عسكرياً، تشكل إزعاجاً لإيران، وبالتالي فهي فهو أمر مفضل.

حرب أخرى

إن الوابل الأخير من الصواريخ الباليستية والطائرات بدون طيار التي أطلقت من الحوثيين وكذلك ردود الأفعال من قبل امريكا وبريطانيا يظهر أن هذا الصراع يتوسع بسرعة. وتجد الولايات المتحدة نفسها الآن على قدم وساق لحرب جديدة مع إيران وشركائها الإقليميين، الذين اعتبرهم كثيرون في الكونجرس جزءا من من محور جديد يضم روسيا والصين.

إدارة بايدن تقول إنها لأي سيناريو قادم، لكن ما هو واقعي لم تكن هناك حسابات حقيقية لمنع وقوع الكارثة. إن الخوف بين الرأي العام الأمريكي من أن الولايات المتحدة سوف يتم جرها إلى حرب أخرى في الشرق الأوسط آخذ في الارتفاع بسرعة وفقا لاستطلاع للرأي أجراه معهد كوينيبياك مؤخرا، كان 84% من المشاركين إما قلقين "جدا" أو "إلى حد ما" من إمكانية انجرار الولايات المتحدة إلى الحرب.

منذ اندلاع الحرب في غزة، قامت الولايات المتحدة بزيادة تواجدها العسكري في الشرق الأوسط بشكل كبير على أمل "ردع صراع" إقليمي أوسع نطاقا. نشرت الولايات المتحدة مجموعتين من حاملات الطائرات، تضم كل منهما حوالي 7500 فرد، ومدمرتين بصواريخ موجهة، وتسعة أسراب جوية في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر. ونشرت واشنطن أيضا 4000 جندي إضافي في المنطقة، مع 2000 جندي آخرين على أهبة الاستعداد، إضافة إلى حوالي 30 ألف جندي موجود بالفعل في المنطقة.

وخارج نطاق الحرب نفسها، يتزايد العنف في جميع أنحاء المنطقة. وقد تم بالفعل استهداف القوات الأمريكية في الشرق الأوسط 23 مرة على الأقل في العراق وسوريا فيما شنت القوات الأمريكية غارات جوية على منشأتين مرتبطتين بالحرس الثوري الإيراني في سوريا، بينما تعهدت بمزيد من "الانتقام" إذا استمر استهداف الأفراد الأمريكيين.

من شأن مثل هذه الحرب أن تؤدي إلى مستويات جديدة دراماتيكية جراء سياسة الولايات المتحدة وتورطها في المنطقة. يأتي خطر نشوب حرب كبرى في الشرق الأوسط في الوقت الذي تنخرط فيه بعمق في مساعدة أوكرانيا ضد الغزو الروسي ومحاولة ردع الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، في حين تتحمل ديناً وطنيا يصل إلى 33 تريليون دولار ويصل إلى تريليون دولار بالإضافة إلى العجز في الميزانية كل عام في وقت السلم.

وغني عن القول إن فتح جبهة جديدة في الشرق الأوسط مع محاولة تحقيق مصالح واشنطن المعلنة في أوروبا ومنطقة المحيط الهادئ والهندي يهدد بإغراق أمريكا نحو أزمة اقتصادية ستكون كارثية بالنسبة للشرق الأوسط نفسه، إذ ستؤدي إلى زعزعة استقرار المنطقة سياسيا واقتصاديا وعسكريا. ومن شأن الحرب أن تهدد بتمكين بالجهات الفاعلة في جميع أنحاء المنطقة على حساب الاستقرار الحقيقي وبالتالي إن التكاليف البشرية والمادية الباهظة ستعاني منها منطقة الشرق الأوسط لأجيال قادمة.

صراع الاقتصادات

يعد العراق جزء أساسي من تدفق النفط ويمتلك العراق "ثروة نفطية" حقيقية للغاية فالعراق يمتلك أكثر من 147 مليار برميل من احتياطيات النفط– حوالي 9٪ من الإمدادات العالمية – ونسبة عالية جداً من الاحتياطيات إلى الإنتاج الفعلي (4.6 مليون برميل في اليوم في عام 2018) كما أن هناك 125.6 تريليون قدم مكعب من احتياطيات الغاز، والتي يمكن أن تغذي تنميتها الصناعية مع تقليل تكاليف إنتاج النفط.

وفي ضمان التدفق المستقر لصادرات النفط العالمية لتلبية الاحتياجات المتزايدة للاقتصاد العالمي فقد ارتفع تدفق النفط عبر مضيق هرمز من 17.2 مليون برميل يومياً في عام 2014 إلى 20.7 مليون برميل يومياً في عام 2018 - بزيادة قدرها 20%. وارتفعت صادرات الغاز الطبيعي المسال إلى 4.1 تريليون قدم مكعب سنويا. وعملياً، يعتمد كل شريك تجاري رئيسي للولايات المتحدة في آسيا على التدفق المستقر لنفط الخليج ـ وأوروبا مستورد رئيسي أيضاً.

تعتمد الدول النامية في جميع أنحاء العالم على موانئ النفط الخليجية للحفاظ على الأسعار. وحقيقة أن الولايات المتحدة لم تعد مصدراً صافياً لا تعني أن أسعار النفط الأمريكي لن ترتفع على الفور إلى المستويات العالمية لحظة حدوث أزمة في صادرات الخليج.

يشكل "الاستقلال في مجال الطاقة" تناقضاً اقتصادياً وكما هو الحال مع الدول التي تعتمد بشكل مباشر أكثر على نفط الخليج، فإن كل وظيفة وشركة أميركية أصبحت اليوم أكثر اعتماداً على التدفق المستقر لنفط الخليج مما كانت عليه في عام 2000.

كما أن "ثروة العراق النفطية" محدودة من أجل تلبية مطالب البلد وتشير وزارة الطاقة الأميركية إلى أن إجمالي إيرادات العراق النفطية عام 2018 بلغت 91 مليار دولار.

هناك العديد من التقديرات المختلفة للحجم الإجمالي لاقتصاد العراق، لكن هذا الرقم سيمثل حوالي 40% من تقديرات البنك الدولي للناتج المحلي الإجمالي للعراق في عام 2018. والأهم من ذلك، من منظور الاستقرار والأمن العراقي، سيقدم العراق حوالي 2300 دولار فقط نصيب الفرد من الدخل السنوي أو 39% من تقديرات البنك الدولي لإجمالي دخل الفرد البالغ 5878 دولاراً.

هذا المستوى من نصيب الفرد من الثروة النفطية لا يقترب من الثروة النفطية للمواطن العراقي العادي فالغالبية العظمى من العراقيين لا يرون سوى القليل جداً من هذه الأموال، وما يحصلون عليه يميل إلى أن يتخذ شكل إعانات مالية ونفقات حكومية أخرى تأتي بتكلفة حساب النمو الاقتصادي الحقيقي والفوائد.

من غير الواضح أيضا أن الولايات المتحدة ستحتفظ بالوجود والنفوذ ولن تكون لديها القدرة على لعب دور رئيسي في مشاكل العراق على المدى القصير ناهيك عن لعب دور رئيسي في العراق على معالجة قضاياه الهيكلية والطويلة الأجل.

إيران وحاجة الدبلوماسية الأمريكية

إيران من جهتها تعتقد أن الوجود العسكري الأميركي يشكل تهديدا استراتيجي لأمنها القومي، وتعلم بنقاط الضعف في الجانب الأمريكي بالوقت الحالي، خاصة وأن واشنطن لديها أولويات أخرى كما ذكرنا في اوكرانيا وما يجري في غزة وغزة، إضافة الى الانتخابات القادمة.

تدرك إيران أن الولايات المتحدة لا تزال تاحول التوصل إلى اتفاق تسوية معها بشأن سلسلة من القضايا الأمنية. وقد تغلق نافذة الفرصة هذه إذا هزم دونالد ترامب بايدن في تشرين الثاني وعاد إلى الرئاسة.

وتعتقد أيضا أن الولايات المتحدة، كما كانت دائماً في العراق، قادرة على تحمل الضغوط، وحريصة على تجنب التصعيد. وعندما تنتقم واشنطن من أي هجوم على قواتها، فإنها تلاحق الوكلاء المدعومين من طهران في أماكن أخرى، بعيدا عن إيران.

الجانب الإيجابي إن إيران لا تريد إنهاء الدور الدبلوماسي والاقتصادي الأميركي في العراق، لأن ذلك سيضر بمصالحها أيضاً وإن وجود عراق معزول وفاشل ليس في صالح إيران، وان ايران ومن خلال العراق تحاول تجاوز العقوبات وتعزز نفوذها في المنطقة.

السنة والأكراد على خارطة الصراع

يدرك القادة السياسيين في العراق أنهم إذا دفعوا الأميركيين إلى الخروج، فليس من الواضح ما سيكون عليه العراق أمنيا واقتصاديا، وتعتقد الأحزاب الكردية والعربية السنية أنها ستكون التالية في خط النار. بمجرد إجبار شركاء التحالف على الخروج، قد يشعر إقليم كردستان العراق بالضعف. ولم تستهدف الفصائل المسلحة القواعد التي تحتلها الولايات المتحدة في كردستان فحسب، بل يتخوف القادة الأكراد من الاستهداف العسكري كما حصل بوقت سابق.

خطط موائمة

يبدو أن النتيجة النهائية قد تكون خروجاً أميركياً آخر من العراق إما بسبب الضغوط العراقية أو بسبب قرارات رفيعة المستوى اتخذتها الولايات المتحدة بتقليص وجودها في العراق إلى درجة أنها لم تعد لاعباً رئيسياً بل تواجه خطراً حقيقياً للغاية يتمثل في أن الأحداث في العراق سوف تؤدي إلى صدام أكثر خطورة بين الولايات المتحدة وإيران في العراق وكذلك إيران في بقية المنطقة، ناهيك عن أن الولايات المتحدة سوف تواجه تحديات كبرى.

العراق من جانبه لم يعلن عن أي خطط واقعية، كما لم تتناول الولايات المتحدة تقديراتها لاحتياجات العراق أو مستويات المساعدات المطلوبة، ويتضمن المستوى الحالي للتقدم في القوات العراقية قضايا تناولها (المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية) لفترة وجيزة في ميزانه العسكري لعام 2019، لكن التقرير لا يزال لا يعترف بالدور الحاسم للمستشارين الأمريكيين والدعم الجوي الدعم الأرضي من الولايات المتحدة والتحالف.

كما أن التقارير المرتبطة بالسياسة الأمريكية لم تتناول الحاجة إلى إصلاح قوى الأمن في العراق بما يمكنها الردع والدفاع وكذلك ما يتعلق بالأسلحة الثقيلة وعدد الأفراد.

من جانب آخر حذرت تقارير المفتش العام الأمريكي المقدمة إلى الكونجرس بشأن عملية "العزم الصلب" من أن القوات القتالية العراقية لا تزال تعاني من مشاكل نوعية كبيرة، وتحتاج إلى دعم ومشورة خارجية واسعة النطاق، وأنها غير قادرة على القيام بعمليات برية-جوية مشتركة فعالة على أي نطاق جدي.

تناول التقرير الصادر في الفترة من 1 تموز 2019 إلى 25 تشرين الأول 2019 عددا من القضايا الموضعية بما في ذلك التخفيضات في عدد الموظفين الأمريكيين في العراق والتي كان لها تأثير كبير على كل من التدريب العسكري والمستويات المتبقية الصغيرة نسبيا من المساعدات المدنية الأمريكية بالإضافة إلى الحرب الأهلية المخاطر الناجمة عن النفوذ الإيراني من خلال بعض قوات الحشد الشعبي.

غير أن التقرير حذر أيضا من أن العديد من عناصر القوات العراقية لن تكون قادرة على الوقوف بمفردها. وكانت هذه التحذيرات مشابهة جداً لتلك التي أطلقها الخبراء الأمريكيون عندما انسحبت الولايات المتحدة بسرعة في عام 2011، مما خلق فراغاً في السلطة أدى إلى النجاح الأولي لداعش.

خلاصة

مشاكل العراق هيكلية عميقة تضافرت على مدى عقود من الحرب والأزمات السياسية مع عوامل أخرى مثل النمو السكاني المرتفع، والتوسع الحضري، وانهيار الهياكل الاقتصادية التقليدية، والعمالة المفرطة الحادة في الصناعات الحكومية غير المنتجة، وقلة المياه ومشاكل المناخ..

هذه المرحلة جعلت العراق يمر باختبار ما إذا كان قادراً على تحقيق تقدم سياسي وأمني مستقر وبالتالي يتعين على العراق أيضاً أن يضاهي هذه التحديات ببنية أمنية قادرة على خلق عراق قوي ومستقل بالقدر الكافي لتأمين منطقة الخليج والبنية الأوسع للشرق الأوسط. مع ذلك، هناك دروس يتعين على العراق أن يتعلمها من التجارب السابقة:

أولاً: ان يستفيد العراق من عامل التوجه الدولي الذي ينظر الى البلد على المدى الطويل وأن تكون علاقته مرنة وتتكيف مع الظروف، لكن الحكومة العراقية يجب ان تضع لها أهداف استراتيجية كبرى واضحة والتركيز على المشاكل المباشرة مع إنشاء دولة فعالة تتمتع باستقرار طويل الأمد.

ثانياً: يجب أن يظهر العراقيين أن مصالح العالم المتوازنة والمشروعة في العراق يمكن أن تستقر في حال توفير الدعم الأمني والاقتصادي الذي يساعد على التطور والاستقلال الكامل وأن التدخلات الدولية فشلت في إظهار أن وجودها وأفعالها يخدم مصالح العراق مستقبلاً.

ثالثاً: دعم العراق في تحقيق الأهداف التي يمكنه تحقيقها بوضوح والتي تعالج أسوأ المشاكل والاهتمامات التي يشعر بها البلد.

رابعاً: استخدام جهود وكالات التنمية الدولية لتلبية احتياجات البلاد، فقد كانت التجارب السابقة لهذه الوكالات لم تثبت كفاءة كافية. سيتعين تكييف التركيز لتحقيق الاستقرار الداخلي، والتصدي بأمانة لتحديات الفساد ومشاكل التنمية.

خامساً: التركيز على جعل قوات الأمن في مصاف القوى الكبرى فان القوات الامنية العراقية لديها تجربة عميقة وخبرات عسكرية لا يستهان بها.

اضف تعليق