دعونا نتمسك بقيمتنا التي تدعونا إلى عدم الإفراط والتفريط في تبيان المواقف من الاحداث، وأن لا نسمح لعقولنا بالتفكير في تقليد الآخر معتبرة التقليد ضرورة من أجل اللحاق بركب الحداثة. إن هذا التقليد الأعمى هو الذي أوصلنا إلى فريقين: فريقٌ يقلد وفريق يتطرف...

"أحرقوا لبنان والعراق وسوريا وفلسطين وكل بلادنا، لا أتضامن لو احترق العالم كله" بهذه الجملة افتتح ناشط على مواقع التواصل الاجتماعي سلسلة المواقف تجاه حادثة حريق كاتدرائية نوتردام في باريس وهي الحادث الأبرز منذ 48 ساعة، والذي شغل العالم.

والسؤال الذي شغلني وأنا أراقب ردود الأفعال التي سرت كالنار في الهشيم في الفيسبوك تجاه هذه الحادثة وهو: من الذي أحرق بلداننا؟ وهل أن حادثة احتراق معلم ديني معين في الغرب مدعاة لكل هذه الشماتة وهذا التشفي؟

هل نحن إنسانيون في هذه المواقف؟ هل نحن مسلمون؟ ألسنا من المؤمنين بقول الله في كتابه: "ولا تزرُ وازرةٌ وزر أخرى"؟

وبالمقابل، قد تكون ردود الأفعال المتشفية هذه ليست على أصل حادثة الحريق بقدر ما هي ردود أفعال تجاه المُبالغين بحزنهم والذي فاق حزن الكاثوليك أنفسهم، حيث أظهر كثيرون من منسلخي القيم والخصوصية حزنهم بشكل مبالغ به في وقت لم يظهروا مثل هذا الحزن تجاه إزهاق أرواح أبرياء في بلدانهم طالتها الممارسات الارهابية. وفي الحالتين نقول إنَّ إظهار الحزن المبالغ به، والذي يتخطى حدود التفاعل الإنساني من جهة، والتشفي بحادثة نوتردام كونها حدثت في مكان ساهمت حكومته بتدمير بلداننا من جهة أخرى؛ حالتان تؤشران إلى خلل قيمي كبير، وتراجع صارخ في الوعي، وانعدام النظرة العقلانية لمجمل الأحداث التي تعصف بالإنسان وبعالمه.

حالتان تؤكدان أن الحديث عن قيم التعايش والتسامح بين أتباع الديانات المختلفة، والحديث عن احترام الفرد لخصوصيته معتقداً وفكراً؛ ماهي إلا أحاديث خيالية تأملية لن يكون لها حضورٌ على المستوى المنظور. وهذا الطرح قد يبدو تشاؤمياً، لكنه للأسف الشديد واقعي.

إنَّ المشكلة الحقيقية تكمن فيما يترتب على ردود الأفعال من مواقف، إذ من السذاجة اعتبار أن ردود الأفعال وخصوصاً المتشفيَّة بهذه الحادثة لن تكون بعيدة عن أعين المتصيدين المحترفين، وبالتالي تكون مادة خصبة وجاهزة لإشعال فتيل التناحر الإنساني، ومن بابه الأكثر خصوبة وهو باب المعتقدات الدينية؛ لأنَّ المتشفِّين هم المسلمون في بلاد الشرق الذين يتهمون الغرب بتدمير بلادهم؛ لذا فهي مواقف جاهزة لسقي مساحة الكراهية بالماء المناسب.

أما الذين حزنوا استعراضياً وتعاطفاً مع (أحدب نوتردام) فهؤلاء في الحقيقة سيزيدون من مسافة ابتعادهم عن مجتمعاتهم ومشاكلهم التي قد تكون أكبر وأعمق بكثير من حادثة الاحتراق المؤسفة، حيث أنهم يرسلون باستعراضهم هذا رسائل عن التعاطف الإنساني من طرف واحد، وهو الطرف الذي اجتهد هؤلاء بتقليده بشكل هستيري، بل وبتبني عناصره بشكل عشوائي واعتبارها من المُسَلَّمات والخلاصات التي ترتقي بواقع الإنسان، وتُعَلِّي من شأن حضارته، وكأنّهم ليسوا جزءاً من تاريخ عريق، وحضارة موغلة بالأصالة، لكنهم على ما يبدو أدمنوا العبارة الشائعة : "مطربة الحي لا تطرب"!

لسنا في الواقع في مفاضلة بين أصحاب الموقفين فكلاهما ــ من وجهة نظر شخصية ــ موقفان سلبيان لا يعبران عن التصاق إنساني بقدر ما يعبران عن شرخ يتزايد من طرفي التشفي والاستعراض.

نعم نحن لا ننكر أن مكوناتنا الحضارية تعرضت لتدمير منهجي، ومن أجل غايات سياسية، والموضوع صار أكبر من تدمير (أحجار) بحسب النظرة الضيقة، بل تعداه إلى تدمير الإنسان وإحساسه بالقيم الجمالية التي صار ينظر لها نظرة ترفية متعالية. بل الأعقد من ذلك أن التدمير صار يشمل الآخر سواء كان نظيراً في الخلق أو أخاً في الدين، وكل هذا طبعاً ممنهج ومعد له من أشخاص ومؤسسات ودول، وكلهم تعبوا واجتهدوا في صياغة السيناريو التدميري لمنطقتنا، والإجهاز عليها حضارياً وإنسانياً.

لكنَّ ذلك لا يبرر أبداً أن نكون هكذا جالسين متشفين ومتشمتين باحتراق معلم تاريخي أو ديني لمجرد أنه يقع ضمن جغرافية الغرب الذي استهدف حضارتنا. وبدل أن نتشمت بحادثة حريق عابرة، أو نحزن بشكل استعراضي من أجل تقديم صورة مزيفة عن التمدن؛ دعونا نتمسك بقيمتنا التي تدعونا إلى عدم الإفراط والتفريط في تبيان المواقف من الاحداث، وأن لا نسمح لعقولنا بالتفكير في تقليد الآخر معتبرة التقليد ضرورة من أجل اللحاق بركب الحداثة. إن هذا التقليد الأعمى هو الذي أوصلنا إلى فريقين: فريقٌ يقلد وفريق يتطرف. ومصيبة الفريق الذي يتطرف إنه قد يتحول من حيث لا يشعر إلى أداة بيد القوى التي يتطرف ضدها.

………………………………………………………………………………………………………………..
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق