وكانت شعبية الامام تخترق كل الحواجز التي وضعها الرشيد في سبيله، لا بقوة عسكرية، وانما بذلك التغلغل العقائدي الذي تنطوي عليه قلوب المسلمين ولاء وايمانا وحبا بقيادة أهل البيت، وهنا مصدر الخطر على السلطة حيث أن هذا التغلغل في الفكر والضمير انما يكتسب نفوذه العام من خلال قناعات ثابتة...
بقلم: الدكتور محمد حسين علي الصّغير

انتشر ذكر الامام موسى بن جعفر (عليه‌ السلام) في الأقاليم الاسلامية انتشار النار في الحطب الجزل، فقد تناقل الناس أخباره في العلم والحلم والورع والتقوى والانابة والاخبات لله تعالى.

وكان الرشيد أعرف الناس بهذه الحقائق، وأجرأ الناس على تغافلها، وكان الترف السياسي قد طفح الكأس بأنبائه بين صفوف الشعب، وبلغ الاستياء حده من الأثر والطغيان اللذين طبع عليهما النظام العباسي، وانكمش الناس من الجور والاستعباد، وسئم المجتمع العراقي بخاصة من حياة اللهو والعبث والمجون.

هذا وأمثاله كاد أن يطوي بساط الشرعية من تحت هارون وولاته وعماله في الميدان السياسي، أما في الميدان الديني فلا شرعية للحكم من قبل أبناء الطلقاء تجاه أئمة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. وكان لابد للرشيد من اشغال الناس عن النظر في شأن الحكم، فأعلن الأحكام العرفية ليقمع كل تفكير ـ فضلا عن التحرك ضد النظام في مآسي الحكم وشؤون الدولة حتى قال الناس: انج سعد فقد هلك سعيد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى عمد الرشيد الى سياسة التبعيد والتشريد مضافا إلى سياسة كبت الحرية، فقد قذف بالشباب المسلم في لهوات الحروب، وأشغل الفكر العام بالبعوث وارسال الكتل البشرية نحو الثغور، وهو لا يهمه بذلك أمر الاسلام في شي‌ء، وانما همه الوحيد هو تثبيت دعائم الملك.

وكانت شعبية الامام موسى بن جعفر (عليه ‌السلام) تخترق كل الحواجز التي وضعها الرشيد في سبيله، لا بقوة عسكرية، وانما بذلك التغلغل العقائدي الذي تنطوي عليه قلوب المسلمين ولاء وايمانا وحبا بقيادة أهل البيت (عليهم‌ السلام)، وهنا مصدر الخطر على السلطة حيث أن هذا التغلغل في الفكر والضمير انما يكتسب نفوذه العام من خلال قناعات ثابتة، تجعل القوة إلى جنب الكتاب في استيحاء الأسس الفكرية للاسلام، وهذا ما يخيف الحاكمين ويجعلهم في فزع وهلع شديدين، لأن هذا المنظور الخارق انما ينطلق من صميم المشاعر الانسانية دون تأثير خارجي، أو دعم سلطوي، أو اجراء سياسي، فهو انطلاق داخلي يجري في الانسان مجري الدم في الأوردة والشرايين.

وكان الرشيد يعرف هذا جيدا بالنسبة للامام موسى بن جعفر (عليه ‌السلام)، فهو وريث هذه الأطروحة الضخمة التي تجعل مصير السلطان في مهب الريح، وتجعل أتباعه وأولياءه في قلق مستمر، اذن الدولة في نظره في معرض الخطر من هذه الأحاسيس التي يمتلك أمرها الامام.

ومع علم الرشيد أن ليس من وكد الامام ولا من شأوه نشدان الحكم ولا تطلب السلطان، الا أن هواجس الخوف والذعر من مكانة الامام تجعله يفكر جديا في التخلص منه بشتي الوسائل، دون أن يثير حفيظة المتسائلين أو الاهتمام الجماهيري.

وكان الامام موسى بن جعفر (عليه ‌السلام) من أدرى الناس بهذه الارهاصارت لدى الرشيد، فقد يجامله مرة، وقد يتقيه أخرى، وقد يتقرب منه ثالثة، وقد يذكره الرحم فيمسه سوى ذلك، وقد يروي له في ذلك «أن الرحم اذا مست الرحم تحركت واضطربت» (1) كما قد يجابهه في مرارة واصرار اذا اقتضت المصلحة العليا ذلك (2).

وقد رأيت فيما سبق أن الرشيد كان مصمما على سجن الامام فسجنه حتى انتهى به المطاف إلى سجن السندي بن شاهك، فكانت كرامات الامام يتصل بعضها ببعض، وفضائله تسير مسير الشمس، فاستنجد الرشيد بيحيى بن خالد البرمكي، وقال له:

«يا أبا علي؛ أما ترى ما نحن فيه من هذه العجائب؟

ألا تدبر في أمر هذا الرجل تدبيرا يريحنا من غمه؟

فقال يحيي بن خالد: الذي أراه لك أن تمن عليه، وتصل رحمه، فقد والله أفسد علينا قلوب شيعتنا.

فقبل ذلك منه، وأمره بفك القيود عنه واطلاقه بشرط الاعتراف بالاساءة. فامتنع الامام (عليه ‌السلام)، وقال ليحيى:

يا أبا علي؛ أنا ميت، وانما بقي من أجلي أسبوع...

يا أبا علي؛ أبلغه عني، يقول لك موسى بن جعفر:

رسولي يأتيك يوم الجمعة، فيخبرك بما ترى، وستعلم غدا اذا جاثيتك بين يدي الله من الظالم والمعتدي على صاحبه؟ والسلام.

فأخبر يحيي الرشيد بذلك، فقال الرشيد:

«إن لم يدع النبوة بعد أيام، فما أحسن حالنا.»

فلما كان يوم الجمعة توفي الإمام. (3)

ومهما يكن من أمر، فإي الإمام قضى في سجن السيدي أضيق أيام حياته، ولم يمكث بعدها في السجن، إذ قضى عليه الرشيد بالسم. وهذل ما يحتاج إلى شيء من العرض الدقيق.

اغتيال الامام بالسم

ذهب أغلب المؤرخين إلى أن الامام مات مسموما في سجن السندي بن شاهك، وانفرد أبوالفرج الأصبهاني بأن الامام لف في بساط وهو حي، فجلس عليه السجانون حتى توفي (4).

ووافقه ابن‌عنبة بالقول: بأنه لف في بساط وغمز حتى مات (5).

الا أن الروايات الأكثر شيوعا: أن الامام دس له السم في سجن السندي بأمر الرشيد فمات مسموما، وهذه الروايات يمكن تصنيفها كالآتي:

1 ـ ان السندي بن شاهك حضر، بعدما كان بين يدي الامام السم في عشر رطبات، وأنه (عليه ‌السلام) أكلها.

فقال له السندي: تزداد؟ فقال (عليه ‌السلام) له: حسبك فقد بلغت ما يحتاج اليه في ما أمرت به.

ثم ان السندي أحضر القضاة والعدول قبل وفاته بأيام، وأخرجه اليهم، وقال: ان الناس يقولون: ان أباالحسن موسى في ضنك وضر، وها هو ذا لا علة به ولا مرض، ولا ضر.

فالتفت الامام (عليه ‌السلام)، فقال لهم: اشهدوا علي أني مقتول بالسم منذ ثلاثة أيام، اشهدوا أني صحيح الظاهر لكني مسموم، وسأحمر في آخر هذا اليوم حمرة شديدة منكرة، وأصفر غدا صفرة شديدة منكرة، وأبيض بعد غد، وأمضي إلى رحمة الله ورضوانه، فمضى (عليه ‌السلام) كما قال في آخر اليوم الثالث (6).

2 ـ ان يحيي بن خالد البرمكي خرج على البريد حتى وافى بغداد، فماج الناس وأرجفوا بكل شي‌ء، وأظهر أنه ورد لتعديل السواد، والنظر في أمور العمال، وتشاغل ببعض ذلك أياما، ثم دعا السندي بن شاهك، فأمره بأمره فامتثل، وكان الذي تولى به السندي قتله (عليه ‌السلام)، سما جعله في طعام قدمه اليه.

ويقال: انه جعله في رطب أكل منه، فأحس بالسم، ولبث بعده ثلاثا موعوكا منه، ثم مات في اليوم الثالث (7).

3 ـ ان يحيي بن خالد البرمكي هو الذي سم الامام بأمر الرشيد مباشرة: فعن عبدالله بن طاووس، قال:

قلت للرضا (عليه ‌السلام): ان يحيي بن خالد سم أباك موسى بن جعفر صلوات الله عليهما؟ قال: نعم، سمه في ثلاثين رطبة (8).

4 ـ وفي عيون الأخبار جاء النص الآتي:

«ثم حبس ـ يعني الامام موسى بن جعفر ـ وسلم إلى السندي بن شاهك، فحبس، وضيق عليه، ثم بعث اليه الرشيد بسم في رطب، وأمره أن يقدمه اليه، ويحتم عليه في تناوله منه، ففعل، فمات صلوات الله عليه» (9).

وكانت هنالك محاولة سابقة لسم الامام في الرطب في رواية عمر بن واقد، قال:

ان هارون الرشيد لما ضاق صدره مما كان يظهر له من فضل موسى بن جعفر (عليه ‌السلام)، وما كان يبلغه من قول الشيعة بامامته، واختلافهم في السر اليه بالليل والنهار خشية على نفسه وملكه، ففكر في قتله بالسم، فدعا برطب فأكل منه، ثم أخذ صينية فوضع فيها عشرين رطبة، وأخذ سلكا فعركه في السم، أدخله في سم الخياط، وأخذ رطبة من ذلك الرطب، فأقبل يردد اليها ذلك السم بذلك الخيط، حتى علم أنه قد حصل السم فيها، فاستكثر منه، ثم ردها في ذلك الرطب، وقال لخادم:

احمل هذه الصينية إلى موسى بن جعفر، وقل له: ان أميرالمؤمنين أكل من هذا الرطب، وتنغص لك به، وهو يقسم عليك بحقه لما أكلتها عن آخر رطبة... فتحاشى الامام هذه الرطبة في حديث طويل، فباءت المحاولة بالفشل (10).

ولئن باءت هذه المحاولة بالفشل فما باءت المحاولات الأخرى.

ومهما يكن من أمر فان الوثائق التأريخية المعتمدة تشير أن الامام (عليه ‌السلام) مات مسموما على يد السندي بأمر الرشيد (11).

ومما يؤكد هذا الرأي ما رواه الشيخ المفيد:

ان الامام لما حضرته الوفاة سأل السندي بن شاهك أن يحضر مولى له مدنيا ينزل عند دار العباس بن محمد في مشرعة القصب ليتولى غسله وتكفينه ففعل ذلك.

قال السندي: فكنت أسأله في الاذن أن أكفنه فأبي، وقال: «انا أهل بيت مهور نسائنا، وحج صرورتنا، وأكفان موتانا، من طاهر أموالنا، وعندي كفني، وأريد أن يتولي غسلي وجهازي مولاي فلان، فتولي ذلك منه» (12).

وهكذا تنطوي حياة الامام في ظل الارهاب السياسي.

* مقتطف من كتاب (الإمام موسى بن جعفر (ع) ضحية الإرهاب السياسي)، لمؤلفه الدكتور محمد حسين علي الصّغير

......................................
(1) ظ: المجلسي / بحارالأنوار 48 / 126.
(2) ظ: على سبيل المثال: المجلسي / بحارالأنوار 48 / 128 ـ 129 ـ 145 ـ 146 ـ 147 ـ 148... الخ.
(3) ظ: ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 408 ـ 409، المجلسي / بحارالأنوار 48 / 230 ـ 231.
(4) الأصبهاني / مقاتل الطالبيين / 504.
(5) ابن‌عنبة / عمدة الطالب / 185.
(6) ظ: المجلسي / بحار الأنوار 48 / 247 ـ 248 عن عيون المعجزات / 95.
(7) المفيد / الارشاد / 339، الأربلي / كشف الغمة 3 / 27.
(8) النجاشي / الرجال / 371، المجلس / البحار 48 / 242.
(9) الصدوق / عيون أخبار الرضا 1 / 85، البحار 48 / 222.
(10) ظ: المجلسي / بحارالأنوار 48 / 223 وانظر مصدره.
(11) ظ: المفيد / الارشاد / 339، المسعودي / مروج الذهب 3 / 273، ابن الطقطقي / الفخري / 172، الطوسي / التهذيب 6 / 81، ابن شهر آشوب / المناقب 3 / 437، ابن‌خلكان / وفيات الأعيان 4 / 395، ابن‌حجر / الصواعق المحرقة / 122، ابن‌الصباغ / الفصول المهمة / 222، القندوزي / ينابيع المودة / 363، المجلسي / البحار 48 / 207.
(12) الشيخ المفيد / الارشاد / 339.

اضف تعليق