بتفاؤل حذر يتصاعد لدى جمهور واسع تفاؤل كبير، تراقب أوساط عديدة في الداخل العراقي، مجريات تشكيل الحكومة وتغيير المواقع القيادية في الهيئات والإدارات والمؤسسات المدنية والأمنية، ومثلما كان يحصل في لبنان سابقا وراهنا، وهو المثال الأقرب للعراق، صار اسناد المناصب مؤشرا على توجهات الحكومة وميولها وفهمها للعبة التوازنات الداخلية والخارجية...

بتفاؤل حذر يتصاعد لدى جمهور واسع تفاؤل كبير، تراقب أوساط عديدة في الداخل العراقي، مجريات تشكيل الحكومة وتغيير المواقع القيادية في الهيئات والإدارات والمؤسسات المدنية والأمنية، ومثلما كان يحصل في لبنان سابقا وراهنا، وهو المثال الأقرب للعراق، صار اسناد المناصب مؤشرا على توجهات الحكومة وميولها وفهمها للعبة التوازنات الداخلية والخارجية.

فالتوجهــات الأيديولوجيــة للأفــراد والمواقــع الإداريــة والحزبيــة التــي شــغلوها ســابقا، لا تكشــف عــن هويــة أفــراد الطاقــم الحكومي ونمــط تفكيره ورؤيته فحســب بــل تفصح عن الاتجاهــات التي ستســمي هويــة الحكومة، إن كانت محســوبة على طــرف معين أو ذات توجه محــدد، صحيح أن رئيــس الحكومــة يحرص علــى بنــاء قاعدة سياســية لحكومتــه، تضمن لها الدعــم البرلماني والقبول السياســي.

لكن من الصحيح أيضا أن يقــال إن اختيار الأفراد لبعــض المواقــع والمناصب فيه رســائل داخلية وخارجيــة موحيــة لا ترتبــط بمقولــة الكفاءة والنزاهة فحســب، بل بمقولات أخرى كالتوجه اليميني أو اليساري، التشدد أو الاعتدال، الميل إلى هذا المحور الإقليمي والدولي أو ذاك، لهــذا تراقــب الســفارات العاملة فــي العراق، حركة التعيينات وإسناد المناصب، كما تراقبها الأوســاط الحزبيــة والسياســية، وتؤجل إبداء النظــر فيهــا تربصــا بلحظة مناســبة حســب مصالحها واهوائها.

فــي عام 2018 صــدرت مزحة ثقيلــة من وزير الخارجية الايراني السابق محمد جواد ظريف -وهــو الدبلوماســي المحنــك المعتــدل - ارتدت بسرعة على معادلة الحكم في العراق، فقد كان الصراع الأميركي الايراني يومها على أشــده، وكان تسجيل النقاط بين إيران واميركا يجري في طول وعرض مساحات الصراع هذه وكأنها لعبة كرة قدم حاسمة، لا سيما مناطق التقاطع شــديدة الســخونة والتأثيــر، كالعــراق ولبنان وســوريا وافغانســتان واليمــن، يومها تشــكلت حكومة في بغداد، وجرى ترتيب الســلطات بما أثلــج قلب طهــران واغضب واشــنطن، حينها أطلــق ظريــف مزحتــه، واصفــا ما جــرى في العراق، بأنه فوز لطهران بثلاثة أهداف مقابل لا شيء لأميركا، فقد نجحت طهران وحلفاؤها فــي الإتيــان برئيــس للجمهوريــة والبرلمــان والحكومــة، وكلهــم يحظــون برضــا طهران، ولــم يكونوا علــى قائمة الترشــيحات التي كان يسعى إليها المبعوث الأميركي إلى العراق بريت ماكغورك.

بعد تلــك المباراة الســاخنة، اشــتعلت النيران فــي العــراق والمنطقة بســبب هذه الحســابات غيــر الواقعيــة، وانتهــت الامــور بمعــادلات سياســية داخليــة وخارجية قد تكــون جديدة، فقد شــهد العــراق احتجاجــات عارمة انتجت تصنيفات سياســية للتيارات الداخلية، واغتيل رجــل ايران القــوي قاســم ســليماني صاحب النفــوذ والتأثيــر في محور المقاومة، وتشــكلت حكومــة ارتاحت لهــا الأوســاط المناوئة لمحور طهــران، ودخلــت المنطقة في مرحلــة جديدة زادت فيهــا وتيرة التطبيع مــع الدولة العبرية، وبانــت هشاشــة دول أكثــر مــن ذي قبــل فــي مقابــل صعود أخرى، وهــذه معطيات لا بد أخذهــا بالحســبان، فالعالم يشــهد متغيرات جيوسياســية عاصفــة، والأوزان السياســية للــدول تتعــرض للاهتــزاز، تبعــا لطروفهــا الاقتصادية والسياســية والعسكرية، ومواقعها فــي خطــوط الطــول والعــرض الســتراتيجية المحتدمة.

العالــم يشــهد اشــتباكا خطيــرا الآن، أطــاح بالتوازنات في أوروبا، بســبب الحرب الروسية الأوكرانيــة، ودخول حلف الاطلســي بثقله إلى جانــب أوكرانيــا الضعيفة، بينما بدت روســيا بعــد أشــهر مــن القتــال، أضعــف ممــا كانت عليــه قبــل الحــرب، أزمــة الطاقــة والغــذاء، وارتفــاع وتيــرة التنافس الأميركــي - الصيني وتهديــدات الرئيــس بوتــين بتغييــر نظــام القطبيــة العالمي إلــى نظام متعــدد الاقطاب، كل ذلك ســمح بدخول لاعبين جدد إلى مسرح الصراع، تبعا للرؤية الستراتيجية ومخططات خبــراء الســلطة ومراكــز الأبحــاث، دخــول إيــران المضغوطــة خارجيــا والمحاصــرة اقتصاديــا.

إلــى جانب روســيا جاء بنــاء على الرؤيــة، التي قالــت إن بوتين سيكســر الغرب وســيفرض معادلاتــه الجديدة، هــذا الدخول كلف طهــران مــا لــم يكــن فــي حســبانها، فقــد اهتــزت معادلــة الاســتقرار السياســي والأمنــي في إيــران الصلبة، وبــدأت الضغوط الخارجية تتوالى بشكل حزم، عقوبات وتباعد أوروبــي صريــح عــن طهــران المعتمــدة علــى ألمانيــا فــي إبقــاء الأبــواب الأوروبيــة مفتوحة امامهــا، باتــت المانيــا تقــود الفريــق الغربي المتحمــس للضغــط علــى طهــران، بدعــوى أن الاخيــرة تســتخدم القــوة ضــد تظاهرات المحتجين على السياسات الداخلية والخارجية للنظام، وهذه أول مرة تتشــكل جبهة سياســية إعلاميــة دبلوماســية مترافقــة مــع ضغــوط اقتصاديــة ضد ايران، التــي تمر بظرف دقيق للغايــة.

وبينمــا تتصاعد الدعــوات إلى عقلنة السياســات والكــف عــن اتجاهــات التشــدد ذات الكلف العالية، تنذر المؤشــرات المختلفة، بتغير تدريجي في البيئة السياســية الاقليمية، فهــذا لبنان يوقــع اتفاق ترســيم الحــدود مع (اســرائيل)، ويصبــح نموذجــا لمــا يمكــن ان تفرضــه المعطيــات الاقتصاديــة والمصالــح السياســية والأمنية من شروط قاســية.

بينما ظهر بوضوح أن سياسات القوة والتمدد ليست مرغوبــة لمــن لا يملــك أكلافهــا، ولا يســتطيع دفع مضاعفاتها، خصوصا بعد فشل الاستثمار فــي الاتجاهــات الشــعبوية وهــو اســتثمار بالــغ الخطــورة لصعوبــة التنبــؤ بارتدادتــه ومفاجآته، الأوضاع خطيــرة والتوتر يعود إلى علاقات إيران مع الســعودية والغرب، والعالم مهتــم باولويات غيــر أولوياتنا، نحــن في هذه البلدان الهشــة المضطربة، لقد جاءت اللحظة لتقديــر الأمور مــن زاويــة عقلانيــة محضة، فالسياســات والتوجهــات تبنــى علــى تقديــر المصالــح، والعــراق الآن في زمــن مفتوح على تحديات متعــددة، فأما أن تكــون هذه اللحظة نقطــة انطــلاق لسياســات وتوجهــات تأخــذ مصالح العراق واســتقرار معادلته السياســية والامنية، وضمان نموه الاقتصادي ومؤشــراته التنمويــة.

وهذا يتطلب منه قراءات محســوبة بعنايــة وعلاقــات متوازنة بالمحيــط الإقليمي والدولــي، أو يعــود ســاحة لاحتــراب الــدول والتيــارات المتقاطعــة التــي تنتمــي لهــذا المحــور أو منافســه، تأسيســا علــى ذلــك، مــن الضــروري أن تكــون تركيبــة الســلطة والمواقــع والمناصــب والادارات محســوبة بعنايــة لضمــان تناســق الفريــق الحكومــي وانســجام السياســات والمواقــف، ولا تكــون الاجهــزة والادارات خاضعــة لنفــوذ سياســي للاطــراف المتصارعــة وامتداداتهــا الدوليــة والاقليميــة، حكومــة الســوداني جــاءت بغيــر تدخــلات دوليــة، وهــي تحظــى الآن بدعــم إقليمــي ودولــي واســع، لان الجميــع يريد لها النجــاح خوفا على العــراق ودوره في حفــظ توازنــات المنطقــة، وخوفا مــن الداخل العراقــي ومفاجآتــه غيــر المفهومــة، يجــب أن تنجــح هــذه الحكومــة فــي مهمتهــا، ولكي تنجــح تحتــاج إلــى هندســة الطاقــم بأذرعه الاقتصاديــة والسياســية والاداريــة والامنية، الدعــم السياســي والتأييــد الشــعبي المبنــي على قناعــات واقعيــة ضرورة وشــرط لنجاح هــذه الحكومــة، فمهمتهــا وضع العــراق على طريــق التعافي فــي فرصة عراقية لــن تتكرر، وفــي لحظــة زمنيــة دوليــة قــد تكــون مواتية للعراق.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق