إسلاميات - اهل البيت

كشف التلبيس في مغالطات التدليس

تأملات في خطبة فاطمة الزهراء (ع) (8)

فلكي يحقق الإنسان رغباته ومزاجه، ويحقق شهوته للسلطة والمنصب، وشهوته للارتقاء السلطوي والصعود بأي ثمن كان، حتى لو كان ذلك عن طريق الباطل، فهو يقوم بخلق وباختلاق القواعد والقوانين والأفكار الضالة، والأحكام المبتدَعة، ويزيّف الحقائق حتى يبرر الشرعية لنفسه. فإنه من خلال الأحكام التي (تُبتدَع) يخالف الله ويخالف...

خطبة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وضعت لنا القواعد اللازمة لكشف الحقيقة وإظهار الحق، وفصل الباطل عن الحق، والتمييز بين الصادق والكاذب، حيث كشفت هذه الخطبة مغالطات التضليل والتلبيس والتزييف الذي قد يقع فيه الإنسان ضحية ما يسمعه ويراه في وسائل الإعلام والتاريخ المزيف. وذلك من خلال فضح أسلوب المغالطة الذي يمارسه المضللون في عملية تشويه وتزييف الحقيقة والحق، وخلطه مع الباطل، حيث قالت (عليها السلام): (ابْتِداراً زَعَمْتُمْ خَوْفَ الْفِتْنَةِ، -ألا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَانَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطةٌ بِالْكافِرِينَ-).(1)

من المهم لنا لكي نعيش حياة صالحة ان لانقع ضحية اساليب تلبيس الحق بالباطل، وتزييف الحق والحقيقة من خلال معرفتها وعدم الانخداع بها، ومعرفة الأساليب الصحيحة في مناهج التفكير، حيث نصل من خلالها إلى الغايات الكبرى للإسلام، والسير في الطريق المستقيم، ننال الحسنى كما يقول الإمام علي (عليه السلام) في الرواية التي سنذكرها لاحقا، لذلك من المهم جدا أن نكشف المنطق المزيف الموجود في قضية المغالطة.

فالمغالطة تقوم على مقدمة اولى باطلة ومقدمة ثانية حقيقية، فيلبس بينهما يصنع منهما نتيجة باطلة في مظهر الحقيقة، وهذه النتيجة المزيفة هو قياس غير منطقي، بل هو قياس ملبَّس بالحق.(2)

ما هي أسباب الوقوع في هذا التضليل؟

تقول الزهراء (عليها السلام) في خطبتها: (مَعاشِرَ النّاسِ المُسْرِعَةِ إِلى قِيلِ الباطِلِ، المُغْضِيَةِ عَلى الفِعْلِ القَبيحِ الخاسِرِ -أَفَلا يَتَدَبَّرونَ القُرآنَ أَمْ عَلى قُلوبِهِم أَقْفالُها-).(3)

ويقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حول قضية الفتنة وكيف أنها تجر الإنسان إلى اختبار وامتحان شديد لفهم الحقيقة وكشف الباطل، أو عدم الوقوع في براثن وأحابيل الباطل، يقول (عليه السلام): (إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وَأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اللَّهِ وَيَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالًا عَلَى غَيْرِ دِينِ اللَّهِ فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُرْتَادِينَ وَلَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَمِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَيَنْجُو الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنى).(4)

من هذين الحديثين للمعصوميْن (عليهما السلام) نسلط الضوء على بعض أسباب الوقوع في مغالطات التضليل:

أولا- الاسراع إلى قيل الباطل:

يجب على الإنسان أن لا يُسرع في نقل الكلام المتداول دون ان يتحقق من صحته، لأنه قد يكون باطلا او محرفا، فالبعض من الناس بمجرد أن يسمع كلاما أو يقرأه في شبكات التواصل الاجتماعي، يُسرع في نقل هذا الكلام من دون أن يعمل على التحقّق والبحث عن صحته.

هذا الإسراع في اطلاق الأحكام المسبقة، ونقل الكلام دون بحث ودون تحليل ودون فهم وعلم، يؤدي بالنتيجة إلى الوقوع في المغالطة ومن ثم الوقوع في الباطل، ومن هذا الاسراع تتحول الاشاعات الى حقائق.(5)

هذه المشكلة موجودة كثقافة عند بعض الناس، يتسرع في نقل الكلام، في حين عليه أن يصبر ويتأمل قليلا حتى يفهم ويعرف هل هذا الكلام باطل أم حق، فعليك أن لا تسرع في إطلاق الأحكام، فهذا الحكم الذي أطلقته جزافا، سوف يؤدي إلى تسقيط هذا الشخص بالباطل، وسوف تؤدي إلى إلحاق الأذى به وإلى تحطيمه، ومن ثم تؤدي إلى قتل معنوي لهذه الشخصية.

ثانيا- السكوت على الفعل القبيح:

وهي تشير إلى الإنسان الذي يرى القبيح ويسكت عنه، فالقبيح قبيح والحسن حسن، والإنسان الذي له عقل سيقدّر ويحسب، وبالنتيجة من خلال تعقّله سوف يعرف إن هذا الشيء قبيح أو جميل، فإذا سمع كذبا عليه أن لا يصدّق هذا الكذب لأنه قبيح، وإذا سمع صدقا عليه أن يصدق الصدق، فالصدق حسن.(6)

لذا فالإنسان لابد أن لا يغمض عينيه عن الفعل القبيح، ولا على الكلام القبيح، لأنه سوف يصبح مقدمة من مقدمات قياس الباطل، ويؤدي إلى المغالطة، وبالنتيجة إلى استنتاجات خاطئة، كما ذكرنا في موضوع القياسات.

ثالثا- عدم التدبّر في نتائج الأمور:

فالإنسان الذي لا يتفكّر ولا يتدبّر في الأمور والقضايا التي تمر به، يكون فكره سطحيّا، ولا يستطيع أن يحلّل الأمور ولا يفهمها، لذا يجب عليه التفكر والتدبر بأن يحلل الكلام الذي يسمعه، حتى لا يسرع إلى استنتاج الباطل وتصديق الكذب والزيف.

فلابد أن يقرأ القرآن الكريم، ويتدبر ويتفكر، ولابد أن يقضي الكثير من أوقات حياته ومن يومه في التفكّر والتدبر والتأمل، حتى يستطيع أن يحلل هذه الماكنة الفكرية، بحيث يستطيع أن يقيّم الأشياء والأفعال الخارجية تقييما صحيحا سليما، حيث ذكرت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) الآية القرآنية: (أَفَلا يَتَدَبَّرونَ القُرآنَ أَمْ عَلى قُلوبِهِم أَقْفالُها) محمد 24.

لكن لو تعطّلت هذه الماكنة الفكرية وخملت وكسلت، تصبح أحكام الإنسان باطلة وسطحية، وأحكام غير صحيحة، فلابد على الإنسان أن يتحرك، وهذا يقودنا إلى النقطة الرابعة.

رابعا- أم على قلوبهم أقفالها:

لابد للإنسان أن لا يكون قلبه مقفلا التفكير، بل عليه أن يكون منفتحا، عندما يسمع الكلام أو يرى الأشياء عليه أن يحسب لها احتمالات عديدة، ولا يأخذ احتمالا واحدا، لأن الإنسان الذي يأخذ احتمالا واحدا في تحليل الأمور الداخلية أو القضايا الخارجية، فهو إنسان مقفل القلب والعقل، لأنه لابد أن يعتمد على ركائز عقلانية في بناء وعيه والتحرر من تحكم لا وعيه فيه.

فإذا كان قلبه منفتحا وعقله مرنا، فسوف يذهب نحو التحقيق والتحليل، ولا يصدر الأحكام السريعة العاجلة، فالذي في قلبه شيء ضد الشخص المقصود بالانتقاص يكون قلبه مقفل، فيصدر الأحكام ليس استنادا إلى الحقيقة، وإنما على عدم حبه للشخص وعلى مزاجه واحكامه التي أصدرها مسبقا.

لذلك هذا الإنسان المتسرع في إطلاق الأحكام يصل إلى طريق مسدود دائما، لأنه لا يعرف الحقيقة، ولا يعرف الحق، فنجده دائما يخضع ويقع في طريق الباطل والضلال.

الأهواء قاتلة للإنسان

والآن نذهب إلى كلام الإمام علي (عليه السلام): (إنما بدء وقوع الفتن أهواء تُتَّبَع)، واتباع الاهواء يعني ان المزاجات المتقلبة الناتجة من شهوات النفس هي المحرك للسلوك، والمزاج يعني جموح الغريزة عن العقل وتغلب الرغبة على الجودة، ويعني اتباع المزاج الشخصي النفسي وليس الحكم العقلي، فالمزاج النفسي قائم على متغيرات متلونة، يدخل فيها رذائل مثل الحسد والحرص على الدنيا والكراهية والطمع، وحب امتلاك الأشياء، وشهوة والمال والسلطة.

فعندما يكون الإنسان خاضعا لأهوائه، ولرغباته الذاتية ومزاجه الداخلي، تبدأ الفتنة، فالأهواء قاتلة للإنسان، لأنها تقوده إلى الضلال وإلى الوقوع في الباطل.

خامسا- صناعة الأفكار الضالّة:

(وأحكام تُبتدَع)، فلكي يحقق الإنسان رغباته ومزاجه، ويحقق شهوته للسلطة والمنصب، وشهوته للارتقاء السلطوي والصعود بأي ثمن كان، حتى لو كان ذلك عن طريق الباطل، فهو يقوم بخلق وباختلاق القواعد والقوانين والأفكار الضالة، والأحكام المبتدَعة، ويزيّف الحقائق حتى يبرر الشرعية لنفسه.

فإنه من خلال الأحكام التي (تُبتدَع) يخالف الله ويخالف كتاب الله، فالإنسان الذي يرى نفسه فاشلا في الحياة مثلا، أو لا يصل للسلطة أو المنصب أو لغاية معينة وغرض معين، يحاول أن يبتكر أو يبتدع بعض الأفكار والأحكام الضالة، حتى يجذب الناس إليه ويخدعهم ويضلِّهم.

وبالنتيجة يؤدي ذلك إلى تأسيس فرقة ضالة، وإلى مذاهب باطلة، وإلى حكم باطل، وإلى شرعية غير صحيحة وغير سليمة، فيها مخالفة لكتاب الله سبحانه وتعالى.(7)

لذلك قالت السيد الزهراء (عليها السلام): (وَلَبِئْسَ ما تَأَوَّلْتُمْ، وَساءَ ما أَشَرْتُمْ)(8).

سادسا- استخراج الباطل من الحق

(ويتولى عليها رجال على غير دين الله)، يعني يقوم باتباع سلطة معينة، أي بعض هؤلاء الناس أو الجماعة، يتبعون أناسا على غير دين الله، وهذا يعني السير في الطريق الضال، الطريق الذي فيه شهوات وأمزجة واستبداد وقمع وعنف من أجل الوصول لتحقيق غايات خاصة، غايات فئوية وأنانية، فيقوم هؤلاء الرجال بتنصيب أتباع أو رجال غير أكفاء، يبتدعون الأحكام لتضليل الناس، وقيادة الناس نحو الباطل، وبالنتيجة الانحراف عن الطريق المستقيم، فالإمام علي (عليه السلام) هنا يبين مغالطة خلط الباطل بالحق، وخلط الحق بالباطل، وهذه المغالطة التضليلية تحصل من خلال الاتيان بمقدَّمة اولى سيئة، ومقدمة ثانية صحيحة، ويستنتج منهما نتيجة باطلة بظاهر حقيقي.

كما حدث في قضية تحكيم المصاحف، حيث رفعوا المصاحف الذي هو مقدمة أولى باطلة، والمصاحف هي مقدمة ثانية صحيحة، فتوصلوا الى استنتاج باطل وهو إيقاف الحرب، وهنا وقع الخوارج في فتنة التزييف. فعن الامام علي (عليه السلام): (لَمَّا سَمِعَ قَوْلَ الْخَوَارِجِ لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ).(9)

ولكن (لو أن الباطل خلص من مزاج الحق) يعني إذا تم تخليص الباطل من ذلك الامتزاج والخلط بين الحق والباطل، (لم يخف على المرتادين) الذين يطلبون الحقيقة والحق، والذين يبحثون ويفكرون، فعندما نفصل الباطل عن الحق ونرفع الحجاب التضليلي التزييفي فإن كل شيء سوف يظهر بشكل واضح لا يخفى على طلاب الحق.

(ولو أنّ الحقّ خلص من لبس الباطل)، حيث ان هؤلاء يلبسون الباطل بلباس الحق، كما الجاهل الذي يتلبس بملابس العلماء، حيث يتصور الناس بأنه عالِم، فتلبّسوا بلباس العلماء وهم ليسوا بعلماء. فاذا تم رفع الالتباس وكشف بطلان القياس وزيف مقدماته (انقطعت عنه السن المعاندين) الذين يلوذون بالصمت بعد أن تُلقى عليهم الحجة بشكل واضح، ويتوقف جدالهم العقيم في تأثيره، فالعناد هو من أسباب وقوع الفتن من خلال الّلجاجة في الحوار، واثبات رأيه بأي وسيلة كانت، فيتلاعب بالكلمات البراقة ويمزج بين الحق والباطل، وبين الصدق والكذب، ويلبس الزيف بالحقيقية، حتى تصبح حقيقة راسخة في أعماق التفكير عبر الأجيال.

ولكن المعاند سيسكت اذا كشفت مقدماته الفاسدة، وتم بيان المقدمات الحقيقية، فتظهر وتبان النتيجة الصحيحة.

الشيطان رابض في شبكات التواصل

(ولكن يؤخذ من هذا ضغث) الضغث هو قبضة من حشيش مختلط فيها الرطب باليابس (فيمزجان) بخلط الحق والباطل، (فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه) عندما تصبح الرؤية ضبابية فيستولي على تفكيرهم ويجعلهم غير قادرين على التفكير الصحيح، وبالتالي الوقوع في التصديق السريع بالأمور والقضايا غير الثابتة.

لكن ولي الله في جوهره لابد أن يكون فاهما عارفا مدركا، لا يمتزج عليه الحق بالباطل، بل يعرف الحق من الباطل، فهذه فتنة، والفتنة هي امتحان واختبار، لابد أن يتعلم الإنسان على التفكير والتحليل والتحقيق، ولا يصدق كل ما يسمعه ويقرأه في شبكات التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام لأنه يناسب أفكاره وأهدافه ومصالحه ونفسه، يجب أن يحلل ويفكر وأن يقرأ حتى يصل الى الحقيقة المحايدة التي تظهر خارج نفسه المشوشة، ولايصدق او يتبع الأفكار التي تتناغم مع مزاجه الذاتي ونفسه الامارة بالسوء.

ولي الله لابد أن يكون عنده علم يؤدي به الى معرفة حقة، حتى يستطيع أن يتخلص من وساوس الشيطان، فالشيطان تجده دائما في وسائل الإعلام وفي شبكات التواصل الاجتماعي، ورابض في ذلك الخطاب الإلكتروني الذي يقوم بعملية التضليل نتيجة مصالح لفئات خاصة، تجعل كل من لم يكن معهم باطلا، وكل من كان معها حقا، هذا هو التلبيس الشيطاني الذي ينخدع به البعض، ولكن الأقلية هم الناجون من هذه الوساوس ومن هذه الفتنة. وهم من (الذين سبقت لهم من اللّه الحسنى). أولئك السابقون العارفون الفاهمون، الذين لديهم معرفة وفهم، يعرفون الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ويعرفون فاطمة الزهراء (عليها السلام)، يعرفون رسول الله (صلى الله عليه وآله)، هؤلاء السابقون هم الذين يبقون مع الحق ولا يؤيدون الباطل ولا ينخدعون بتضليل أولئك الذين سلبوا حقوق اهل البيت (عليهم السلام) بالتضليل والفتنة والمغالطة التي أسرعوا إلى خلقها وإشعالها، حتى يستولون على السلطة.

السلطات الضالة وتأجيج النزاعات

السلطات الضالة تستفيد من تأجيج النزاعات والصراعات، لكي ترسخ سلطتها، فعندما ينشغل الشعب بالفتنة، لايفهم ماهو الحق وتغيب الحقيقة، وعدم معرفة الباطل، وبالتالي سوف يصبح الحاكم مسيطرا ومهيمنا.

جاء في الآية القرآنية: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) الحج 53.

وعن الإمام علي (عليه السلام): (ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم... فإنهم قواعد أساس العصبية، ودعائم أركان الفتنة)(10)، هؤلاء المتسلطون، الذين يريدون أن يحكموا الناس، يبثون الفتنة ويثيرونها بين العشائر والاقوام والمذاهب والأديان، لكي يهيمنوا.

لكن لابد للإنسان أن يفهم ويدرك ما معنى النزاعات التي تحصل في البلاد، فالنزاعات هي وسيلة من وسائل تأجيج الفتن حتى يتسلط الظالمون والأشرار على البلاد.

كيف نتخلص من الفتن؟

لكي لا نقع في الفتن نضع مجموعة من التوصيات والمقترحات:

1- الإخلاص، ينقذ الإنسان من المزاج، من الأهواء، ومن الأنانية وحب الدنيا وحب السلطة، فعندما يكون الإنسان مخلصا لله سبحانه وتعالى، فإنه يقمع أهواءه فتنكشف الفتنة له ولا يقع فيها، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (طوبى لعبد نومة، عرفه الله ولم يعرفه الناس، أولئك مصابيح الهدى وينابيع العلم ينجلي عنهم كل فتنة مظلمة، ليسوا بالمذاييع البذر ولا بالجفاة المرائين)(11)، فالمخلص لله تعالى تنجلي الفتنة عنه ويكون قلبه صافٍ وواضح ولا يدخله الظلام، لأنه مرتبط مع الله سبحانه وتعالى، يكون نقيّ الفكر لاتشوبه المزاجات ونظيف القلب لا تشوشه الاهواء، فلا يقع في الفتنة.

2- التقوى، تجعل الإنسان ورِعا، متقيا عن الوقوع في المزاج والأهواء وبالنتيجة سوف يتجنب الفتنة، وينجح في الامتحان. فعن الإمام علي (عليه السلام): (اعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً مِنَ الْفِتَنِ وَنُوراً مِنَ الظُّلَمِ)(12)، لانه يتورع عن ارتكاب المعاصي، وينبذ الحسد، ويتخلى عن حبه للدنيا، لذا سيكون هذا الإنسان بعيدا عن الوقوع في حبائل الفتنة ومغالطاتها، قياساتها الباطلة.

3- التمسك بأهل البيت (عليهم السلام)، وهم الذين يُنجون من الفتنة، فعن الإمام علي (عليه السلام: (أَيُّهَا النَّاسُ شُقُّوا أَمْوَاجَ الْفِتَنِ بِسُفُنِ النَّجَاةِ)(13) وهم أهل البيت (عليهم السلام) فهؤلاء هم الذين ينجون الإنسان من الوقع في الفتن، من خلال الالتزام بتوجيهاتهم ومواعظهم ونهجهم، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله: (نحن سفينة النجاة من تعلق بها نجا، ومن حاد عنها هلك، فمن كان إلى الله حاجة، فليسأل بنا أهل البيت).(14)

4- العلم، يُنجي الإنسان من المشكلات والفتن حيث يجعله فاهما مدركا للأمور عارفا بالواقع، من خلال فهم منظومة الأسباب والمسبّبات والقضايا المحيطة به، فلا يقع في الفتنة حين يحصل على العلم الحقيقي، وليس المعلومات المزيفة.

فعن الامام علي (عليه السلام): (النَّاسُ ثَلَاثَةٌ فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ)(15)، الإنسان يحيى بالعلم والايمان معا، والإيمان وحده لا يكفي، لابد أن يكون هناك علم مع الإيمان، حتى لا يصبح ايمانه زائفا من خلال مضللات الفتن، ومغالطة الفتنة.

لذا على الإنسان أن يكون متعلما قارئا متدبرا باستمرار لكي يكون عالما علما حقيقيا، فيعرف ويفهم الاحداث التي قد توقعه في الشبهات المتلونة. وأن يحصل على المعلومات الصحيحة من مصادرها الحقيقية، ومع امتزاج المعلومات الصحيحة بالعلم الحقيقي يكون الانسان مثقفا وعالما وعارفا، فيصبح إيمانه صلدا ثابتا، لا تزعزعه الفتن والأحداث المشتبهة التي تمرّ عليه.

خطبة الزهراء (ع) وثيقة تاريخية عظيمة

إن السيدة الزهراء (عليها السلام) أرادت أن تضعنا في الطريق المستقيم بأن أضاءت لنا الطريق، حتى نفهم كيف نعيش بعد أن نفهم التاريخ الصحيح ونفهم الحقيقة المنبثقة عنه، ولا نجري وراء الباطل مهما كانت أسماؤه لامعة، ولا نجري وراء الكذب مهما كانت أفعاله صاخبة.

لكي لا نقع في الفتنة لابد أن نفهم الحقيقة من اجل ان نعرف الحق، من خلال أهل البيت (عليهم السلام)، نتعلم ذلك باستمرار، وان نتأمل أكثر في كلمات السيدة الزهراء (عليها السلام) وخطبتها العظيمة التي هي بحق وثيقة تاريخية عظيمة تبقى الى أبد الأجيال حقيقة ساطعة وحجة دامغة.

.........................................
(1) الاحتجاج - الشيخ الطبرسي - ج ١ - الصفحة ١٣٧.
(2) ان القضايا الوهمية الصرفة التي نسميها (الوهميات) هي عبارة عن احكام الوهم في المعاني المجردة عن الحسّ. وهي قضايا كاذبة لا ظل لها من الحقيقة ولكن بديهة الوهم لا تقبل سواها. ولذلك يستخدمها المغالط في اقيسته كما سيأتي في (صناعة المغالطة). الا ان العقل السليم من تأثير الوهم يتجرد عند ولا يخضع لحكمه فيكشف كذب احكامه للنفس.. انه لولا قلة التمييز وضعف الانتباه والقصور الذهني لما تحققت مغالطة ولما تمت لها صناعة.. ان تكون صورة القياس منتجة بأن تكون حاوية على شرائط الاشكال الاربعة. من ناحية الكم والكيف والجهة. فاذا كانت النتيجة كاذبة مع فرض صدق المقدمتين فلا بد ان يكون كذبها لفقد أحد الامور المتقدمة فيجب البحث عنه لكشف المغالطة فيه ان أراد تجنب الغلط والتخلص من المغالطة.(المنطق - الشيخ محمد رضا المظفر، الصفحة ٣٥١- ٤٧٧- ٤٩٩).
(3) الاحتجاج - الشيخ الطبرسي - ج ١ - الصفحة ١٤٤.
(4) نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع)، خطبة رقم 50.
(5) يحرم الإسراع إلى قيل الباطل، فإن الذهاب إلى الباطل محرم، والإسراع إليه أشد حرمة... قد يستفاد من كلام الصديقة الطاهرة (ع) ذم ظاهرة اجتماعية قد تكون عامة، وهي أن الناس عادة تسرع إلى الأقاويل الباطلة، ومنها الإشاعات المغرضة ضد المصلحين، فيتوجب على المرء الانتباه وأن لا يخدعه الجمهور، كما يتوجب على المصلح اليقظة والحذر والتخطيط لتلافي ذلك. (فقه الزهراء-آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي-ج 5-ص 217-219.
(6) (المغضية): إغضاء البصر بمعنى خفضه والنظر إلى الأرض، وهذا يستدعي عدم رؤية الإنسان أمامه، كما في قولـه تعالى: (قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ)، وقال عزوجل: (وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنّ). ولعل في قولـها (ع) القبيح تنبيهاً إلى أن غصب الإرث وفدك والكذب على الرسول (ص) وغصب الخلافة قبيح عقلاً قبل أن يكون قبيحاً شرعاً، فهو نوع من إثارة دفائن عقولـهم، ويتضــح ذلــك ممــا لــو كان التعبيـر بــ (الفعل المحرم) فهي بهذه الكلمة تحاول إثارة عقولـهم وفطرتهم، وبـ (الخاسر) تحاول ردعهم عبر التنبيه على الآثار. (فقه الزهراء-آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي-ج 5-ص 220.
(7) يحرم التأويل الشخصي للأمور الدينية على خلاف ما أمر الله ورسوله (ص) به، فإن هذا النوع من التأويل هو إحدى مكائد الشيطان وشباكه وبواباته نحو البدعة والضلالة، ومن ذلك يتضح حرمة كثير من تأويلات الصوفية والعرفاء والفلاسفة وأضرابهم للآيات والنصوص الشريفة، وكذلك تأويلات الظالمين والطغاة والمستكبرين لها، ومنها ما يحاولون به تثبيت حكومتهم على الناس كوجوب إطاعة ولي الأمر ـ وهو الحاكم عندهم فاسقاً كان أم عادلاً ـ مع أن المراد به هو المعصوم (ع)، إلى غير ذلك. قال تعالى: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ)، ومن أهم مصاديق التحريف هو حمله على غير المراد. وفي تفسير القمي: (وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) قولـها: «ولبئس ما تأولتم» أي: ما تطلبتم من التأويل لإبطال الحق وإحياء الباطل، أو آل إليه أمركم من ذلك. (فقه الزهراء-آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي-ج 5-ص 258.
(8) الاحتجاج - الشيخ الطبرسي - ج ١ - الصفحة ١٤٤.
(9) نهج البلاغة - حكم الإمام علي (ع)، حكمة رقم 198.
(10) نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع)، خطبة رقم 192، خطبة تسمى القاصعة.
(11) الكافي - الشيخ الكليني - ج ٢ - الصفحة ٢٢٥، النومة بضم النون وإسكان الواو وفتحها: الخامل الذكر الذي لا يؤبه له أي لا يبالي به. المذاييع جمع مذياع وهو من لا يكتم السر. والبذر بالضم: جمع البذور والبذير وهو النمام ومن لا يستطيع كتم سره.
(12) نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع)، خطبة رقم 183.
(13) نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع)، خطبة رقم 5.
(14) الغدير - الشيخ الأميني - ج ٢ - الصفحة ٣٠٠.
(15) نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع)، خطبة رقم 147.

اضف تعليق