بتنا نرضى بأن يتم تغيير وتجديد وتلميع كل الأرصفة، ولم تعد بنا حاجة إلى شوارع تضيق بها العجلات وتضج بها الزحمة والحفر، ولا أحد يفكر بإصلاحها وتوسيعها. كما رضينا بطلاء أعمدة الكهرباء المنطفئة، والجسور العاجزة، وخزانات المياه الفارغة.. ولم تعد بنا الحاجة إلى بناء منظومة كهربائية أو مائية متطورة على مدى عقدين من الزمن...

احيانا.. نرضى بالقليل، لأن الكثير ذهب ولن يعود.. فكيف بالكثير غذا لم يكن حتى القليل منه موجودا؟ عندئذ.. نقف متأملين ومتألمين، فنحن أمام حقائق اضمحلت وضاعت وأُفلت، ولم يعد أمامنا سوى الحلم والذكرى، التي باتت هي الأخرى منطفئة.

كان عندنا صدق، مثلما كانت عندنا حقائق، الآن.. ليس الصدق صدقًا ولا الحقيقة تتمتع بنصاعتها، أمام هذا الكم من الرذائل والمفاسد والجهالة والأكاذيب.. من هنا بتنا:

نتوسل المدرسة الطينية، فليس لدينا المال الذي نمنحه لمدرسة أهلية أنموذجية، ولم نحفل باستمرار أبنائنا بالدراسة الجامعيَّة الرسمية، لأن الجامعات الأهلية استقطبت الأغنياء، لكي يتعلموا ويأخذوا الشهادات العليا، ويتم تعيينهم في أعلى المراكز.. وتركت لنا نحن الفقراء جامعات لا تجمع على كلمة علمية ولا معرفية ولا حتى وطنية.

تركنا اللجوء إلى المشافي والمستوصفات واطبائهما ومختبراتهما؛ وتوجهنا إلى المشافي الأهلية والعيادات الطبية الخاصة والمختبرات الأهلية والصيدليات التجارية.. ولم نعد نفكر بتصنيع (شخاطة) ولا زراعة (فجلة)، لأن تجارنا الأشاوس يوفرون لنا من الخارج كل شيء! ولا نفكر بإنشاء مصنع واحد، بل نكتفي ببناء المزيد من (المولات).

لم نعد نملك طحينًا نقيا نحوله إلى رغيف ساخن؛ وإنما بات لنا اختيار الخبز الفرنسي والجبنة السويسرية والمعجنات من كل صنف ومن كل لون. كذلك لم نعد نلتزم بالقوانين والتعليمات، وصرنا نلجأ للعشيرة والطائفة وأصحاب المذهب الواحد. لم تعد بنا الحاجة إلى المتنزهات والحدائق العامة، فهناك من يعد لنا احتفالات ومهرجانات عطرية كبرى. لم يعد لدينا متسول حر في ممارسة (المهنة)؛ فهناك شركات معنية بهذا الأمر!.

لم تعد لنا القدرة على تنظيف بيوتنا وأزقتنا وشوارعنا بدعوى أن العامل العراقي يمتاز بالكسل، لذلك لجأنا إلى شركات أجنبية تنظف وتجمع فضلاتنا نيابة عنا! لم تعد النار توقد في مطابخ بيوتنا، لأن خدمات (الدليفري) توفر لنا الطعام والشراب وعلى حسب الشهية والترف والتباهي.

امور كثيرة تغيرت في حالنا وأحوالنا.. لا عن قناعة بها ولا حاجة بنا إليها، ولا ضرورة تلزمنا بوجودها؛ وإنما تغيرت الأمور، وباتت تعبّر عن أهواء بلد، بات أهله كسالى، وكثرة من سياسييه وتجاره يوظفون أموالهم خدمة لهذه التوجهات، التي لا قدرة للفقراء على التعامل أو التفاعل معها؛ وإنما هي امتياز الفئة التي باتت هي من تزداد غنى وأبهة، بينما عامة الناس (يرفلون) بأقل من الحد الأدنى للعيش.

لذلك بتنا نرضى بأن يتم تغيير وتجديد وتلميع كل الأرصفة، ولم تعد بنا حاجة إلى شوارع تضيق بها العجلات وتضج بها الزحمة والحفر، ولا أحد يفكر بإصلاحها وتوسيعها. كما رضينا بطلاء أعمدة الكهرباء المنطفئة، والجسور العاجزة، وخزانات المياه الفارغة.. ولم تعد بنا الحاجة إلى بناء منظومة كهربائية أو مائية متطورة على مدى عقدين من الزمن..

حال.. لا حال ولاقوة لنا على تجاوزه، ذلك أن الواقع المر، بات يلزمنا أن نقبل بحصة تموينية يذلوننا حتى نتسلم القليل منها، وحصة دوائية لا توفر لشيخوخة أمراضنا من به حاجة اليها..

من هذه الصور اليومية التي نعيشها؛ استطعنا أن ندجن أنفسنا على عملة نقدية، باتت تفقد قيمتها في السوق يوما بعد يوم، حتى بدأ الواحد منا لا يأمن على قوت غده في حال وفر له قوت عياله اليومي!

أهذه أحوال بلد، خزينه من النفط يمكن أن يغذي ويعمّر عدة بلدان؟ أهذه عيشة بلد، يقال إنه مهد الحضارات والقوانين والسعادات وأرض السواد..؟ أهذه إرادة شعب ارتضى أن يقبل بأقل من القليل حتى يتنفس، أم أن السكوت عن الحق بات سمة فينا جميعا؟ نعم.. بتنا نكتفي بأننا نتنفس مع اننا ندرك بأن الهواء الذي نتنفسه ملوث.. ولكن ربما يصبح مثل هذا الهواء الملوث عصيا علينا ذات صباح!

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق