اللجان الشوروية التي تعتمد المناقشة والحوار أصلاً استراتيجياً لصنع القرارات إنما هي منابع خيّرة لسلسلة من الثمار الطيبة.. حاولنا إلقاء بعض الضوء على جملة منها فيما يلي..

يعتمد التفاعل الاجتماعي على خبرة ضرورية تتعلق بأسلوب التعامل مع الآخرين لمعرفة النفسيات قيمة عالية.. ومن يفقد هذه المعرفة يعجز عن التعامل مع الأطراف الأخرى، والرسول الأعظم (ص) (كان عالماً بنفوس جماعته واقفاً على أسرار أخلاقهم، محيطاً بغوامض أمزجتهم، يعلم ما يغضب له فلان من الصحابة وما يرضى به فلان، ويعرف ما يستثير فلاناً وما يسكت به فلاناً، فعامل كل واحد منهم المعاملة المناسبة له واللائقة به، حتى أشربت القلوب محبته، وانطوت على طاعته، فلم ينفض أحد من حوله، وهذا منتهى الحذق في سياسة الناس، وليس يعلم ما لهذه الأمور النفسية من الشأن في سياسة الخلق إلا الذين كتب لهم أن يمارسوا هذه السياسة ويعالجوها) (1).

والشورى مفتاح معرفة النفوس واستكشاف غوامضها.. هذه المعرفة التي أحكمها رسول الله وقاد بها الأمة.. إذ بالشورى يتبين المشفق الناصح.. من المنافق المندس.. وبها يميز الناضجون عن السطحيين الذين ينظرون ظاهراً من الحياة الدنيا.. وهي (المختبر) العلمي لاكتشاف معادن الذهب من الناس عن غيرها.. و(الناس معادن كمعادن الذهب والفضة) كما قال رسول الله(ص).. وبديهي مدى فائدة اكتشاف هذه المعادن وقدرة مكتشفها على التعامل المناسب والتعاون المشترك.. وبدون ذلك يكون الفشل المحتوم. لذا فإن مؤسسات (الشورى) محطات التزود بالثقافة الاجتماعية والنفسية.. والاطلاع على كوامن الآخرين.. وطراز تفكيرهم.. وبناهم النفسية.. وهذا الاطلاع ضمان لنجاح العمل المشترك.. كما يؤكد ذلك علماء النفس والاجتماع..

و(شورى الفقهاء) مصداق لهذه القاعدة أيضاً.. إذ إن القائد كلما اطلع على كوامن نفوس زملائه .. وتعرف على طراز تفكيرهم وعرف أسلوبهم وأمزجتهم وآراءهم المستجدة.. يكون قادراً حتماً على التعامل الإيجابي أكثر من كونه غير مطلع على ذلك.. والعكس صحيح.. إذ التباعد يخفي المعلومات الحيوية ويمنع من التعامل الايجابي.. أو يعقده ويصعبه..

وهذه ثمرة بالغة الأهمية في الشورى..

تواضع ورشد

هناك شرائح اجتماعية مستبدة تعتبر المشورة منقصة وعاراً وكسراً لشخصية الإنسان.. وخصوصاً إذا كان محصلاً لبعض الثقافة الزمنية أو الدينية.. أو كان - فعلاً - من طبقة متميزة في المجتمع..

إلا أن تصدي رسول الله (ص)للمشورة في كل الشؤون والاكثار منها حتى ورد في الحديث: (كان رسول الله (ص) كثير المشاورة لأصحابه) (2) وثيقة شرعية، وإثبات كون الشورى ليست كسراً لشخصية المستشير حتى لو كان أعلم أهل زمانه.. والرسول (ص) كان يمثل القيادة العسكرية والسياسية والاجتماعية العليا في وقت واحد.. مع ذلك يتصدى للشورى في كبائر الأمور وصغائرها.. فهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الشورى ليست كسراً للشخصية وهيبتها أو منقصة وعاراً عليها.. بل العكس هو الصحيح؛ إن تركها يعني ضعف الشخصية فقد ورد في الحديث : (رجل، ونصف رجل، ولا شيء. فالرجل: من يعقل ويشاور العقلاء، ونصف الرجل: من يعقل ولا يشاور العقلاء. ولا شيء: من لا يعقل ولا يشاور العقلاء) (3).

وعن الإمام (موسى بن جعفر(ع)) في وصيته الذهبية لهشام بن الحكم: (يا هشام ! مشاورة العقل الناصح يمن وبركة ورشد وتوفيق من الله، فإذا أشار عليك العاقل الناصح فإياك والخلاف فإن في ذلك العطب) (4).

فالمشورة مبعث (البركة) و(الرشد) أي نمو الشخصية ونضجها لا نقصها وانكسارها..

فلو كانت هذه السنة النبوية الحضارية بهذه الرتبة من السمو والأهمية.. فمن أولى بها من العلماء وقادة الإسلام المخلصين؟.

ولعلّ الذي اعتبر المشورة عيباً ومنقصة خلط بين مفهومي (التواضع) و(المنقصة) .. ومثل هذا الخلط ينبع من ذوي النفوس المستعلية التي تنظر إلى الآخرين من علٍ.. لأن الشورى تتطلب التنازل النسبي عن الأنانية واتهام النفس والعقل بوقوعه الاحتمالي في الخطأ.. وقد ورد في الحديث عن أمير المؤمنين (ع): (اتهموا عقولكم فإنه من الثقة بها يكون الخطأ) ) (5) .. وهذا تواضع لا منقصة وعار..

لقطتان من التاريخ

تاريخنا الإسلامي حافل بالعبر والدروس التربوية، منها هذه القصة التي ذكرها المؤرخون في التزام المشورة :

(ففي أثناء الفتح الإسلامي لأرض فارس، طلب قائد جيش الفرس أن يلتقي بالقائد المسلم قبل المعركة، ليتفاوض معه في حقن الدماء، وبعد أن عرض الفارسي مقالته، قال المسلم: أمهلني حتى أستشير القوم! فاندهش القائد الفارسي وقال: ألست أمير الجند؟.

قال: نعم.

قال القائد الفارسي: لكنا لا نؤمر علينا من يشاور!.

أجابه القائد المسلم: لهذا نحن نهزمكم دائماً، أما نحن فلا نؤمر علينا من لا يشاور.. ).

أما الصورة الثانية المقابلة لتلك فهي عن التزام أعداء أمتنا اليوم بمبادئ الشورى:

يقول (موشي دايان) في (مذكراته عن حرب عام 1976): (إنني كنت أستغرب من أمر الجيوش العربية، فبعض الوحدات كانت تقاتل بشراسة ورجولة حتى آخر رمق وآخر طلقة، وبعض الوحدات في نفس الجيش كانت تستسلم دون إطلاق رصاصة واحدة، ولم أعرف السر في ذلك، إلى أن استسلم أحد الضباط العرب ومعه جنوده بكل أسلحتهم، فأخذت أسأله: هل أخذت رأي زملائك الضباط والجنود قبل أن تأمرهم بالاستسلام؟.

فأجاب الضابط العربي في كبرياء فوراً: إننا لا نستشير من هم دوننا في الرتبة؟!.

فقال له دايان : ولهذا السبب نحن نهزمكم دائماً..

ثم يستطرد دايان قائلاً: إن الضابط اليهودي مهما علت رتبته، يأكل مع جنوده، ويعيش بينهم كأحدهم، ويحضر معهم دروس الدين، ثم هو بعد ذلك دائم الاستشارة لهم والتفاهم معهم)..

ولا يخفى أن في هذا الكلام شيئاً من المبالغة، إلا أن أصل وجود الاستشارة عندهم اجمالاً أمر سليم...

ولقد قال أمير المؤمنين (ع): (الله.. الله في القرآن لا يسبقنكم بالعمل به غيركم).. فليس المراد من هذا النص الشريف: الصلاة والصيام والحج، فإن غير المسلم لا يعمل بها مطلقاً، بل المقصود قوانين الإسلام الموجبة لتقدم المسلمين في مختلف ميادين الحياة، كالشورى والحرية والنظام وما أشبه ذلك.. التي تركها المسلمون فتخلفوا عن ركب الحضارة.. والتزم بها غيرهم.. فتقدموا عليهم على كل الأصعدة.. على كل حال نحن نعيش عصر المؤسسات والتجمعات.. فهل من الصحيح أن تظل قياداتنا فردية.. ولا تجتمع في شورى ومؤسسة متكافئة فيما بينها؟..

الحد من المواقف السلبية

المشرع لقانون ما، هو الأكثر اطلاعاً من غيره بظروف تشريعه، بل إن كل متخذ لقرار أعرف بدوافعه لذلك القرار.. وأكثر انتظاراً من غيره لثمار ذلك القرار، أما غيره فلا يعرف ملابسات ذلك القانون أو القرار ولم يُحِط بنتائجه الايجابية والسلبية وكذا لم يشعر بضرورته كشعور متخذ ذلك القرار.. وهذه الحالة تسبب:

أولاً: عدم الاعتناء كثيراً بنجاح ذلك القرار لو أحرز النجاح.. وثانياً : توجيه سهام النقد لمتخذ القرار وصب اللائمة عليه.. فيما لو اصطدم القرار بالفشل..

(الشورى) تحيط المستشار بأجواء القرار.. وتحسسه بظروفه وملابساته.. وتشعره بأن القرار من صنعه.. ولهذا الشعور ثمار طيبة أولها: مساندة متخذ القرار إعلامياً.. والتعاون معه عملياً وثانياً: الاعلام له ومدحه لو نجح وحقق هدفه.. ولو نسبياً.. وثالثاً: إعذار متخذ القرار فيما لو واجه الفشل.. واعتبار المستشير نفسه مسؤولاً هو الآخر عن فشل القرار.. فبالطبع يُعذر المستشير ولا يجعله غرضاً للملامة فيُسَدُّ على المستشار باب الانتقاد والعذل، بعد أن كان مفتوحاً على مصراعيه.

هذا ما أكده الإمام موسى بن جعفر(ع) في حديثه القائل: (من استشار لم يعدم عند الصواب مادحاً وعند الخطأ عاذراً) (6) . وعن أمير المؤمنين (ع) قال: (من لزم المشاورة لم يعدم عند الصواب مادحاً، وعند الخطأ عاذراً) (7).

ولعل رسول الله (ص) كان يستهدف ذلك في مشاوراته الكثيرة لأصحابه.. خصوصاً وأن العقليات لم تكن بالنضج المطلوب.. وتوجه النقد البريء السطحي لقرارات النبي فكان (ص) يدرأ أمواج الانتقادات السطحية بأسلوب (الشورى) الذكي ..

وأجواء الأمة الإسلامية اليوم يعلوها النقد والإنتقاد.. الذي قد يكون سطحياً وقد يكون بناءاً وجذرياً.. ولا نكاد نشاهد جهة سياسية أو دينية أو علمية إلا وتواجه سيل الانتقادات من كل حدب وصوب.. وما أكثر تلك الانتقادات: جذرية وسطحية.. بناءة وهدامة.. ولا علاج موضوعي لها إلا (الشورى).. التي هي جسر للتفاهم.. ولاطلاع الآخرين من المنافسين بظروف ما يتخذ من قرارات ومواقف.. وإشراكهم فيها ...

وما انتقادات الأمم الموجهة إلى القادة إلا لأن هؤلاء القادة استغنوا بآرائهم .. وتركوا الأمم غير شاعرة بظروف ودوافع وملابسات تلك القرارات والمواقف.. هذا على فرض كونها صحيحة. أما لو كانت على خطأ.. فالشورى كفيلة بتصحيحها وتعديلها.. لأن (المستشير على طرف النجاح) (8) كما قال أمير المؤمنين(ع) وقال أيضاً : (ما ضل من استشار) (9)، و(من استعان بذوي الألباب ملك سبيل الرشاد) (10).

حسّ المساواة

هذا المبدأ الذي تفخر به المذاهب السياسية والاقتصادية.. والذي أكدته شرائع السماء قبل غيرها.. ولقد قال الرسول (ص): (المسلمون سواسية كأسنان المشط) يظهر جلياً في النظام الشوروي.. حيث يضع قائد الدولة أو مرجع التقليد نفسه إلى جانب الآخرين.. ولا يختلف في ميزان الحق عنهم ما دامت صفات العلم والتقوى والإخلاص متساوية، وما دام الناس أو من يمثلهم لا يستطيعون الجزم في مثل هذه الحالات بأن هذا أفضل عند الله من ذاك، وبالطبع فإن المعصوم أعلى من الآخرين.. وهذا واضح إلا أنه بالمشورة يضع نفسه إلى صف الآخرين.. ويعلم الأمة درساً في التواضع لله وللأمة.. (ومن تواضع لله رفعه) كما في الحديث الشريف ..

احترام المستشار

إن الشورى تمنح المستشار شخصية وهيبة معنوية وترفع من شأنه في نفسه وفي نظر الآخرين.. بينما الاستبداد والتفرد عكس ذلك.. يشعر الآخرين بالضعف والصغار ويرتكز في ضميرهم أن المستبد لا يعير لهم أهمية ولا يحسب لآرائهم وشخصيتهم حساباً ..

وخلع لباس الهيبة على الكوادر والقواعد وزملاء العمل من لوازم القيادة الصالحة ولو شعر الكادر القيادي بعلو شأنه ورفعة مكانته يخلص أكثر .. ويُحترم في نظر الأمة.. وهذا يحرز بالشورى..

كما أن القائد لو استشار الأمة.. سيرفع بذلك من شأنها وتندفع هي لمساندته، وتبذل كل غالٍ ونفيس لدعم مشاريعه ومواقفه وتقوية مركزه..

كسب الرصيد الاجتماعي

تبعث المشورة موجة من الإحساس بالإحترام في نفس المستشار فيندفع لحب المستشير وتأييد خطواته، ومشاريعه، وأفكاره، وسواء كان المستشير مستغنياً عن رأي المستشار أو محتاجاً إليه فإن روح المستشار تقف إلى جانب المستشير، ويسجل صوته في قائمة المؤيدين له.. ولو كان معارضاً له سيتحول إلى محايد ومنصف، أما لو كان شديد المعارضة له.. ستخفف الشدة.. ويقل التآمر عليه..

والتاريخ يكتب لنا: (شاور رسول الله (ص)أصحابه يوم بدر في الذهاب إلى العير، فقالوا: يا رسول الله! لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه معك، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى (ع) : (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون) (11) ولكن نقول : اذهب فنحن معك وبين يديك وعن يمينك وعن شمالك مقاتلون) (12).

فانظر كيف تفجر الحماس في نفوس الصحابة وظهرت حممه من أفواههم؟ أليس ذلك بعد مشورة الرسول (ص) لهم؟، وهناك جملة من الروايات التي يؤكد فيها الأئمة (ع) على أن المشاورة : مظاهرة.. كقوله(ع): (لا ظهير كالمشاورة) (13)، و(لا مظاهرة أوثـــق من المشاورة) (14)، و(كفى بالمشاورة ظهيراً) (15)، و(المشاورة استظهار) (16).. وغيرها من الروايــات التي يظهر منها التواتر لفظاً ومعنىً ..

إن هذا الحشد من روايات (الاستظهار) يفهم منها :

1 - إن المشاورة تنتج في الغالب الرأي الصحيح فيما يراد من الأمور، والرأي الصحيح أنفع في التدبير من القوة وكثرة العدد.. وهذا الرأي الصحيح الصائب يكون سنداً و(ظهيراً) للمستشير..

2 - إن المشورة تخطب ود المستشار.. فيقف إلى جانب المستشير ويكون معيناً و(ظهيراً) له.. وتكون المشورة سبباً لمساندة المستشار لصاحبه.. وإعطائه صوته.. وكلمة (استظهار) أعم من أن تكون استظهاراً برأي المستشير أو صوته وتأييده..

والواقع : إن كسب الأصوات، وإرضاء الزملاء في العمل المشترك والطليعة من أهل الحل والعقد وسيلة سامية لكل قائد ناجح، لأن المؤيدين لقيادته هم الأساس في تنفيذ مشاريعها ، وبدونهم لا يستطيع إحراز التقدم.. والتقدم النسبي الحادث في ظل الاستبداد لا قيمة له ، لأنه ثمن لإهدار كرامة الأمة، ومصادرة لأبسط حقوقها الشرعية والقانونية ..

والشورى وسيلة ذكية، بواسطتها يستطيع القائد والمرجع تفريغ محتوى المعارضة، وسحب البساط من تحت أقدامها، وأخيراً .. احتواءها ولا فرق في (هوية) هذه المعارضة، فإنها تكسب قلباً وقالباً سواء تمثلت في الحركات، أو المحاور المستقلة، أو علماء ومراجع دين أو غيرهم...

شاورهم.. يا رسول الله

ومن نافلة القول إثبات ما جاء من تحليل جميل في حوار ساخن دار بين الشيخ المفيد (أعلى الله مقامه) وأحد المخالفين حول آية (وشاورهم في الأمر). وحول معطيات شورى الرسول (ص):

حيث سئل الشيخ المفيد (المتوفى عام 413هـ):

أليس من مذهبك أن رسول الله (ص) كان معصوماً من الخطأ مبرأً من الزلل مأموناً عليه من السهو والغلط كاملاً بنفسه غنياً عن رعيته؟.

أجاب الشيخ فوراً: بلى كذلك كان (ص).

فقيل له: فما تصنع في قول الله جل جلاله: (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله) أليس قد أمره الله بالاستعانة بهم في الرأي وأفقره إليهم. فكيف يصح لك ما ادعيت مع ظاهر القرآن وما فعله النبي (ص).

أجاب الشيخ: إن رسول الله (ص) لم يشاور أصحابه لفقر منه إلى آرائهم ولحاجة إلى مشورتهم من حيث ظننت وتوهمت، بل لأمر آخر أنا أذكره لك بعد الإيضاح عَما أخبرتك به.

وذلك إنا قد علمنا أن رسول الله (ص)كان معصوماً من الكبائر والصغائر وإن خالفت أنت في عصمته من الصغائر وكان أكمل الخلق باتفاق أهل الملة وأحسنهم رأياً وأوفرهم عقلاً وأكملهم تدبيراً وكانت الموادة بينه وبين الله سبحانه متصلة والملائكة تتواتر عليه بالتوفيق من الله عز وجل والتهذيب والإنباء له عن المصالح. وإذا كان بهذه الصفات لم يصح أن يدعو داع إلى اقتباس الرأي من رعيته لأنه ليس أحد منهم إلا وهو دونه في سائر ما عددناه وإنما يستشير الحكيم غيره على طريق الاستفادة والاستعانة برأيه إذا تيقن أنه أحسن رأياً منه وأجود تدبيراً وأكمل عقلاً أو ظن ذلك.

فأما إذا أحاط علماً بأنه دونه فيما وصفناه لم يكن للاستعانة في تدبيره برأيه معنى لأن الكامل لا يفتقر إلى الناقص فيما يحتاج فيه إلى الكمال كما لا يفتقر العالم إلى الجاهل فيما يحتاج فيه إلى العلم.

والآية بينة يدل متضمنها على ذلك.

ألا ترى إلى قوله تعالى: (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله) فعلق وقوع الفعل بعزمه دون رأيهم ومشورتهم ولو كان إنما أمره بمشورتهم للاستقفاء برأيهم (واتباعهم) لقال له فإذا أشاروا عليك فاعمل وإذا اجتمع رأيهم على شيء فامضه فكان تعلق فعله بالمشورة دون العزم الذي يختص به؛ فلما جاء الذكر بما تلوناه سقط ما توهمته.

فأما وجه دعائهم إلى المشورة عليه (ص) فإن الله أمره أن يتألفهم بمشورتهم ويعلمهم بما يصنعونه عند عزماتهم ليتأدبوا بآداب الله عز وجل فاستشارهم لذلك لا للحاجة إلى آرائهم.

على أن ههنا وجهاً آخر بيناً وهو أن الله سبحانه أعلمه أن في أمته (المنافقين)... ولم يعرفه بأعيانهم ولا دلالة عليهم بأسمائهم... ثم قال سبحانه بعد أن أنبأه عنهم في الجملة: (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول) (17) فدله عليهم بمقالهم وجعل الطريق إلى معرفتهم ما يظهر من نفاقهم في لحن قولهم ثم أمره بمشورتهم ليصل بما يظهر منهم إلى علم باطنهم فإن الناصح تبدو نصيحته في مشورته والغاش المنافق يظهر ذلك في مقاله، فاستشارهم (ص) لذلك ولأن الله جل جلاله جعل مشورتهم الطريق إلى معرفتهم ألا ترى أنهم لما أشاروا ببدر عليه (ص) في الأسرى فصدرت مشورتهم عن نيات مشوبة في نصيحته فكشف الله تعالى ذلك له وذمهم عليه وأبان عن أدغالهم فيه فقال جل وتعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) (18) فوجه التوبيخ إليهم والتعنيف على رأيهم وأبان لرسوله (ص)عن حالهم .

فيعلم أن المشورة لهم لم تكن للفقر إلى آرائهم وإنما كانت لما ذكرناه..(19)

لماذا كان (ص) يشاور أصحابه؟

وكتب شيخ الطائفة الطوسي (قده) (المتوفى عام 460):

قيل في وجه مشاورة النبي (ص)إياهم مع استغنائه بالوحي عن تعرف صواب الرأي من العباد ثلاثة أقوال:

أحدها: .. أن ذلك على وجه التطييب لنفوسهم والتألف لهم والرفع من أقدارهم إذ كانوا ممن يوثق بقوله ويرجع إلى رأيه.

والثاني : ... وجه ذلك لتقتدي به أمته في المشاورة ولا يرونها منزلة نقيصة كما مدحوا بأن (أمرهم شورى بينهم).

الثالث: أنه للأمرين؛ لإجلال الصحابة واقتداء الأمة به في ذلك.

وأجاز أبو علي الجبائي أن يستعين برأيهم في بعض أمور الدنيا.

وقال قوم: وجه ذلك أن يمتحنهم فيتميز الناصح في مشورته من الغاش النية(20).

وقال الزمخشري المتوفى عام 538 هـ: وقيل : كان سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شق عليهم فأمر الله رسوله (ص) بمشاورة أصحابه لئلا يثقل عليهم استبداده بالرأي دونهم(21).

وقال الفخر الرازي في (تفسيره: ج 9 الصفحة 66) في فلسفة شورى الرسول (ص) مع أصحابه: الفائدة في أنه تعالى أمر الرسول بمشاورتهم وجوه:

الأول: إن مشاورة الرسول إياهم توجب علو شأنهم ورفعة درجتهم وذلك يقتضي شدة محبتهم له وخلوصهم في طاعته ولو لم يفعل ذلك لكان ذلك إهانة بهم فيحصل سوء الخلق والفظاظة.

الثاني: قال الحسن وسفيان بن عيينة: إنما أمر بذلك ليقتدي به غيره في المشاورة ويصير سنة في أمته.

الثالث: إنه (ع) شاورهم في وقعة أحد فأشاروا عليه بالخروج وكان ميله إلى أن لا يخرج فلما خرج وقع ما وقع، فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان ذلك يدل على أنه بقي في قلبه منهم بسبب مشاورتهم بقية أثر، فأمره الله تعالى بعد تلك الواقعة بأن يشاورهم ليدل على أنه لم يبق في قلبه أثر من تلك الواقعة.

الرابع: (وشاورهم في الأمر) ) لا لتستفيد منهم رأياً وعلماً لكن لكي تعلم مقادير عقولهم وأفهامهم ومقادير حبهم لك وإخلاصهم في طاعتك فحينئذ يتميز عندك الفاضل من المفضول فبين لهم على قدر منازلهم.

الخامس: (وشاورهم في الأمر) لا لأنك محتاج إليهم ولكن لأجل أنك إذا شاورتهم في الأمر اجتهد كل واحد منهم في استخراج الوجه الأصلح في تلك الواقعة.. فتصير الأرواح متطابقة متوافقة على تحصيل أصلح الوجوه فيها، وتطابق الأرواح الطاهرة على الشيء الواحد مما يعين على حصوله.

السادس: لما أمر الله محمداً (ص)بمشاورتهم، دل ذلك على أن لهم عند الله قدراً وقيمة، هذا يفيد أن لهم قدراً عند الله، وقدراً عند الرسول (ص)وقدراً عند الخلق...

من منطلقات شورى الفقهاء

عرفنا من مجموع ما مضى من الحديث حول ضرورات وثمرات الشورى ما يلي:

1 - إن (شورى الفقهاء المراجع) وفق ما طرح من الأدلة واجبة شرعاً وهي وسيلة جيدة ومتطورة لتنظيم مختلف شؤون العمل المرجعي.. كبرمجة وتنسيق أمور الوكلاء، وطبع (الرسالة العملية الجماعية كالعروة الوثقى المعلق عليها من قبل الفقهاء) وتطويرها كي لا تطبع المكررات مع اختلافات يسيرة، وكذا تنظيم مناهج الحوزات العلمية، وبرامجها الإدارية والاقتصادية، وأنشطتها الإعلامية والخطابية، وكذا تنظيم موارد ومصادر الحقوق الشرعية وغير ذلك من الشؤون المرجعية التي تعاني الآن من الفوضى واللانظام.. والتي تتكفل الشورى بتنظيمها ولو نسبياً..

2 - و(شورى الفقهاء) أقرب إلى الروح الإسلامية الاجتماعية السامية لأنها عبارة عن احترام الكرامة الإنسانية والعلمية للأعضاء، وتبادل المحبة والإنسجام، والتفاهم والتنسيق بين قادة الأمة وتفتح المجال للنقد البناء، وتهادي العيوب، وتبادل النصح، وتبادل الخبرات وأسرار العمل المرجعي، وإحياء أمر آل النبي (ع) كما في الأحاديث التي أكدت على التزاور، وهي كما هو واضح أبعد عن الروح الإستبدادية والديكتاتورية .. وأقرب إلى طبيعة العصر الحديث أيضاً..

3 - و(شورى الفقهاء المراجع) تحقق مع قيامها ثورة إدارية في الأمة، حيث تتحرك القيادة لتنظيم أمور المسلمين الدينية، وتتحمس الأمة للتعاون معها، وترتفع معنويات الجهاد في سبيل البناء، وتتفجر الطاقات، وتشترك كل الأطراف في تقرير مصيرها وتشييد مستقبلها، وتقديم مبادئها، وتتلاحم القوى الفكرية والاقتصادية والسياسية المنتمية إلى قيادات مرجعية مختلفة، فتشكل وحدة مرجعية رصينة، تكون منطلقاً لوحدة جماهيرية إسلامية صلبة حصينة، فتعاد للقيادة المرجعية هيبتها وعزتها، وللأمة شخصيتها وقوتها.. فتكون هذه الشورى (وقاية) ناجعة عن السقوط المستقبلي الشامل للمسلمين والذي يخطط له أعداء الإسلام في كل المعمورة، واستجلبوا خيلهم ورجلهم، وأعدوا قوتهم، وشحذوا أسلحتهم، للانقضاض النهائي الماحق على هيكل الإسلام المتبقي الآن، واستئصال جذوره.. هذا ما صرح به قادة الغرب(22) وخططوا له منذ زمن بعيد، ولا زالوا متمادين في تنفيذه.. وما الأنظمة الإرهابية التي تلاحق الإسلام في عقر داره إلا حلقة من سلسلة مخططات أعداء الإسلام العالميين..

4 - وتضمن (الشورى) ارتقاء الأصلح والأكفأ إلى سدة القيادة المرجعية، وتشكل سداً منيعاً في وجه غيره، ذلك لأنها تجعل المرجع أمام مسؤولياته القيادية، وأمام متابعة الشورى له، وأمام وعي الأمة وأهل حلها وعقدها من المجتهدين، ووعيهم يسد الطريق في وجه المدرس الذي لا يملك كفاءة القيادة والسياسي الذي يهدف الحصول على جاه، ويمنع هؤلاء وأمثالهم من إحراز هذه القيادة الإلهية لنفسهم، كي لا تقع الأمة ضحية لضعف تدبيرهم وعجزهم عن تحمل الأعباء الملقاة على كاهلهم..

والشورى بطبعها تتابع العضو، وتطالب بتنفيذ القرارات المصوبة، فهي (ضمانة لتطبيق القرارات) أيضاً.. وتحمل المرجع لمسؤولياته ليس تجاه أتباعه ومقلديه فقط، بل تجاه كل المسلمين أيضاً.. من مقلدي غيره..

5- وقيام (شورى الفقهاء) يعني انطلاقة القوى الخيرة لمكافحة المنكرات المنتشرة في بلاد الإسلام، والأمر بالمعروف، والدعوة إلى سبيل الله بالتي هي أحسن، واجتذاب أصحاب المبادئ والمذاهب المخالفة والباطلة إلى حظيرة القدس الإسلامي، وهدايتهم إلى سبل السلام والنور الذي أنزل، وتطهيرهم من دنس الشرك ووسخ الرذيلة.. والشورى بعث جديد لعلوم أهل البيت(ع)، وراية عدل وسلام وخير للأمم المستضعفة.. خصوصاً وأن ساحة العمل الشوروي تتسع أكثر من ساحة العمل الفردي، حيث تتلاحم الطاقات، وتتفجر وتساعد كل مجموعة أختها، وتستقبلها على أرضها وفي منطقتها وتفتح في وجهها مجالات الانطلاق.

6 - وقيام (شورى الفقهاء) يعني تمهيد الأرضية لقيام جبهة عريضة بين مختلف المذاهب الإسلامية، (حسب أطروحة الإمام البروجردي -قدس سره- حيث أحرز إنجازات رائعة على هذا الصعيد). فتكون الوحدة ذات طابع سياسي.. لغرض الدفاع عن حصون الإسلام المهددة، في الوقت الذي يكون اتباع كل مذهب على طريقتهم في العقائد والفروع، وعلى نظرياتهم ومذاهبهم في التاريخ والتفسير والفقه وغيرها، أما في مواجهة أعداء الإسلام فيكونون يداً واحدة على من سواهم.. كما ورد في مضمون حديث نبوي شريف.

7 - مثل هذه الشورى تصون الأمة عن تغلغل اخطبوط الطابور الخامس من عملاء الإستعمار الذين ينفثون في المزامير ويقرعون الطبول حول: (أن العلماء مختلفون، والدين ليس إلا حفنة أوهام برجوازية، وشعوذات شيطانية) وقيام الشورى يثبت للعالم أجمع: أن علماء الإسلام متحدون.. بل هم دعاة الوحدة.. فلا يبقى مجال لتصيد الأعداء في الماء العكر وتشويه سمعة الإسلام ورجاله، متذرعين بمسألة اختلاف العلماء والمراجع..

8 - والشورى بين الفقهاء تعني أيضاً ضمن ما تعنى من مفاهيم وقيم إسلامية سامية، نمو الكفاءات القيادية، وكفاءات الخطوط المرجعية ذلك لأن الشورى تفتح مجالات واسعة للحصول على خبرات دقيقة وعلمية حول كل ظاهرة أو قضية من قضايا الأمة، وطرحها على بساط البحث العلمي الدقيق.. وهذا ما ينضج الأفكار.. ويرفع المستويات.. وبعدما تنضج الآراء، تأتي القرارات تبعاً لها متكاملة مستوية، فتنتظم الأمور، وينال كل ذي حق حقه، ويوضع كل صاحب كفاءة في مكانه المناسب..

9 - والقيادة الشورية تتسم بطابع الشعبية، وتعيش هموم الناس، وتعاشرهم عبر كوادرها أو مباشرة في المساجد والمحافل والمهرجانات العامة، وتتحسس طموحاتهم، ولا تقبع بين أربعة جدران، وتصدر القرارات الفوقية عبر الحجّاب وأعضاء المكاتب والبوابين.. إما لكثرة أعمالها.. أو لسبب آخر.. وهذا يتدارك في القيادة الجماعية التي توزع المسؤوليات.. وتتنافس لخدمة الإسلام والأمة وتعيد إلى الواقع الخارجي روعة قيادة الرسول (ص)الشعبية التي كانت في الناس، ومع الناس.. وبينهم..

10- ومن أهم معطيات شورى الفقهاء المراجع.. المحافظة على خط المرجعية المنهجي.. فلا يتغير المنهج بموت أو مرض أو اغتيال مرجع أو سجنه.. بل إن المنهج الجماعي يواصل مسيرته وفق ثوابت رصينة.. بينما الفردية في القيادة ترتبط ثوابتها بحياة الفرد ليس إلا.. ومع الأخذ بعين الاعتبار هذه الظروف القاسية على المرجعية حيث الحصار والإقامة الجبرية والاغتيالات أحياناً.. تكون الشورى علاجا ناجعاً ووقاية للمنهج المرجعي الذي يؤسسه كل مرجع بعد عقود من الكفاح العلمي والعملي.. فتحفظ الشورى مكتسباته ومنجزاته.. وتواصل مسيرته رغم غيابه كشخص..

على كل حال.. الشورى مبعث للخير واليمن والبركة كما في الحديث الشريف، وما ذكر من منطلقات لشورى الفقهاء ليس إلا غيض من فيض.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

* مقال منشور في مجلة العدد 60-جمادى الأولى 1422/آب 2001

...................................
الهـــوامـــش:
(1) الإسلام والأنظمة السياسية /بقلم عشرة من العلماء/64.
(2) تفسير الجلالين / 94.
(3) مرآة الرشاد/المامقاني/139/8.
(4) تحف العقول/390.
(5) غرر الحكم / رقم 2664.
(6) البحار /75/104/.
(7) غرر الحكم / رقم 9056.
(8) غرر الحكم / رقم 1283.
(9) غرر الحكم / رقم 9549.
(10) المصدر / رقم 9012.
(11) سورة المائدة ، الآية 24.
(12) تفسير ابن كثير /1/420.
(13) نهج البلاغة/3/164.
(14) نهج البلاغة/3/177.
(15) غرر الحكم / رقم 7099.
(16) غرر الحكم .
(17) سورة محمد، الآية 30.
(18) سورة الأنفال، الآية 67-68.
(19) الفصول المختارة 11-14.
(20) تفسير التبيان ج3 ص 32.
(21) تفسير الكشاف 1/432.
(22) راجع: (قادة الغرب يقولون: دمروا الإسلام.. أبيدوا أهله)، و: (الغارة على العالم الإسلامي)، و: (الصياغة الجديدة لعالم الإيمان).

اضف تعليق