تصبح المواطنة ضربٌ من الحنين إلى نص شعري غير أصيل، شكل من أشكال الاغتراب اللغوي أو النرجسية الثقافية اللاماهوية، هي غير ضرورية في أفقها الهووي لكنها اضطرارية وأحيانا طوعية في تجليها المدني. لا علاقة نرجسية بين الشعر والوطنية هي وجود مخاتل يَتّخفى عن أسئلة الوعي العميق بل لا...

[أنا إنسان بالضرورة وفرنسي عن طريق الصدفة] شارل لوي دي سكوندا المعروف باسم مونتيسكيو

تصبح المواطنة ضربٌ من الحنين إلى نص شعري غير أصيل، شكل من أشكال الاغتراب اللغوي أو النرجسية الثقافية اللاماهوية، هي غير ضرورية في أفقها الهووي لكنها اضطرارية وأحيانا طوعية في تجليها المدني.

لا علاقة نرجسية بين الشعر والوطنية هي وجود مخاتل يَتّخفى عن أسئلة الوعي العميق بل لا يوجد ما يمكن أن نسميه كوجيتو المواطنة لا يوجد ما يدعى ميتافيزيقا المواطنة لأن كل سؤال لاهوتي حول المواطنة مؤجل، كون هذه الأخيرة لا تنتمي إلى حقل الدين ليست ضمن لاهوت إيجابي أو سلبي وكل تفسير ماورائي لها لا يُعول عليه موضوعاتيا، هو ضرب من المستحيل والعبث النصاني.

لأن مفهوم الإنسانية الكونية هو أكثر العوائق التي تستبد بهذا المفهوم كإطار للحياة المدنية والجماعية. المواطن ينبثق من الفردية ككيان سياسي وحقوقي ليس إلا. هي نمط من الرق الحقوقي الجديد تحت رعاية الدولة بل هي تطور مقلوب وسلبي لمفهوم الرعية. رغم الكثافة القيمية والأخلاقية التي تتحلى بها.

في الدولة الشمولية والقومية الحديثة تَمَّ إفراغ هذا المفهوم من محتواه وقيمه الفلسفية الكونية وتحديدا من جينيالوجيا التصور الأغريقي الأصيل له، إلى درجة احتوائه إثنيا ونرجسيا وطائفيا ومناطقيا على غرار الموطن الإثني /المواطن النرجسي /المواطن الطائفي والجهوي، هناك طفرة ثقافية أخلت بهذا المبدأ مع انحسار الدولة الأمة ودمرته لصالح النزعات البرغماتية والأداتية والدولتية، وأحيانا كان طعاما ميتافيزيقيا مسموما قدمته الدولة العميقة لرعاياها المنبوذين تحت وقع إغراقهم سياسيا في مستنقع شموليتها وتوليتاريتها.

المواطن بمفهومه المابعد الحديث هو عبدٌ تنازل طوعا وأحيانا قهرًا عن حقوقه الطبيعية لصالح جهاز الدولة. تم التلاعب والتجديف في هذا المصطلح الرخو واستقطابه اجتماعيا، لم يعد كائنا مفاهيميا أخلاقيا روسوويا بعدما تم العبث به نخبويا.

لا يوجد وطن ولا مواطنة حقيقة في عالم "الهُمّ" They هذه الإستعارة الهيدغيرية حيث هاجس اللاوطن و اللابيت، التهديد الذي يجرؤ على ارباك الدزاين يأتي من الخارج من الأشخاص الذين يشكلون الفضاء العمومي. ما يهدد أصالة الكينونة هو الشعب. السقوط داخل الآخر أو تراجع الذات عن استحقاقها الأصيل تحت تأثير [الهُمّ].وهو سبب القلق المتعاظم كما يدلي بذلك آلبرت هانس في تفكيكه الخلفية اللاهوتية لوجودية هيدغر، هناك خطر ميتافيزيقي ما يحيق بالكينونة سببه القطيع. "الهُمّ" ضمير زائف يهدد الأنا العميق في الهبوط إلى الزيف. هو نداء مُشبّع بالشعبوية والنمطية الساذجة المُوجهة للإخلال بانطولوجيا أصالة الذات.

الكائن الهيدغري هو موجود بلا مدينة بلا وطن معروف هو كائن بدون حدود بدون تاريخ محدد إلا ما يصنعه لذاته وبذاته من تواريخ وأحداث خارج "الهُمّ" الذين يحتاج إليهم، هذا الخطاب الهيدغري الذي أسس لِما بعد التروستندالية الكانطية ومابعد الوعي الهسرلي ومابعد الحداثة التي بشر بها فريديرك نيتشه جعل هيدغر ذاته يغرق في نزعات جديدة، ربما أنهك تصوراته الكونية، بروز براديغم جديد يُدعى "اللغة" أو بيت الوجود و تموقع جديد [للدزاين Dasein] لذا كانت النزعات المنهجية والأنساق اللغوية التي تقف على أرضية سيميائية بمثابة تهديد للفلسفة وعامل جديد لانتزاع الخطاب البرهاني والحجاجي من الفلسفة واستبداله بآخر لغوي داخل فضاء وحقل ما بعد تروسونتوندالي للغة أو ما يسميه ي.هابرماس Jürgen Habermas المنعرج اللغوي الذي ضغط على الأطاريح الوجودية وسلب هيدغر كينونته ليعترف أن اللغة هي البيت الأخير للفلسفة وسكن للكينونة.

كان خطاب هسرل الفلسفي إعادة إحياء الفلسفة من خلال تفكيك العلاقة بين الذات وموضوعاتها. يجب الكف عن فهم علاقة الإنسان بالوجود على أنها علاقة إجرائية كما كان يفكر إدغار موران Edgar Morin بل تحويل رؤيوي حول تفسير العلاقة القصدية و الإدراكية بين الذوات والماهيات والوعي. بمعنى يتحول المشروع الفلسفي إلى دقة وصرامة في تأهيل العقل الإنساني لاكتشاف ذاته من جديد من خلال فلسفة الماهيات.

وهو الجوهر الذي تلقفه هيدغر من هوسرل. البحث عن ماهية خالصة ذات محضة تتشابك مع موضوعاتها تحت أفق رقابة عقلانية أساسها القصدية والوعي المرافق للدزاين. أي الإنسان ككائن له حضور تاريخي لغوي ثقافي يعرف مايفعل ويدرك ذاته من خلال الفينومنولوجيا مستعينا باللغة كبيته الأخير لاحتضان كينونته. المعنى هو الخلاصة المترتبة لتشابك أصيل واعي بين الذات والعالم الخارجي.

وهو ما تجرأ عن الاستثمار فيه هيدغر بنحته الكينونة نحتا فنوميتنولوجيا. فكرة الماهية التي شهدت تراخيا عقلانيا عند اليونان وركودا في فلسفة الأنوار عبث بها الوجوديون كثيرا وتم تأخيرها لصالح ontologie أنطولوجيا الوجود [أناموجود إذن يجب أن أختار الماهية التي أكون عليها]، هيسرل جعل الوعي هو الماكنة التي تحدد الفضاء الماهوي للإنسان لكن بلغة الشعور الانتقائي والاختزالي.

الهايدغرية كتيار وأنموذج فلسفي شهدت تحولا مفاهيميا خاصة بعد حركة التأثر السياسي بالمناخ القومي الألماني زمن الفوهرر والرايخ الثالث Deutsches Reich. كان لزاما على الكينونة أن تتشكل من جديد وفق البعد التاريخي والزمن الجديد أو تأقلم الفكر الألماني مع التطلع الروحي بما يتفق والأزمنة الحديثة ولو على المستوى السياسي. بالمقابل على مستوى الزمن الفلسفي تحول خطاب هيدغر من سؤال الوعي إلى سؤال اللغة أي من براديغم الوعي إلى براديغم اللغة كما يرى الباحث التونسي فتحي المسكيني، وهو ما يطرح تساؤلات منهجية فيما إذا كان هذا الإنقلاب الابيستيمي محاولة لفك الارتباط مع الفيمنومنولوجيا بتوفير الجهد الفلسفي نحو تأهيل زمن الكينونة وفق توجهات هرميونطيقا جديدة تتجاوز الزمن التأويلي للقداسي.

هل أصبح هيدغر هيرميونطيقيا ينشد الخطاب اللغوي؟ خاصة بعد محاضراته حول الفن والشعر والدور الذي تقوم به اللغة في إعادة تشكيل الموجود الكينوني من حالة اللاوجود إلى حالة الاكتمال والقيمومة و التجلي الكينوني في أرقى وأبهى تجلياته.

هيدغر ليس المؤمن الوجودي الأخير الذي يرى بخلاص المسيح. بعدما استنفذ كل مهماته الفينومنيولوجية من تحويل النظر إلى فضاءات الكينونة. زمن الدزاين انتهى مع استحالة إضرام النار في أي أفق ميتافيزيقي. كل الإنجازات النقدية والمرامي الثقافية لتقويض النزعات التقنوية والعلموية التي تنشد خلاصا ميتافيزيقيا لم تعد ممكنة في عالم يتخلى عن إنسانيته ويتجه إلى التدمير الذاتي من خلال التقنية. الموجود الإنساني لم يرقى بعد إلى مرحلة الكينوينة أو الدزاين فهو لم يتزحزح بعد من المربع الاول كونه "كائن" فقط دون قيمومة او استمرارية داخل التاريخ.

صناعة المواطن العابر للقارات أو الكوني أو البولتيقي بمعنى الكوسموس المنفتح على قيم عالمية مؤنسنة وروحانيات تتجاوز الأفق الشعائري. مواطن يمارس إيمانه دون طقوس. مجرد من بُعدِ الاعتراف العقدي ومنسجما مع قناعاته الذاتية والعقلانية لم يعد ممكنا أبدًا في عصر المابعد تقنية والمابعد ديمقراطية ومابعد الحداثة. إنه عالم يعود القهقرى بإعادة تشكيل ذاته ميتافيزيقيا نحو تدبير ذاته بذاته نحت وطأة سوء المآلات وسوداوية النهايات بعد استبداد ميتافيزيقا التقنية. كانت مداخلة هيدغر سنة 1966 وتصريحه الصادم للدوائر العلموية واللادينية واللائكية "وحده إله يمكن أن ينقذنا".[1]

حنة آرندت هي الوجودية السخية مفاهيميا. فقاموسها تجاوز بكثير المفردات الفينومنولوجية الشارحة لبراديغمات وجودية. لم تنجح في انتشال الإخفاق الهيدغري الذي راهن على التملص من الظواهرية لبناء كينونة جديدة تتحدى الأقطاب الفينومينولوجية لطالما كان ايدموند هسرل Edmund Husserl يصف تلميذه هيدغر بالذكي والمفكر العميق لكنه كان يحذر من خطر تقويض مقولات الفينومينولجيا. التي أراد الدزاين ابتلاعها. حنة انتقلت إلى الضفة الأخرى. تحرير جريء للوجودية بقراءة الحرية قراءة سياسية. أولا التحرر سياسيا وانطولوجيا من سلطة الدزاين. تخطي التعاطي مع الحرية كأطروحة ميتافيزيقية أرقت العقل الفلسفي قديمه وحديثه، بجعلها إشكالية فضاء عمومي. الحرية ليست شيئأ في ذاته أو أقنوما كانطيا مجردا يعيش عزلة من النومين الجبري Ding an sich Les choses en Soi (Nouménes) الأولوية هي تحرير الإثمولوجي للحرية من حقلها الدلالي الميتافيزيقي الضائع. إلى تبنيها وفق كينونة جديدة وقيمومة مستمرة بالمعنى الهيدغري.

الحرية الميتافيزيقية تشبه أسطورة المدينة الذهبية العائمة أطلاتتيس التي ضاعت في متاهات التأويل الخرافي. والحرية بمدلولها الثقافي يجب أن تعود إلى المعيش إلى نزعة قصدانية، نتقصدها ونمارسها يوميا وليس إلى شعار لاهوتي تقليدي عبر تنشيط حقل جماعي فعلي خوفا من مغبة السقوط في القناعات التوليتارية والشوفينية والشموليات التي هددت الحرية ككينونة وفضاء إنساني.

غير أن المخاطرة هذه تنقل التحرر من المستوى المفاهيمي المحض إلى الأنسنة بمعنى أكثر رمزية. راهنت حنة على التفكير انطلاقا من الحرية. وليس التفكير فيها كتصور ونظام معرفي وميتافيزيقي. فلسفة الفعل Action تجعل مشروع حنة ارندت شبكة من التصورات السياسية الجديدة التي تقوم على حرية المبادرة والاختيار و الإنعتاق من الاستبداد والشمولية التي تعيد إنتاج ثقافة الشر. الإنعطافة الفكرية لحنة تشبه تمردا ناعما على أفكار أستاذها هيدغر خاصة بعد جملة أزمات أنطولوجية وثقافية وسياسية عَقّدت المشهد الفلسفي الألماني قبل وبعد الحرب ع الثانية.

مشروع حنة هو تقويض لأفكار وقناعات جريئة تواطئت مع الشمولية. جرأة حنة أنها استشعرت خطورة حقل السياسة خاصة بعد عصر الشوفينيات القاتلة وتجاوزت الحقول الثلاثة أو البراديغمات الثلاثة بتوصيف المسكيني قارئا رورتي وهابرماس وهيدغر وهي الكينونة والوعي واللغة [2] لتعيد تنشيط فلسفة الحركة والنضال خرج الأنساق المغلقة والنظرية.

التفكير بعد هيدغر هو إعادة قراءة تأويلية وحقبة عقلانية جديدة تؤرخ ثقافيا لمابعد الحداثة والتي كان فيها التنكر لنصوص هيدغر اتجه اتجاهين قراءة سالبة والثانية موجبة موجبة يرى المسكيني "غير أنّ الطريف هو أنهم لم يفهموا (( التفكير بعد هيدغر)) بوصفه تنكّرا مدرسياًّ لنصوصه أو دحضاً لأطروحاته (( بواسطة التحليل المنطقي للغة ))... بل هم قد حرصوا، بطرق مختلفة، على الإنصات الداخلي لهيدغر بوصفه جزءاً لايتجزأ من منعرج لغوي معاصر".[3]

ربما تكون حنة آرندت قد أحجمت عن إثارة أي لغط أو سخط حول الفلسفة الكبرى لهيدغر فهذا الأخير لا يقل خطورة وإغراءًا من فلسفة مواطنه نيتشه.هيدغر أسس لزمن فلسفي جديد من خلال كتابه "الزمن والكينونة" Zeit und Sein مثلما فعل ليفيناس وإمانويل فاي بالقدر ما لمع نجم هيدغر فلسفيا فقد عاش إخفاقا سياسيا إلى درجة اللعنة، وهو جحيم ميتافيزيقي لم يكن الخلاص الآمن للدزاين. هيدغر الأول غير هيدغر الثاني هناك قطيعة ميتافيزيقية بينهما إلى درجة الاستنجاد بالأقانيم اللاهوتية. البحث عن إيمان صوفي حر كان هم هيدغر بعد تعرضه لإنتكاسة ثقافية استثمر فيها التيار الفرنسي والفلاسفة الجدد لتقويض ماتبقى من العلامات الألمانية في الفلسفة لتغذية صراع قديم جدا مُعَمّد بالتاريخ والدين والفلسفة والعلمانية.

* محمد بصري باحث ومتخصص في التربية من الجزائر

.....................................
هوامـــــــش
1- فتحي المسكيني التفكير بعد هيدغر أو كيف الخروج من العصر التأويلي للعقل ؟ جداول للنشر والتوزيع طبعة 1 ص 104
2- أنظر فتحي المسكيني التفكير بعد هيدغر ص.124
3- نفس المرجع ص 108.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق