حب الرئاسة من أخطر الأهواء عند البشر، لأن المصاب بمرض حب السلطة يحاول بشتى الوسائل والأساليب المحافظة على منصبه ومقامه ولو بالقتل وإخماد الأصوات وتشريد الناس. ظناً منه أن ذلك يوجب حفظه للكرسي، في حين أن العدل هو الذي يوجب بقاء السلطة لا الظلم وقد...

(فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون)الأنعام: 135.

إن الظلم خلاف فطرة الإنسان، حيث إن الله تعالى جعل فطرة الإنسان تميل إلى كل خير وتبتعد عن كل شر، لكنما هذه الفطرة قد تضعفها عوامل التربية أو الأهواء والمصالح أو أسباب أخرى، فقد يتجه الإنسان بالإتجاه غير الصحيح المخالف للفطرة – وإن كانت هذه الفطرة تظهر نفسها في الأوقات الحساسة-.

وهكذا الظلم حيث أنه خلاف الفطرة تكون أسبابه متعددة، ويمكن حصرها في أربعة أمور؛ كما في المحاضرات للإمام الشيرازي (دام ظله)(1)-:

1) الإحساس بالنقص والضعف:

فالظالم لكونه فاقداً لكثير من الصفات الحسنة الكمالية، وهو يشعر بهذا النقص، يحاول أن يسد شعوره هذا بالتوسّل بالظلم.

ولذا فإن الله تعالى منزه عن الظلم كما قال (وإن ا لله ليس بظلام للعبيد). لأنه متكامل من جميع الجهات وغير محتاج إلى أي شيء، فلماذا يظلم؟ وفي الدعاء: «إنما يحتاج إلى الظلم الضعيف».

2) تضخم الشهوات غير المنتظمة:

إن الله تعالى لم يخلق إلا الخير، والشهوات إنما جعلت للإنسان لخيره وصلاحه، فحب النفس يوجب الاهتمام بحفظها، وحب المال يوجب السعي والكد لكسبه، والغريزة الجنسية توجب حفظ النسل وهكذا.

ولكن إذا تعدت هذه الشهوات حدودها –وذلك لا يكون إلا بفعل الإنسان نفسه- فإنها تتحول إلى سبب لشقاء الإنسان، فأحياناً تكون ميول الإنسان ورغباته وهواه المنحرف، متجهاً نحو الظلم والتعالي على الناس، وإرهاقهم، وقتلهم، اعتقاداً منه بأن ذلك كمال يشبع رغباته.

قال تعالى: (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين) هود: 116.

3) الحفاظ على السلطة:

إن حب الرئاسة من أخطر الأهواء عند البشر، لأن المصاب بمرض حب السلطة يحاول بشتى الوسائل والأساليب المحافظة على منصبه ومقامه ولو بالقتل وإخماد الأصوات وتشريد الناس.

ظناً منه أن ذلك يوجب حفظه للكرسي، في حين أن العدل هو الذي يوجب بقاء السلطة لا الظلم وقد ورد في الحديث الشريف (إن الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم).

4) التبعية العمياء:

وهو ظلم الناس لأجل الأسياد –كالاستعمار في عصرنا الحاضر- فإن التابع يحاول أن يؤمّن مصالح أسياده لكي يبقى في السلطة، فيقترف مختلف أنواع الظلم والطغيان لكي يثبت للأسياد استحقاقه للبقاء في منصبه.

من هو الظالم

يعطينا القرآن الكريم تصوراً كاملاً عن الظالمين في آيات متعددة، ويحفزنا على الابتعاد عن تلك الأسباب التي تؤدي إلى الظلم.

ويمكن حصرها في الأمور التالية:

أ- جحد آيات الله والإعراض عنها: والجحد هو الإنكار.

قال تعالى: (وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون) العنكبوت: 49. فإن آيات الله جعلت للهداية والإرشاد فإنكارها يستلزم ترك العمل بها وهو مقدمة للظلم بل هو الظلم بعينه، وإن هذا الظلم يستلزم الكفر كما قال تعالى في آية سابقة: (وكذلك أنزلنا اليك الكتاب، فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به، ومن هؤلاء من يؤمن به، وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون) العنكبوت: 47 وقال تعالى: (ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزواً، ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها) الكهف: 56-57.

ب- تعدي حدود الله: وهو عدم الالتزام بالطريقة الصحيحة، وهو مما يستلزم الانحراف عن الطريق المستقيم والوقوع في المتاهات.

قال تعالى: (تلك حدود الله فلا تعتدوها، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) البقرة: 229.

حيث يظلمون أنفسهم بإيقاعها في الصعوبات والضنك من العيش، ويظلمون الآخرين بسبب إيجاد المشاكل المختلفة في المجتمع الناجمة عن تعدي الحدود.

ج- عدم الحكم بما أنزل الله: والفرق بينه وبين الأمر السابق، هو أن التعدي يكون من الناس والحكم يكون من القضاة أو الحكام، فإن المجتمع كثيراً ما يريد الالتزام بأحكام الله تعالى، لكن الجائرين يمنعونه من ذلك عن طريق تعطيل الأحكام الشرعية وتسليط القوانين الوضعية، التي هي عادة ما تكون سبباً لتقييد الناس وإيجاد الفساد، قال تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) المائدة: 45 (فأولئك هم الكافرون) المائدة: 44 (فأولئك هم الفاسقون) المائدة: 47 ولعل تنوع التعبيرات لاختلاف درجة المخالفات.

هـ- اتباع الكفار:

إن من أهم أسباب تعطيل حدود الله والانزلاق في مهاوي البغي والضلال هو تسليط الكفار على المؤمنين، حيث إن الكافر يريد أن يطبق ما يعتقده أو ما يلائم مصالحه وشهواته، فيسير بالانسان أو بالمجتمع بما يضره ولا ينفعه، قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آبائكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون) التوبة: 23.

و- اتباع الهوى: وقد أشار القرآن الكريم إلى أظهر مصاديق الظلم الناتج عن اتباع الهوى:

1: قصد إضلال الناس –لتأمين المصالح- قال تعالى(ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم) الأنعام: 144.

2: منع ذكر اسم الله –إذا تعارض مع المصالح- قال تعالى (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) البقرة: 114.

3: خذلان الحق وعدم الشهادة له، قال تعالى (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله) البقرة: 140 وقال تعالى (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بالحق لما جائه) العنكبوت: 68.

4: عدم اتباع الصدق ومحاولة تكذيبه –خوفاً على المصالح- قال تعالى(فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه) الزمر: 32.

واعتبار كل واحد من هؤلاء أظلم ليس إلا لجهة أن أساس جميع هذه الأعمال هو شيء واحد وهو الشرك والتكذيب بآيات الله.

فإن التوحيد والشرك ليس كما يتصوره البعض من أنهما أمران قلبيان لا يؤثران في عمل الإنسان، بل الأمر بالعكس لأن التوحيد يفتح أفق الإنسان إلى اللانهاية واللامحدود ويخرجه من الفكر الضيق المادي عكس الشرك، ويتبين ذلك من حال العرب قبل الإسلام وبعده حيث كانوا أذلة خاسئين تحت لواء الشرك فتحولوا إلى سادة العالم حينما دخلوا تحت لواء التوحيد.

الركون إلى الظالم

الشرع المقدس حرّم الاعتماد والإتكال على الظالمين، كما قال تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون) هود: 113.

وذلك لأن الركون إليهم يسبب:

أولاً: تقويتهم، وهي توجب توسع دائرة الظلم، حتى أن الإنسان لا يجوز له –مع وجود حاكم الشرع- الرجوع إلى القاضي الظالم حتى لاستنقاذ حقه، وفي الحديث الشريف (التحاكم اليهم تحاكم إلى الطاغوت).

ثانياً: يؤثر في ثقافة الاجتماع ويوجب رفع قبح الظلم ويشوق الناس إليه، لأن الناس عادة يبتعدون عن الشيء القبيح حفظاً على كرامتهم، لكن الشيء إذا فقد قبحه أو صار محبباً فإن الكثيرين سيرتكبونه، وهكذا المحرمات إذا كانت في المجتمع قبيحة فإن المجتمع يبتعد عنها، لكنها إذا تحولت إلى أمر عادي أو أمر محبب فإن ضعاف الإيمان يمارسونها مما يستلزم شياعها وانتشارها ولذا حرمت إشاعة الفاحشة وأي أمر يؤدي إليها، حتى إن الفقهاء ذكروا أن الإقرار بالذنب أو ذكر الإنسان لما ارتكبه من المعاصي يعتبر من المحرمات لإندراجه تحت عنوان إشاعة الفاحشة، وذلك لأنه يكسر الحاجز النفسي بين الناس وبين المعصية. وهكذا الركون إلى الظالم يوجب زوال قبح الظلم وإشاعته.

ولذا فإن القرآن الكريم يحث الناس على مقارعة الظلم وعدم الخوف من الظالمين، قال تعالى: (إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني) البقرة: 150، فينبغي أن لا يخاف من الظالم بل يخاف من الله تعالى فيطيعه حينما يأمره بترك الظلم ومحاربته.

كما إن الإسلام يأمر بفضح الظالم والمجاهرة ضده، لأن ذلك يوجب بقاء قبح الظلم ولعله يوجب ارتداع الظالم عن ذلك الظلم أو عن توسيع دائرة الظلم.

وفي القرآن الكريم: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) النساء: 148. وكما أنه يجب مقارعة الظلم كذلك يجب نصر من يحارب الظلمة قال تعالى في صفات المؤمنين: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) الشورى: 39، أي يطلبون النصر من المؤمنين. وذلك يستلزم النصر وإلا كان لغواً.

وكما يحرم الركون إلى الظالمين، كذلك يحرم الدفاع عنهم وفي القرآن الكريم (قال رب بما انعمت عليّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين) القصص: 17.

عاقبة الظلم

الظلم –حاله حال سائر القبائح- لا تكون عاقبته إلا سيئة، في الدنيا قبل الآخرة، ومنها:

1) كل ظلم يرجع إلى نفس الظالم في آخر المطاف، لأن الظلم يبتدأ حينما يتنكر الإنسان للملكات الخيرة الموجودة في ذاته، وهذا التنكر سيجر الويلات على الإنسان.

ثم إن الظلم إذا عم –ونتيجة للارتباطات الاجتماعية- فإنه يشمل الظالم، وكمثال على ذلك، إن الإنسان علّم الناس الكذب فإنهم سيكذبون عليه يوماً ما.

ولذا تعددت الآيات الشريفة المعبرة عن ظلم النفس كقوله تعالى (ظالمي أنفسهم) النحل: 28،(لا تظلموا فيهن أنفسكم) التوبة: 36، (ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه) البقرة: 231، (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) الطلاق: 1.

وإشارة إلى هذه الحقيقة وإن الظلم سيشمل الظالم قال الله تعالى: (والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا) الزمر: 51، وقال تعالى: (فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون) النحل: 34.

وهناك مصاديق بارزة، منها:

أ- عدم الأمن للظالم –لا في الدنيا ولا في الآخرة- حيث إنه يشعر بالخوف والقلق الدائم من انتقام المظلومين، فيزيد من حرسه وقوى البطش وهو جاهل بأن العدل هو الذي يوجب الأمن لا الظلم، ولذا نرى الحكام المستبدين يعيشون بين آلاف الحراس وعشرات الدبابات، في حين أن الحكام الديمقراطيين لا يكون حرسهم إلا أقل من القليل.

وقال الإمام الهادي (عليخ السلام) للمتوكل:

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم-----غلب الرجال فلم تنفعهم القلل

قال الله تعالى: (إن الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن) الأنعام: 82.

ب- الضنك في العيش: حيث إن من آثار الظلم الفساد في كل شيء، مما يستلزم صعوبة العيش وعدم الرفاه، قال تعالى: (فبظلم من الذين هادو حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) وهذه الطيبات مصداق من مصاديق ما حرم عليهم، وهناك مصاديق أخرى من سيطرة الكفار عليهم والقتل والتنكيل فيهم وما إلى ذلك.

وفي العصر الحاضر نرى الكيان الصهيوني واليهود في إسرائيل لم يهدأ لهم بال رغم غلبتهم العسكرية وقدرتهم التكنولوجية، فهم يعيشون في قلق دائم وخوف من مستقبل مجهول، وما ذلك إلا نتيجة ظلمهم باغتصاب الأرض وتهجير أهلها وغير ذلك من سائر أنواع الظلم والعدوان.

2) الضلالة وعدم الهداية:

إن الذي يمارس الظلم –حيث أنه تنكر لذاته- يحاول تبرير أفعاله بمختلف التبريرات ويتمادى في غيه انتصاراً لنفسه، لأن من يقترف الظلم لا يمانع من اقتراف أي سيئة اخرى في سبيل ظلمه، وهذا الأمر يسبب الضلال وعدم قبول الكلام الحق، وعدم الاهتداء بهدي الله تعالى، فلا ينفعه دين ولا نصح ولا غيرهما.

قال الله تعالى: (والله لا يهدي الظالمين) آل عمران: 86 وقال عز وجل: (ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء) إبراهيم: 27.

وليس ذلك جبراً بل معناه أن السنن الكونية التي جعلها الله تعالى، والتي لا يغيرها ولا يحولها، تقتضي أن الإنسان المقترف للظلم لا يهتدي ويضل فهو سبب لإضلال نفسه ولعدم هدايتها بسبب ارتكابه للظلم.

3) الهلاك:

قال تعالى: (هل يهلك إلا القوم الظالمون) الأنعام: 47، وقال تعالى (وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون)[ القصص: 59، وحيث أن الظلم ينعكس على نفس الظالم فإنه يسبب الهلاك له ولأتباعه لأن الظلم من مصاديق وضع الشيء في غير موضعه وهذا يسبب الفساد والإفساد وهذا الأمر يوجب الهلاك.

وما أكثر الظلمة الذي ثار عليهم شعوبهم – ولو بعد حين- فشردوا فعاشوا حياة قلقة أو سجنوا أو قتلوا.

بل الأمر تعدى عنهم إلى أتباعهم وذويهم، فتحولت قصورهم إلى متاحف أو خرابات للاعتبار قال الله تعالى (فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا) النمل: 52، وقال تعالى: (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوماً آخرين) الأنبياء: 11.

4) العذاب الأخروي:

وهو من الواضحات البديهيات قال الله تعالى (ولو ترى إذا الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين، قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جائكم بل كنتم مجرمين) سبأ: 31-32.

ختـاماً:

فإن الظلم تكون نتيجته سيئة، ولكن من باب أن كل شيء في الكون بمقدار ومتدرج، فإن تلك النتيجة قد تتأخر وقد تتقدم، كالسرطان الذي ينتشر في الجسم فإنه سيؤدي ال هلاك صاحبه لكن وقته مرتبط بنوعية المرض وعدم محاولة العلاج وسائر الظروف الخاصة.

قال الله تعالى: (وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعداً) الكهف: 59.

وحينما يحل الموعد لا يتأخر إطلاقاً (فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب.. فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله) إبراهيم: 44-47. وفي الحديث الشريف (إن الله يمهل ولا يهمل).

* نشر في مجلة النبأ العدد (37)-جمادى الثانية 1420

..............................
(1) راجع المحاضرات: ج2 ص110 إلى ص119 المحاضرة الرابعة بعنوان (المستبد مغلوب).

اضف تعليق