في ظل هذه الأوضاع العراقية والإقليمية والدولية المأزومة يبدو السؤال المثير الذي يفرض نفسه وبإلحاح هو ليس كيف سيكون مستقبل العراق، بل من سيقرر مستقبل العراق؟ الحديث عن تأثير القوى الإقليمية والدولية في استقرار وأمن العراق أمر لا جدال فيه، فهناك علاقة حتمية من التأثير...

توطئة

شكل العراق، وما زال، وسيبقى قلب الشرق الأوسط، الذي مرت وتمر فوق ارضه معظم الاطماع الإقليمية والدولية في المنطقة؛ لما يمتلكه من مقومات قوة جيو-استراتيجية عالية المستوى في معظم المجالات: التاريخية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.

ان مكانة العراق الإقليمية والدولية تفسر الكثير مما جرى ويجري فيه من صراعات لا تكاد تنتهي، ولا يبدو انها ستنتهي في المدى المنظور. لقد دفعت حدة هذه الصراعات التي عاشها العراق، لاسيما بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003 الى شك كثير من المحللين والمتابعين في إمكانية حفاظ العراقيين على وحدتهم الجغرافية، لذا تنبأ بعضهم ان البلد سيذهب الى الانقسام الى ثلاثة دول، بعد احتلال تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام الإرهابي (داعش) لمدينة الموصل وتمدده الى ما يقارب ثلث مساحة الدولة العراقية، الا ان معظم هذه التنبؤات ذهبت ادراج الرياح؛ لأسباب عديدة تقف في مقدمتها بطولة العراقيين، وعدم استعدادهم للتفريط بوحدة بلدهم، فضلا على عدم توفر البيئة الإقليمية والدولية الداعمة لهذا الخيار؛ لما قد يجره تقسيم العراق من مخاطر وتهديدات تنذر بانهيار النظام الإقليمي برمته، اذا لم نقل النظام الدولي الذي ارست دعائمه قواعد ومصالح ما بعد الحرب العالمية الثانية.

ان قيمة العراق - وربما سوء حظه- التي جعلته يتوسط بيئة جغرافية ملتهبة وذات مصالح حيوية، متقاطعة في معظم الأحيان، وتحوله الى دولة هشة –ان لم نقل فاشلة- بسبب الاحتلال الأمريكي وما جاء بعده من احداث، زاد بشكل دراماتيكي من حدة الصراع الإقليمي والدولي على ارضه؛ لتصفية حسابات الخصوم، واستعراض القوة بينهم، وكسب الحلفاء والاتباع في معظم الأحيان لاستغلالهم في حروب بالنيابة، معظمها تكون على حساب مصالح العراق العليا، وسلامة وأمن ورفاه مواطنيه...

لقد برز التأثير السيء الناتج عن كل ما تقدم من خلال النقمة الشعبية المستمرة، التي اظهرتها معظم الاطياف الاجتماعية العراقية – بين فينة وأخرى-وتجسدت، أخيرا، في شكل انتفاضة شعبية، واسعة وناقمة، في مناطق الوسط والجنوب، منذ الأول من تشرين الأول-أكتوبر 2019 والى الوقت الحاضر، قادت الى اسقاط حكومة السيد عادل عبد المهدي، وتهدد بتغيير موازين القوى بشكل قد يغير كامل المعادلة لما سمي بالعملية السياسية التي جاءت عقب الاحتلال الأمريكي.

المستقبل الذي نريد؟

في ظل هذه الأوضاع العراقية والإقليمية والدولية المأزومة يبدو السؤال المثير الذي يفرض نفسه وبإلحاح هو ليس كيف سيكون مستقبل العراق، بل من سيقرر مستقبل العراق؟

الحديث عن تأثير القوى الإقليمية والدولية في استقرار وأمن العراق أمر لا جدال فيه، فهناك علاقة حتمية من التأثير والتأثر بين أي دولة ومحيطها الخارجي، ولكن، الباحث لا يريد ان ينطلق في تحديد المستقبل من الخارج الى الداخل، وانما يرى ان الدور الحاسم في هذا الامر مبعثه الداخل العراقي، بكل ما ينطوي عليه من قوانين وتنظيمات ومؤسسات وقوى وقيم وتوازنات وموارد وثروات وعلاقات وغيرها، والتي يمكن ان تأتي الفواعل الخارجية لتعزز ايجابياتها او تزيد من سلبياتها.

ان معطيات البيئة الداخلية ستكون لها الكلمة الفصل في رسم ملامح المستقبل، وإمكانية تحول العراق الى: دولة حديثة قائمة على مؤسسات دستورية رصينة او البقاء دولة هشة تعاني من ضعف مؤسساتي كارثي. دولة تحافظ على وحدتها الجغرافية وسيادتها الدولية او تذهب باتجاه انقسام اجتماعي شديد ربما يقود الى تفكيكها وتقسيمها والسماح لجميع القوى الخارجية بالتدخل في شأنها الداخلي وانتهاك سيادتها. دولة تعزز سلطة القانون فيها او لا تكون فيها قيمة للنصوص القانونية مع وجود فواعل داخلية تجد نفسها فوق القانون، وربما فوق الدولة. دولة تعزز قيم التسامح والتعايش والديمقراطية او تنتج المزيد من التطرف والتناحر والكراهية.

من سيقرر مستقبل العراق؟

يبقى العامل الحاسم والمؤثر في تقرير شكل المستقبل بيد العراقيين أنفسهم. فالشعب -حكاما ومحكومين- هو من سيمتلك مفاتيح الإجابة عن التساؤل حول أي مستقبل سيختار؟ الا ان العراق يتكون من إثنيات عرقية ودينية عديدة، وهذه الإثنيات لا تتساوى فيما بينها في التأثير – في هذه المرحلة من التاريخ (2003-2019) على الأقل-لماذا؟

معروف ان العراقيين هم خليط من إثنيات اجتماعية عديدة، كالعرب والكورد والتوركمان والشبك والايزيديين والكلدو-اشوريين، والمسلمين والمسيحيين والصابئة المندائيين، والشيعة والسنة وغيرها من التقسيمات الأخرى، الا انه باستثناء العرب – الشيعة، والعرب-السنة، والكورد يكاد يكون تأثير بقية الإثنيات محدودا في تحديد مستقبل العراق اليوم؛ لأسباب عديدة لا مجال لذكرها الان.

يعني ذلك، ان مستقبل العراق سيكون رهنا بقرار اثنياته الثلاث الرئيسة اعلاه، الا ان هذه الإثنيات نفسها لا تتساوى في التأثير والدور في الوقت الحاضر؛ لأنها تعيش ثلاثة أوضاع مختلفة تحكم حركة كل منها، يمكن تسميتها بوضع الحيرة للكورد، ووضع الصدمة للعرب-السنة، ووضع المبادرة للعرب-الشيعة.

الكورد ووضع الحيرة:

ان طبيعة الموروث التاريخي للكورد، ومسار الاحداث الإقليمية والدولية، لاسيما بعد اندحار داعش، والاستفتاء الكوردي الفاشل حول تقرير المصير (أواخر سنة 2017)، ووضع الكورد في سوريا بعد عملية غصن الزيتون التركية (يناير2018)، وعملية نبع السلام (أكتوبر 2019). كل ذلك يجعل الكورد العراقيين في حيرة تامة؛ لأنهم يدركون ان حلم تشكيل الدولة الكوردية يبقى مجرد حلم بعيد المنال، في الوقت الحاضر، وهم مضطرون الى الرضوخ للأمر الواقع، الذي يبقيهم مواطنين ضمن حدود الدولة العراقية الحالية.

ان الانشغال الكوردي اليوم معظمه ينصب على مصالح الكورد وحقوقهم ضمن إقليم كوردستان العراق، وربما يسعون الى توسيع حدود الإقليم او زيادة امتيازاته بشكل او آخر، الا ان تأثيرهم محدود-نوعا ما-على العراق الاتحادي، لاسيما فيما يتعلق بالسلوك السياسي وتوازنات القوى وقراراتها، او انهم لم يرغبوا في لعب هذا الدور.

هذا التردد الكوردي بين عاطفتهم القومية المقيدة، ومواطنيتهم العراقية غير المحسومة، جعلهم شركاء مترددين تماما في عملية التحديد الحاسم للمستقبل العراقي الذي تحدثنا عنه آنفا. وهذا التردد يحد بشكل كبير من فاعليتهم وتأثيرهم، ولكن لا يوجد ما يمنع تغيير هذا الامر مستقبلا، إذا ما نجحوا في الخروج من حيرتهم، وربطوا مصيرهم بشكل نهائي بمصير الدولة العراقية.

العرب-السنة ووضع الصدمة:

لعب العرب السنة دورا محوريا في الدولة العراقية الحديثة منذ تأسيسها في عشرينيات القرن العشرين الا انهم بعد عام 2003 مروا بطورين مهمين:

الأول- طور عدم القبول بالوضع الجديد بعد سقوط صدام حسين، ورغبتهم في عودة عقارب الساعة الى الوراء، وهو ما عجزوا عن تحقيقه، على الرغم من عدم اندماجهم بالعملية السياسية التي جرت لاحقا، ومعارضتهم المعلنة لكثير من مرتكزاتها.

الآخر- طور الصدمة بعد تحررهم من سيطرة تنظيم داعش الإرهابي. نعم، عانى العرب السنة العراقيون صدمة حقيقية عندما وجدوا مدنهم وقراهم وممتلكاتهم تستباح وتدمر وتنتهك ويتعرضون للقتل والسبي والتهجير بسبب سيطرة الإرهابيين او اثناء معارك تحريرهم.

لقد كانت تجربة مؤلمة ومحبطة وشديدة القسوة عاشها هذا المكون، لازالت احداثها المرعبة ماثلة في وجدانهم، وهم يخشون بجدية تكرارها، ويتخذون موقف الحذر التام إزاء ما يطفو الى السطح من قضايا ترتبط ببناء الدولة العراقية. وهذا هو السر وراء عدم اندفاعهم المباشر في دعم الاحتجاجات العراقية في مناطق الوسط والجنوب المندلعة منذ بداية تشرين الأول-أكتوبر 2019، اذ لا يخفي الكثير من العرب السنة العراقيين دعمهم المعنوي لمطالب ساحات الاحتجاج، ولكنهم في نفس الوقت لا يشجعون على التحرك لدعمها شعبيا، بل ويتهمون كل تحرك بهذا الاتجاه؛ لأنه يعيد الى الاذهان تجاربهم السابقة لسيطرة الإرهابيين عليهم.

ان وضع العرب السنة العراقيين – في الوقت الحاضر-جعل مواقفهم تبدو – أحيانا-صدى لبعض مواقف مواطنيهم من القادة الشيعة، بهدف الإبقاء على الوضع القائم كما هو ومنع انفلات زمام الأمور، تشهد على ذلك تحالفاتهم السياسية الداخلية، ومواقف الكثير منهم الخارجية.

في ظل استمرار هذا الوضع سيبقى دور العرب-السنة محدودا ومقيدا في تحديد مستقبل بلدهم، بل قد يتخذون موقف المشجع والمساند لتحرك غيرهم، وهذا قد يستغرق بعض الوقت ريثما يتحررون من صدمتهم واستعادة قدرتهم على المبادرة والتأثير، وهو ما عليهم الاستعجال في القيام به.

العرب – الشيعة ووضع المبادرة:

يعيش العرب الشيعة اليوم نفس الوضع الذي عاشه مواطنيهم من العرب السنة في مطلع القرن العشرين، فإلى جانب كونهم يمثلون الأغلبية من أبناء الشعب العراقي، تجد الاحداث التي جرت بعد عام 2003 بكل معطياتها المحلية والإقليمية والدولية سمحت لقادة الشيعة وجماهيرهم بلعب دور مهم في تحديد قواعد اللعبة السياسية في العراق. وهناك عناصر أخرى زادت من قوة الشيعة منها: وجود مرجعية النجف كقيادة روحية لها ثقلها الروحي والمادي الذي لا يمكن التقليل من شأنه، ودورهم الفاعل في هزيمة تنظيم داعش الإرهابي والحفاظ على وحدة بلدهم، وانتشارهم السكاني في المناطق الأكثر غنا وتأثيرا، فضلا على وجودهم المؤثر داخل تشكيلات الحكومة الاتحادية (المدنية والأمنية والعسكرية)...

كل هذه الميزات التي يتمتع بها الشيعة كانت كافية تماما لتجعلنا نستعير من الاستراتيجية عبارة مركز الثقل الاستراتيجي (للمفكر الاستراتيجي كارل فون كلاوزفيتز) للقول: ان العرب-الشيعة في العراق يمثلون مركز الثقل الاستراتيجي في تحديد مستقبل العراق شعبا ودولة. لكن، ما اضعف قيامهم بهذا الدور الى حد الان هو عدم تمتع معظم القادة السياسيين الشيعة بالمهارات اللازمة كرجال دولة، فضلا عن التخندقات الداخلية والخارجية التي ورطوا أنفسهم فيها، وغياب الحكمة والرؤية الواضحة للقيادة، والطمع وحب السلطة لبعضهم، وغيرها، امور كانت كفيلة في اضعاف دورهم الاستراتيجي خلال السنوات الماضية، مما انعكس سلبا على طبيعة الأداء الحكومي، ومستوى تقديم الخدمات، وجهود محاربة الفساد، وزعزعة منظومة القيم المدنية، وتخبط العلاقات الخارجية، وهشاشة بناء مؤسسات الدولة (المدنية والأمنية والعسكرية)، وتراجع شرعية السلطة والعلاقة بينها وبين الشعب...

وعلى الرغم من المؤاخذات أعلاه حول دور القيادات الشيعية، فان الشيعة لم يتزحزحوا بعد عن كونهم مركز الثقل الاستراتيجي للتغيير في العراق سواء نحو الأفضل ام نحو الأسوء، فلا زالت المبادرة بأيديهم، وتقرير مصير بلدهم لازالوا يمسكون بمفاتيحه وعليهم اتخاذ القرار وبسرعة فيما اذا أرادوا ان يلعبوا نفس اللعبة السيئة التي جلبت الكوارث للعراق بعد عام 2003 ام انهم سيضعون قواعد جديدة للعبة أفضل تسمح ببناء الدولة على أسس علمية رصينة، تستطيع ارسال رسائل اطمئنان للجميع بأن الدولة هي لجميع العراقيين على قدم المساواة بلا تفرقة بينهم، لأي سبب كان، وان القانون العادل يحكم الجميع بشفافية ونزاهة، وثروات العراق يستفيد من خيرها الجميع بلا استثناء، والكفاءة والأمانة معيار التوظيف والخدمة لا الانتماء والولاء، وتفعيل اليات المحاسبة والمراقبة بلا انتقائية او تعطيل ومماطلة...

وتحقيق كل ذلك سيتطلب إيجاد قيادات شيعية جديدة أكثر فاعلية وحيوية تعي ما يحتاج اليه بناء البلد سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، قيادات لا تكرر أخطاء الماضي البعيد والقريب؛ لأن تكرار هذه الأخطاء قد يجعل الكوارث القادمة أكثر تدميرا اجتماعيا وجغرافيا للعراق من التدمير السياسي والأمني المصاحب لها.

احتجاجات تشرين والعمل المطلوب

ان اختلاف الأوضاع التي عاشتها وتعيشها إثنيات العراق اليوم لا تعفي الجميع من مسؤولياتهم، فالكل مطالب بتعزيز عوامل الدفع باتجاه مستقبل عراقي أفضل، وتجاوز مرحلة وضع العصي في عربة بناء الدولة. لاسيما ان الاحتجاجات الشعبية المستمرة منذ الأول من تشرين الأول-أكتوبر 2019 قد أظهرت قوة المبادرة الشعبية وحاجتها الى اصلاح الأوضاع العامة، وتصحيح مسارات الإخفاق في ترسيخ المواطنة، وتطبيق القانون، وتطوير عمل مؤسسات الدولة، وإعادة توزيع الدخل والثروة والسلطة بشكل عادل بين العراقيين، واستعادة سيادتهم بشكل كامل، وحاجتهم الى تنمية شاملة، وتنظيم جديد للعلاقة بين السلطة وشعبها من جهة، وبين المواطنين من جهة أخرى.

لقد جاءت هذه الاحتجاجات لتبرز قوة الجيل الشبابي الجديد من العراقيين (الجيل الذي عاش وولد بعد عام 2003) ومقدار نقمته واحباطه مما يجري، ورغبته بالتغيير، وهو مؤشر على بروز وعي جديد بين العراقيين بظاهرة السلطة والمطالبة بالحقوق، والقدرة على الحكم بقوة وقسوة على القادة السياسيين. وفي ظل هذا الوعي، وربما تصاعده مستقبلا، لم يعد مقبولا عيش إثنيات العراق المختلفة في تخندقاتها القديمة واوضاعها الحالية وعليها جميعا ان تحسم أمرها لبناء العراق كدولة واجتماع على أسس جديدة، مرتكزها رابطة المواطنة وسيادة القانون والديمقراطية والامن والتنمية الشاملة.

ان بناء دولة حديثة ليس مجرد حلم أو امنية عابرة، بل هو نتاج جهد علمي دؤوب يستند الى رؤى استراتيجية واضحة وصحيحة وفاعلة، يسهر على تنفيذها قادة حكماء ذو مهارات عالية في الحكم والإدارة، يستثمرون خلالها جميع الفرص المتاحة لتعبئة وتوحيد مواطنيهم خلفهم من اجل تحقيق هذا الهدف الكبير. وعليه، سيكون تقرير مستقبل العراق هو المعيار لنجاح قادته في استيعاب الدروس القاسية التي مر، ولا زال، بها بلدهم او بقائهم على مسار الحماقة المدمر الذي عاشه الشعب بسبب سوء حظه مع قادته الذين يحكمونه.

* ورقة بحثية أعدت للمشاركة في الندوة الحوارية الموسومة (مستقبل العراق في ضوء المنافسات الإقليمية والدولية الراهنة) التي أقامها القسم السياسي في بيت الحكمة العراقي بتاريخ 25 كانون الأول –ديسمبر 2019، من إعداد الأستاذ الدكتور خالد عليوي العرداوي، المدير السابق لمركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة كربلاء، والمدير الحالي لمركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية

اضف تعليق