q
من المؤسف نحن غير مجهزين لإدارة التواصل مع الفاعلين الدينيين، ومن هنا نؤكد على أهمية الدبلوماسية في بناء الهويات بسياق العوامل الدينية، واليوم تدرس الدول أفضل السبل لتعزيز مصالحها من خلال النظر إلى الدبلوماسية الدينية باعتبارها حلا طويل الأمد فإن التأثير التاريخي والإمكانات المتنامية للمنظمات الدينية...

ليس من المعتاد أن يتحدث وزراء خارجية لدول علمانية في قضايا دينية وإذا فعلوا، فذلك لسبب واضح: إن العديد من الأزمات الدولية الحالية تظل غير مفهومة وغير قابلة للحل عندما لا تؤخذ الحقيقة الدينية وعنصر الإيمان في الاعتبار. 

يعد تحليل التطورات أداة مهمة لفهم العالم، والاهتمام بدور الدين هو بسبب مجموعة واسعة من المشاكل منها التوازنات داخل الدول، والعلاقات الثنائية، والقضايا العابرة للحدود، وقضايا الأمن، والمعايير الدولية، وتحديات التنمية.

لذلك، تأتي هذه المقالة محاولة لتسليط الضوء على دور الدبلوماسية الدينية، لأنها تؤثر على السلوك الفردي والجماعي، بل ذلك جزء من رسالتنا نحن البشر في حق العيش المشترك والاحترام المتبادل، وايجاد الطرق التي تساعدنا على ذلك.

في تجربة العراق ما بعد الصراع –القاعدة،الطائفية، داعش- أجريت الكثير من الحوارات، والزيارات الرسمية وغير الرسمية، والمؤتمرات، تطلعاً إلى دور الأديان في بناء السلام والمصالحة وإعادة بناء النسيج المجتمعي، لكن إلى الآن لم يتحقق الهدف بشكل كاف، وفي هذا السياق، فإن السؤال الذي عادة ما يواجه جدل واسع هو ما إذا كان القائمون على هذه النشاطات من مؤسسات وأشخاص هم جزءا من المشكلة أم جزءا من الحل، وما هي وظيفتهم كعامل متغير هل هم مستقلون، أم متدخلون، أم تابعون.

في ظل ظهور نظام اقتصادي عالمي يربطنا بآخرين في أماكن أخرى وإن القضايا والاشتباكات السياسية والعسكرية لا تزال خطيرة خصوصا مع وجود رعب نووي وكيميائي وبيولوجي واستعمار واحتلال، وبالتالي تواجه المجتمعات مآسي توصلها حد الانقراض أو يقع عليها الظلم وانعدام الأمن والصحة والجو، وعلى اعتبار الدين عنصرا فاعلا عالميا يأتي دوره مع دور السياسة الخارجية لحماية تلك المجتمعات خصوصا في أعقاب الأزمات الكبيرة التي تؤدي إلى طمس هويتها، وهذا ما انتبهت له بعض المنظمات والتي وفرت التدريب لمسؤولي حقوق الإنسان واتخاذ التدابير التي تعزز الاستقرار بما يخلق بيئة آمنة لتبادل وجهات النظر والتصدي للأزمات.

في ظل تلك التحديات هناك فجوات معرفية وعملية بين من هم لديهم خبرة في فن إدارة الدولة لكنهم يعترفون غالبا بأنهم ليسوا على علم تام في عمل المؤسسة الدينية ودورها الروحي والأخلاقي، في حين أن القليل من المتدينين يقرون ليس لديهم الخبرة في العمل الدبلوماسي، وما بينهما تظهر وجهات نظر متباينة حول طبيعة العلاقة بين الدين -أفكار ومؤسسات وأشخاص- والصراعات، خاصة فيما يتعلق بالدور السببي لفريقين، الأول يميل إلى القول بأن الدين ليس سبب الصراع والعنف؛ بل له دور ايجابي وتجارب ساهمت عبر التاريخ في التصدي للأزمات، وفريق آخر يعتقد بأن الدين يسبب الصراع، أو على الأقل يؤدي إلى تفاقمه انطلاقا من أمثلة عديدة، منها الخطاب الديني خلال الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، والنمو الانتخابي لليمين اليهودي، وموقف الكنيسة الكاثوليكية في المراحل الأولى من الصراع بين روسيا وأوكرانيا، والثورة الإسلامية في إيران، ودور المؤسسة الدينية في المملكة العربية السعودية، والاخوان المسلمين، وهذه كلها شواهد توضح بعض الاحتكاكات.

ولعل التحليل الأكثر شهرة، وهو كتاب صامويل هنتنغتون "صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي"، يشير إلى أن الصراعات المستقبلية سوف تدور بين الحضارات على أساس الدين، ومساواة الدين بالحضارة، وبالتالي المصدر الرئيسي للصراع المستوطن.

هذه الأمثلة تحمل قدرا معينا من الحقيقة، لكن لو نظرنا عن قرب وعمق إلى أديان العالم تشير إلى أن ريشة هؤلاء المنظرين فشلت في التعامل مع بعض الاختلافات المهمة، فالمسيحية لا تقتصر على الغرب، والإسلام لا يقتصر على الشرق الأوسط، ولا تقتصر الكونفوشيوسية والبوذية على منطقة واحدة...

على طول التاريخ وما يرتبط به من مصالح يبدو أن الإيمان والدبلوماسية كانا صديقين روحيين طوال الوقت، بل هناك كتابات ومحاولات كما ذكرناها في مطلع المقال تبحث عن روابط ما بعد الحداثة واستكشاف الجوانب التجريبية ومعايير تفاعل هذا المزيج.

تشير سلالات الفكر المتزامنة إلى أن عودة ظهور أهمية الدين في السياسة تنبع من الاغتراب الناجم عن جوانب الحياة الحديثة مثل الرأسمالية والبيروقراطية بما في ذلك الماركسية، عدم كفايتها بسبب تركيزها على المادة وان هذه النظريات تخطئ لأنها لا تترك مجالا للإيمان ولكاريزما الدين التي تبذل قصارى جهدها، لخلق عالم يمكن قيادة أزماته.

يذكرنا جيمس دير ديريان رئيس قسم دراسات الأمن الدولي ومدير مركز دراسات الأمن الدولي بجامعة سيدني، كانت الدبلوماسية موجودة طوال الوقت؛ كان الدبلوماسيون الأوائل بمثابة وسطاء بين الملوك، ويحمل المؤرخ الأمريكي والتر ماكدوغال القصة إلى أبعد من ذلك من خلال تتبع التأثير المستمر خلال فترة "ويستفاليا" اسم عام أطلق على معاهدتي بين مدينتي أوسنابروك "مدينة السلام" ومونستر عام 1648م بعد حرب دامت ثلاثون عاما في الإمبراطورية الرومانية، وكذلك حرب الثمانين عاما بين أسبانيا ودولة المقاطعات، هولندا حاليا.

ينبع تأثير الدين اليوم من التقاليد والعقيدة التي تنعكس في حياة الأديان خصوصا تلك التي لديها تمثيل دبلوماسي، ولعب الدين أدوارا مختلفة في أوقات مختلفة وأماكن مختلفة من خلال نصوص تظهر في العلاقات المحلية أو الدولية (قضايا حقوق الإنسان) أو (دستور إسلامي). عودة الدين إلى الظهور في السياسة الخارجية واضحة ليس فقط في الشرق الأوسط، بل وأيضا في الصراعات العرقية والدينية في البوسنة وكوسوفو، وفي ظهور العنصر السلافي/ الديني في السياسة الخارجية الروسية.

بعد أحداث 11 سبتمبر وانتشار الأفكار المتطرفة والارهابية، وجد الدين نفسه في قلب بعض أعظم الألغاز الدبلوماسية، ولذلك زُجت أو تدخلت المنظمات والقادة الدينيين للمساعدة في إشراك المجتمعات بشكل أفضل للتصدي للأزمات وتقديم المساعدات الإنسانية، وهذا تجاوز مجرد تسهيل الحوار بين الأديان، بل شمل إشراك الزعماء الدينيين في جهود حفظ وبناء السلام.

استكشاف المصالح

إذا كان العصر القادم هو عصر إصلاح وإعادة صياغة القيم، فلا بد وأن يتعامل الإعلام والنظام الدولي مع ذلك، بمعنى نحن أمام الحاجة الى دبلوماسية وقائية تضمن تجنب الصراعات والكوارث قبل وصولها.

إن التعلم والتواصل الفعال مع الأديان يعطي منظورا مقارنا يكاد يكون مفقود تماما في العديد من الأماكن اليوم، بمعنى إن فهم الأديان الأخرى والتواصل معها يساعد بشكل كبير في تجنب أو التقليل من شيطنة الآخر، فهناك مشتركات هي أساس للتعايش ونقطة انطلاق ممتازة لاستكشاف أسس المصالح المشتركة وغالبا ما يكون الدين هو جوهر الهوية الوطنية لذا؛ يصلح كوسيلة للتواصل مع العالم، ووجود مكانه بين أروقة السياسة الخارجية هو عنصر من عناصر المشاركة الدولية ولا يمكن تجاهله، لذلك فإن أفضل طريقة للحفاظ على نظام عالمي ودود، أن تكون الدبلوماسية منظمة ومدعومة بشكل جيد من خلال عدة مسارات:

1- الحد من محركات الصراع القائمة على الدين.

2- زيادة قدرة ودور رجال الدين وغيرهم وصانعي السلام.

3- زيادة وعي صانعي السياسات بأهمية مساهمات الجهات الدينية الفاعلة.

4- الاعتراف بمسؤولية الصراع والظلم وإطلاق مبادرات مستقلة والعمل التعاوني للحد من التهديد وصنع السلام بين أطراف النزاع.

5- تعزيز الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والحرية الدينية، والتحرر السياسي في فترة ما بعد الأزمات، والترابط الاقتصادي، وتأثير القانون الدولي الانساني.

6- تعزيز التنمية الاقتصادية العادلة والمستدامة البناءة، من أجل القضاء على الفقر.

7- العمل مع القوى الناشئة في النظام الدولي، وتعزيز الجهود للتعاون والحد من التهديدات.

8- تشجيع الدبلوماسية الشعبية لصنع السلام بمشاركة الجمعيات التطوعية.

نظرا لأهمية الدين واستخدامه كمصدر للصراع أو بناء السلام، فمن المؤسف نحن غير مجهزين لإدارة القضايا الدينية والتواصل مع الفاعلين الدينيين، ومن هنا نؤكد على أهمية الدبلوماسية في استثمار العلاقات بسياق العوامل الدينية، واليوم تدرس الدول أفضل السبل لتعزيز مصالحها من خلال النظر إلى الدبلوماسية الدينية باعتبارها حلا طويل الأمد، فإن التأثير التاريخي والإمكانات المتنامية للمنظمات الدينية توفر نقطة انطلاق واضحة باستطاعتها المشاركة في بناء السلام وتخفيف الصراعات.

يتعين العمل على تطوير إطار عمل متعدد الأوجه يشتمل على "المسار الثاني" الدبلوماسية الدينية، والعمل على أرض الواقع، والتقدم بمبادرات تعطي الأولوية لقيم الأديان المعتدلة والأكثر تسامحا، كما يتعين على الدبلوماسيين والجهات الدينية الفاعلة يضاف لهما دور النخبة الإعلامية تقاسم الجهود المتراكمة.

* كاتب صحفي عراقي

اضف تعليق